نزار السامرائي
حكاية أحد مساءات أسير مفقود
لأننا محاصرون، بين شوق أبٍ لوليد تنفس الهواء وأبوه في غياهب سجن الظلمة، أو شاب عقد على حبيبة العمر فاختطفه الأسر قبل أن يفكر حتى بيوم العرس، أو ابن يحن لرؤية والديه بعد أن مزق القلق قلبيهما، وتعذيب منهجي مارسه معنا قتلة احترفوا التعذيب مهنة لهم، ولا يطيقون رؤية إنسان يفرح وهو في قلب الحصار، وجوعٍ مزمن فرضته اللجنة الإيرانية العليا لشؤون الأسرى العراقيين في إيران، وقطع مقصود عن العالم الخارجي والوطن والأهل، وزمن ممض في ساعاته الطويلة بلا أمل بخلاص سريع، كان لا بد لنا من البحث عن وسيلة نقهر ما خطط له العدو كمحاولة منه لزرع اليأس وفقدان الأمل، أذكر مرة أن علي خامنئي المرشد الحالي عندما كان رئيسا للجمهورية، سئل لماذا لا تمنحون الأسرى المقطوعين عن الوطن والأهل، فرصة للاطلاع على إعلامكم، فكان جوابه قاطعا، ذلك لن يحصل، لأن الأسرى يقلبون الأخبار ظهرا على عقب، فهم يحللون الأخبار على هواهم، فيصورون "انتصاراتنا في الجبهات بشكل مقلوب ويثقفون على أنها انتصارات للجيش العراقي على الجيش الإيراني والحرس الثوري والبسيج".
لهذا كنا نمضي أيامنا في فعاليات نختلق لها مناسبات، لا سيما وأننا في "الكمب" الذي استقطع من عمر بعضنا عشر سنين، ومن آخرين أقل من ذلك بقليل، ولكن معظمنا سرق الزمن من أعمارنا عشرين سنة أو أكثر بقليل، ويقال إن بعض الأسرى ما زالوا في سجون إيرانية لا تعرف الرحمة مع نزلائها، ولا تسأل عن جريرتهم ولا عن أعمارهم ولا عن اختصاصاتهم، ولا عن جنسياتهم، المهم أنهم "ضيوف ثقلاء، ألقى بهم الزمن الرديء بيد سجانين يعون جيدا أنهم يمكن أن يحصلوا على تلطيفات بقدر ما يسيئوا إلى ضيوفهم.
بسبب تنوع الاختصاصات والمهارات التي يمتلكها الأسرى، كنا نخصص من وقتنا وفي غفلة عن عيون من يكره أن يرى الأسرى قد خرقوا حواجز الوهم وراحوا يصنعون فرحا رغم أنوف الآسرين، وربما أعيدت القصص على مسامعنا مرات ومرات، وكأنها أفلام ملت من مشاهديها أكثر من مللهم منها، فكان الضابط الركن كبير الرتبة، يلقي علينا دروساً في العسكرية مقتبسة مما كان يدرسه في كلية الأركان، كنا سعداء بهذا النوع من الدروس، بسبب الجو العسكري الكامل الذي نعيشه في معسكراتنا المعاقبة نتيجة نوعية الأسرى الذي ألقوا فيها باختيار دقيق من دائرة استخبارات لجنة شؤون الأسرى العراقيين، وفي أحيان أخرى يتحدث واحد من أصحاب الاختصاصات الأكاديمية، مثل الهندسة أو الهندسة الزراعية أو الطب أو القانون والتجارب السياسية في العالم أو التاريخ والجغرافيا أو اللغات وغيرها عن اختصاصاتهم.
ولكننا كنا نشعر بتفاعل أكثر مع أدب الرحلات والسفر وأهم الأفلام السينمائية التي حولتها إلى رقوق سينمائية احتلت مكانتها من خلال جوائز الأوسكار التي حصلت عليها.
واحتلت قصص الذكريات الخاصة بما فيها التجارب العاطفية الناجحة والفاشلة على حد سواء، والحياة الأسرية للأسرى وعدد الأولاد وارتباط ذلك بالعمل العسكري وتأثيرات غياب الأب عن المنزل لأوقات تطول أو تقصر حتى في زمن السلم، وأثر ذلك في تربية الأولاد.
ذات يوم اقترحنا على بعض المتحدثين أن يقص علينا قصة أو أكثر عما حصل له أو مدينته، وكان الغرض التعرف عن كثب على الطبائع والتقاليد الاجتماعية، فالتقط الحديث أحد الأسرى من مدينة كانت تعيش فيها أعداد ليست قليلة من التبعية الإيرانية، ويطلق العراقيون على أبنائها لقب "عجم"، وسرد علينا قصة فيها تشخيص للشخصية الفارسية المجبولة على عناد فارغ فقال، في نهاية الخمسينيات أو بداية الستينيات لم أعد أذكر، وإذ كنا نرتاد أحد المقاهي الشعبية لقضاء وقت الفراغ الطويل، يلعب بعضنا لعبة النرد "الطاولي" وآخرون يلعبون لعبة الدومينو أو الورق، كان مشاهدو اللعب يتحمسون لهذا الطرف أو ذاك، ومرة تصاعد الجدل بين مواطن من مدينتي، يقول الراوي، وآخر من التبعية الإيرانية فتحول الجدال إلى "عركة" بينهما، حصل فيها الضرب بالأيدي والأرجل وكاد أن يتحول إلى الكراسي، وكان العراقي ذي بنية جسمانية قوية، فتمكن من صرع غريمه الإيراني، الذي سقط أرضا، فهب الجميع لفض النزاع، كما تفعل مختلف دول العالم هذه الأيام، لتخفيف التوتر بين إسرائيل وإيران، فاستجاب العراقي لنداءات مواطنيه ظانا أن الأمر قد انتهى عند هذا الحد، فنهض من فوق صدر خصمه، ولكن العجمي عض بأسنانه بقوة على طرف دشداشة العراقي بكل قوة، وكم حاول رواد المقهى من انتشال طرف الدشداشة من فك العجمي، ولكنهم أخفقوا في ذلك، فثارت أعصاب العراقي المعروف بسرعة الغضب، مقابل عناد العجمي، فسحب دشداشته من بين فكي العجمي بكل قوة، ولكن هذه السحبة القوية أدت إلى تمزيق الدشداشة التي يعتز بها العراقي لأنها جديدة ومن قماش راق ولم يلبسها إلا مرات معدودات، فكان على العراقي أن يغادر المقهى فورا بسبب ما لحق به من مفارقة لم تخطر له على بال، أظهرته أمام خصمه شبه عارٍ، ومما فاقم من غضبه أن العجمي راح يستعرض قوة فكوكه ويظهر نفسه بهيئة المنتصر في المنازلة، ويواصل سبابه وشتائمه للعراقي بلا توقف.
وفيما بعد بذلت محاولات للصلح بين الرجلين ولكنها باءت بالفشل، وأصبحت الحكاية محل تندر البعض من سكان الحي، وكانت تستدرج توترا في خصومتهما وخاصة عندما تستعيد فصولها، كلما مرت بخاطر واحد من رواد المقهى ولو على سبيل المزاح البريء، وفي ليلة من الليالي وإذ كان المقهى مكتظا بالرواد، بدأت نذر الشر بين الخصمين تتصاعد تدريجيا، كلمة من هنا وأخرى من هناك، وفرضت قصة الأمس نفسها في تلك الليلة على أجواء المقهى الذي حاول صاحبه منع الزبونين من ارتياد مقهاه من دون جدوى، فاشتد الجدال بينهما وارتفعت الأصوات عاليا، فقال العجمي للعراقي ألا تذكر كيف أرغمتك على أن تذهب إلى بيتك وأنت شبه عارٍ، فما كان من العراقي إلا أن يشتم الإيراني ويصفه بالعجمي الجبان القذر، فاستشاط الإيراني غضبا وفقد أعصابه وخاصة أن أحد أصدقائه كان يحضر معه إلى المقهى كلما جاء إليها ليقضي شطرا من الليل، فوقع الاشتباك، ولما رأى أن مواطنه يوشك أن يخسر الجولة هذه، صاح بصوت مسموع "لا لا لا تضربه بالنركيلة"، في حركة انفعالية لا تخلو من التحريض، ومع ذلك لم يسمح رواد المقهى من الوصول إلى النركيلة، ففشلت خطة التدخل السريع.
بعد تلك الليلة اتخذ مالك المقهى قرارا حازما بمنع العجمي من ارتياد مقهاه حفاظا على راحة رواده، وعلق على تلك الواقعة بالقول، أظن أن العجمي المثير للمشاكل لم يكن يعرف أن هناك نركيلة يمكن أن تستخدم كسلاح عابر للأشخاص كسلاح تفوق ميداني، ولكن هذا نوع مبتكر من اللجوء إلى سلاح ربما لم يستخدم قبلا.
1022 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع