د. سعد ناجي جواد
مسلسل الفواجع في العراق مستمر ولا من منقذ او مخرج.. مدينة الناصرية تنضم الى المناطق المنكوبة
في كل مرة احاول فيها ان ابتعد عن الكتابة عن مآسي العراق، ليقيني بان حالة البلاد قد وصلت الى طريق مسدود ومليء بالالغام والمطبات والعصابات التي تستهدف كل من يمر به، ولكني في النهاية اجد نفسي منساقا للكتابة بسبب كارثة اليمة من الكوارث. يوم امس ودعت مدينة شامخة عراقية جديدة ما يقرب من 100 شهيد ذهبوا مرة اخرى نتيجة الاهمال والفساد الذي استشرى في البلاد من شمالها الى جنوبها، ولاتزال اعدادا اخرى تصارع الموت. وليست هذه المدينة المنكوبة كسواها من المدن، فهي مهد حضارة العراق ومدينة الادباء والشعراء والسياسيين والفنانين الكبار، ومنبع الثوار الذي لا ينضب، انها مدينة الناصرية العريقة. ويبقى على العراقيين ان يعيشوا كما قال المتنبي:
واحتمال الاذى ورؤية جانيه
غذاء تضوى به الاجسام
نعم يحتملون الاذى ويرون جانيه امامهم كل يوم يتبختر ويزهو وهو يسرق ثرواتهم ويقتل ابنائهم بدون اي وجل او حياء..
مرة اخرى تُنكَب مدينة عراقية بطريقة بشعة ولا يوجد رد حكومي حقيقي على هذه الكارثة سوى العبارة المقيتة والمكررة والتي لا تُزيد ولا تُنقص (أمر السيد رئيس الوزراء بتشكيل لجنة تحقيقية)، لجنة ستضاف الى مئات بل الاف اللجان التي شكلت بعد كل جريمة او نكبة، ولا احد يعرف نتائج تحقيقات هذه اللجان، هذا ان كانت هناك حقا تحقيقات.
مرة اخرى تُنكَب مدينة حبيبة على قلوب العراقيين ولا تهتز غيرة (السياسيين) من اعلى الهرم الحاكم الى اسفله، ولا يبادرون الى الاعتذار وتقديم استقالاتهم. لا بل نقل عن احد النواب الذين يمثلون المحافظة المنكوبة في البرلمان، هذه المؤسسة التي لا صلة لها ولغالبية اعضاؤها بالعمل البرلماني، انه رفض ان يظهر في لقاء تلفزيوني يتحدث فيه عن الكارثة، والسبب هو ان النائب مقبل على انتخابات وانه يخشى ان يخسر في الحفاظ على (مقعده) البرلماني اذا فشل في الاجابة بصراحة عن اسباب الكارثة. ونقل عنه بالحرف الواحد انه قال: (اخاف ان اسقط في الانتخابات القادمة)، وهو لا يدري، على حد قول احد المعلقين المخلصين، بانه سقط في نظر العراقيين منذ زمن بعيد.
مما يزيد في الالم ان كل الاطراف والمسؤولين التي وُجهِت لهم اصابع الاتهام من قبل المتظاهرين الغاضبين مازالوا في مناصبهم، وقياداتهم تدافع عنهم، لانهم اثبتوا انهم حققوا مردودات مادية كبيرة لكتلهم. ونفس الامر يسري على مسالة اختيار وزيرا للصحة بدلا عن الوزير السابق الذي اضطر للتواري عن المشهد السياسي قبل شهرين ونصف بسبب كارثة اخرى مشابهة في مستشفى ابن الخطيب في بغداد، وبدون اية محاسبة، شانه شان كل الفاسدين الذين سبقوه. وتصوروا ان في بلد مثل العراق العظيم لا يستطيع رئيس الوزراء ان يختار وزيرا كفؤا للصحة، والسبب لان الكتل المتنافسة لم تتفق على مرشح، والسبب الاهم ان الكتلة التي تعتبر وزارة الصحة من حصتها ترفض ان تقبل ان يعين وزيرا من خارجها، لان اي وزير من غير اتباعها سوف يبادر الى ايقاف المنافع التي تحصل عليها الكتلة، وفي الغالب سيعمد اي وزير جديد على تغيير الكوادر الفاسدة التابعة للكتلة الاخرى بكوادر تابعة لكتلته، وربما تكون اكثر فسادا من التي سبقها، هكذا هو نظام العمل في الوزارات العراقية منذ بداية الاحتلال. نقل عن وزراء صحة سابقين من المستقلين قصصا تكاد تكون خيالية عن حجم الاجرام والفساد في وزارة الصحة. فاحدهم، والذي تم تهديده بالسلاح اثناء قيامه بواجبه الرسمي لأنه رفض ان يمنح عقدا فاسدا لاحد افراد الكتلة المهيمنة على وزارته، اطلع شخصا زاره في مكتبه على اجهزة التسجيل والمراقبة التي زرعت في غرفته من قبل كوادر الكتلة المسيطرة على الوزارة لمنعه من اتخاذ اي قرار ضدها او ضد مصالحها. ولما اشتكى الى رئيس الوزراء اخبره ان يتدبر الامر بنفسه! واخر قال ان ميزانية الوزارة تسرق بشكل منظم ويتم نقل اجزاء كبيرة منها بالسيارات الى دولة مجاورة. وعندما حاول منع هذه الحالة هدده مسؤول من الدولة المجاورة بانه لن يبقيه في منصبه، وبالفعل نجح في ذلك. وبالنتيجة فانه لا يذهب من مخصصات الوزارة سوى الفتات لتحسين الواقع الصحي، والباقي يذهب الى ابواب الفساد وجيوب الفاسدين. وتصوروا ايضا ان بلدا كالعراق كرمته منظمة الصحة العالمية في السبعينيات من القرن الماضي معتبرة اياه افضل بلد في الشرق الاوسط في مجال تقديم الخدمات الصحية لمواطنيه، يصبح الان عاجزا ليس فقط عن تقديم ابسط الخدمات الصحية، وانما يعجز حتى عن حماية المواطنين الذين يلجئون الى المستشفيات للعلاج. ربما هذا الكلام لن يعجب البعض، ولكن ذكره هو لإثبات القدرات والكفاءات الطبية العراقية التي استطاعت تحقيق ذلك.
من يراجع تصريحات المسؤولين بعد كل كارثة يجدها متطابقة، (فتحنا تحقيقا، سينال المقصرين العقاب الذي يستحقونه، سنطاردهم ونودعهم السجون)، الى غير ذلك من الكلمات الجوفاء التي لا تُغني ولا تُسمن من جوع. والسبب لانهم جميعا مهتمين (بالانتخابات القادمة) اكثر من اهتمامهم بمعاناة الناس والانقطاع الكامل للتيار الكهربائي وشحة المياه في هذا الصيف اللاهب.
لم يمر العراق الحديث بفترة من الانحطاط كالتي مر ويمر بها من بداية الاحتلال ولحد اليوم. كل الانظمة السابقة، الملكية منها والجمهورية، ورغم كل الدرجات المختلفة من الملاحظات على ساستها والانتقادات على ادائها، الا انها كانت تحاول ان تبني وتقدم الخدمات للمواطنين، الا الانظمة التي جاءت بعد الاحتلال. في حوار معبر بين اثنين من البرلمانيين العراقيين، الاول عربي والثاني كردي، قال الاول للثاني انتم زمرة من الفاسدين تسلطتم على رقاب الشعب الكردي، فأجابه الثاني قائلا نعم نحن فاسدون، نسرق ونبني، وسياسيكم يسرقون كل شيء ولا يبنون شيئا.
ربما افضل امنية يمكن ان تختتم بها هذا الكلمات القول لقد آن الاوان لكي تنقشع هذه الزمر الفاسدة من كل الاطياف والاتجاهات والمكونات، لان لا خلاص للعراق والعراقيين الا بهذا الحل. الا ان واقع الحال يقول ان هذه المسالة المطلوبة، وفي ظل المعطيات الموجودة، صعبة المنال، ولسبب بسيط ان من احتل العراق ودمره، ومن استفاد من هذا التدمير وجعله سبيلا لاستنزاف العراق، هو من اراد ولا يزال يريد ان يرى العراق بهذه الصورة والحالة المتردية. هناك من يقول ان مسلسل الحرائق وتدمير المنشئات الكهربائية وغيرها، سيستمر لانه جزءا من الصراعات والتسقيطات السياسية قبل الانتخابات، وهنا طرف متشائم ثالث يقول ان الفاسدين الذين يحكمون العراق قد ايقنوا ان نهايتهم قد دنت وبالتالي فانهم مصممون على احراق العراق قبل ان يتركوه ويذهبوا الى الدول التي خزنوا فيها ما سرقوه من السحت الحرام. وهناك طرف رابع يؤكد ان حريق مستشفى الناصرية افتُعِلَ لكي يغطي على حريق كبير اخر حدث في مقر وزارة الصحة في بغداد قبل ايام من حريق الناصرية، اتى على وثائق وسجلات فيها من الفساد والسرقة ما فيها، وفي كل الاحوال وفي المحصلة النهائية يبقى الشعب العراقي بغالبيته المتضرر الوحيد من هذه الحالة المزرية.
لقد ثبت بما لا يقبل الشك ان ما بين سبعمائة مليار وترليون دولار من موارد العراق النفطية قد اهدرت منذ بداية الاحتلال ولحد الساعة، وهكذا مبلغ هائل كان يمكن ان يبني بلدا مثاليا وعصريا ومتطورا. ومع ذلك فان العراقيين مازالوا يعيشون بدون كهرباء ولا ماء صالح للشرب ولا حصة تموينية تسد رمق الغالبية العظمى من الناس ولا رعاية صحية ولا قوات نظامية قادرة على حماية الارواح والممتلكات ولا جيش قادر على حماية حدود البلاد ويوقف تمدد المنظمات الارهابية او الفصائل المسلحة التي لا تخضع للدولة. اضف الى ذلك الاعداد المتزايدة من الشباب المتظاهرين الذين يقتلون او يغيبون او يتم ارعابهم يوميا لا لسبب سوى لانهم يرفضون الحال المزري الذي يعيشونه ويطالبون بمحاربة الفساد ومحاسبة قتلة المتظاهرين. كل هذا والمجتمع الدولي الذي ادعى بانه (سيحرر) العراق ويجعل منه نموذجا للتطور والديمقراطية والرفاه الاقتصادي واحترام حقوق الانسان يقف متفرجا.
وانت يا ناصرية الابطال فعلى عاتقك الان يقع مستقبل العراق كله، لانك بأبنائك الابطال وبثوارك الثابتين على العهد منذ تشرين 2019 ولحد الان، ترسمين الطريق الافضل لتعديل العملية السياسية الخاطئة التي فرضت على العراق منذ عام 2003. وابناءك هم الاقدر على فضح الوجوه والكتل الفاسدة، وتنظيف البلاد من الوجوه الكالحة التي هيمنت على الساحة السياسية والاجتماعية طوال الفترة الماضية. الرحمة لارواح الشهداء من ابناءك، والدعاء بالشفاء لجرحاك، (وبشر الصابرين الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا اليه راجعون) صدق الله العظيم.
902 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع