سحبان فيصل محجوب – مهندس استشاري
مقاييس الطاقة والتنين الصيني
(صنع في الصين) أو (Made in china) عبارة تلصق على المنتجات الصناعية الصينية التي انتشرت في أرجاء العالم كافة، فالتنين الصيني استطاع إحراز المرتبة الأولى في سباقه مع الدول الصناعية الكبرى، حسب ما مثبت في الاحصائيات العالمية الخاصة بالصناعة والتجارة الدولية.
لا أريد، هنا، الحديث عن الصناعات الصينية والخوض في زواياها المثيرة للكثير من التساؤلات، فالمعروف إن الصينيين تمكنوا من تصنيع (الإبرة حتى الصاروخ)، كما يقال، ويعتمد مقدار جودة ما ينتجونه على ما يدفعه المستهلك من مال، فالكثير من الجهات المصنعة في الصين تهدف إلى حجم مبيعات عالٍ وذلك بترويجها لمنتجات متدنية الجودة بأثمان ضعيفة.
مع بدايات بناء المنظومة الكهربائية العراقية حرص المعنيون في قطاع الكهرباء على اختيار المستورد من المعدات والأجهزة المختلفة بمواصفات فنية متقدمة (عالية الجودة) ومن مناشئ عالمية معروفة واستمر ذلك الى العام ١٩٩١ عندما تم تطبيق إجراءات الحصار الاقتصادي الذي كبل حرية المؤسسات العراقية في اختيار السلع والمواد المختلفة والمستوردة لتأمين متطلبات العمل، وعند الشروع بتطبيق بنود مذكرة التفاهم العام ١٩٩٦م والتي بموجبها اتفق العراق مع الأمم المتحدة على تخصيص مبالغ محددة من عوائد تصديره النفط لتأمين استيراد جزءٍ من حاجاته للدواء والغذاء وكذلك السلع الضرورية للقطاعات الخدمية المختلفة، أصدرت الجهة العراقية المشرفة على تنفيذ المذكرة تعليمات مركزية ملزمة للمعنيين في المؤسسات الحكومية تمنح الأفضلية لدول محددة في تأمين احتياجات هذه المؤسسات وعلى وفق المواقف السياسية لهذه الدول حيث كانت الصين إحدى تلك الدول وهي تقع ضمن محاولات تشجيع الدول الأخرى لإعلان مواقف مساندة للعراق باتجاه تخفيف إجراءات الحصار المفروض عليه، آنذاك، مع الأخذ بنظر الاعتبار المنافسة السعرية لها.
كان لقطاع الكهرباء المنهك بفعل تداعيات الحصار القاسية نصيبه من تخصيصات هذه المذكرة كما لغيره من قطاعات الدولة الأخرى، حيث وضعت جداول على وفق معايير الاولوية في أهمية تأمين الكثير من متطلبات العمل الضرورية لإدامة عمل المنظومة الكهربائية بوساطة استيرادها من الخارج وفي مجالات التوليد والنقل والتوزيع والذي وضعت الدوائر المعنية فيه ضرورة توفير المقاييس المنزلية للطاقة الكهربائية ضمن الأولويات الواجب تأمينها للحد من الارتفاع الملحوظ في نسبة الضياعات الكهربائية في شبكات التوزيع وللحد من حالات الربط المباشر (التغذية الكهربائية للمرافق من دون ربط مقاييس طاقة) والتي تم اللجوء إليها لعدم توافر المقاييس في مخازن دوائر الكهرباء، آنذاك، والتي كانت أحد أسباب الهدر الحاصل في حسابات الطاقة المجهزة إثر التقديرات الخاطئة أحياناً والتي قد تخضع لمزاجية العاملين في قطاع القراءة والجباية، أسندت مهمة استيراد مليون مقياس كهرباء منزلي إلى الشركة العامة لتوزيع كهرباء بغداد، وكنت، حينها، مديرها العام، حيث حددت الدائرة الفنية المعنية بصياغة الشروط الفنية أنواع المقاييس المطلوبة وعلى وفق حاجة دوائر الكهرباء في بغداد والمحافظات لها وتم الاعلان عن مناقصة تجهيزها، استحوذت إحدى الشركات الصينية على موقع الصدارة في منافستها السعرية وتوافر الشروط الفنية المطلوبة كافة في عرضها المقدم لتنفيذ هذه المناقصة متقدمة بذلك على الشركات المتنافسة صاحبة العروض الأخرى فكان هذا وراء إقرار الاحالة عليها.
أثيرت، في حينها، المخاوف تجاه تنفيذ هذه المناقصة فالمقاييس ذات المنشأ الصيني لم يسبق استعمالها ضمن مكونات شبكة التوزيع الكهربائية في العراق الذي يمتاز بظروف مناخية خاصة، ووضعت الشكوك في تقبل المواطن لها لتكون الحاكمة في احتساب كمية الطاقة الكهربائية المجهزة له، هنا تعمدت والعاملين معي وضع الكثير من شروط الإذعان القاسية بمضمونها أمام الشركة الصينية التي لم تمتنع عن قبولها في تنفيذ المناقصة واستجابت لها بثقة عالية.
نفذت المناقصة وحصل ما توقعنا عندما توالت الشكاوى الخاصة باحتساب مبالغ أجور الكهرباء بوساطة هذه المقاييس في أول إصدار لقوائمها بعد ربطها حيث لم تجد محاولات إقناع المواطنين المعترضين بصلاحية المقياس الصيني الجديد ودقته، كان المواطنون يصرون على إنه يضيف وحدات كهربائية زيادةً عما استهلكوه، فيعرضون قوائم كهرباء سابقة (قبل ربط المقياس) ويقارنونها مع القوائم التي أصدرت بعد الربط وكيف أصبحت مبالغها مضاعفة وأكثر بالرغم من عدم إضافتهم لأي نوع من الأجهزة الكهربائية في استخداماتهم المنزلية.
هذه إحدى الحالات التي فرضتها إجراءات الحصار الاقتصادي على العراق منذ سنة ١٩٩١ حتى سنة الاحتلال ٢٠٠٣ عندما اضطرت الكثير من المؤسسات الحكومية العراقية الى التجاوز على رغبة زبائنها وإجبارهم على اقتناء بضاعة لا يفضلونها، فأحدثت شرخاً واضحاً في مستوى الثقة المطلوب بين الكثير من المواطنين وإحدى المؤسسات الخدمية المهمة (الكهرباء).
والآن، وبعد رفع الحصار وقيوده القاسية هل اتجهت هذه المؤسسات إلى توفير السلع والمهمات التي تناغم رغبات المواطن العراقي ليكون بمستوى الرضا على أدائها للخدمات المقدمة اليه وفي المجالات كافة؟
768 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع