داود البصري
في ذاكرة العمل الوطني العراقي ثمة رموز وطنية شاخصة لعبت أدوارا تاريخية ومفصلية في النضال ضد الفاشية و الإستبداد ، وهي رموز ضحت بالغالي و النفيس و أتسم تحركها بالروح الوطنية الجامعة المانعة و المتعالية على العرقية و الطائفية و العنصرية و الرافضة لأي شكل من أشكال التمييز و التقسيم و الإنشطار ،
في عقد الثمانينيات من القرن الماضي كانت المعارضة العراقية بمختلف فصائلها تمر بأعقد مرحلة من تاريخها ، إتسمت تلك المرحلة بالضعف و التشتت بعد أن تلقت ضربات قاصمة من نظام صدام حسين ، إبتدأ بإضعاف القوى القومية و تشريدها من خلال حملة إعدامات طالت حتى القيادات البعثية التي كان جناح صدام حسين في الحزب يشك بولائها ! ، كما كانت مرحلة السبعينيات فد أنهت و أضعفت الأحزاب القومية العربية الأخرى من ناصرية وغيرها ، كما أن الشيوعيين العراقيين ورغم مهادنتهم لنظام البعث منذ عام 1973 ودخولهم في تحالف جبهوي معه ضمن إطار ( الجبهة الوطنية التقدمية )! ، إلا أن ذلك لم يمنع السلطة من توجيه ضرباتها الساحقة للقواعد الحزبية الشيوعية فيما سمحت للقيادة الشيوعية بالهرب و التواري أواخر عام 1978 وحيث إتخذت من دمشق و موسكو وبراغ و كردستان العراق كقواعد بديلة لها ، وجاء عام 1979 ليشهد صعود قوي لسلطة صدام حسين بعد إقالة الرئيس السابق أحمد حسن البكر و إعدام 22 قيادي بعثي على خلفية مؤامرة وهمية ليس لها وجود ، لينفرد صدام بالسلطة ويوجه ضرباته القوية جدا ضد جماعات الأحزاب الدينية التي دعمتها السلطة الثورية الجديدة في إيران عام 1979 ثم إعلان الحرب على إيران في 22 أيلول/ سبتمبر 1980 وهي مرحلة من أشد مراحل التاريخ العراقي المعاصر غموضا وخططا سرية و ترتيبات سلطوية و إقليمية لم تكشف العديد من اوراقها بعد... المهم لقد أضحت الساحة الداخلية في العراق خالية تماما من أية معارضة حقيقية وقوية ، وكان سماع صوت معارض في الخارج من الحالات النادرة فأيادي النظام الأمنية إمتدت داخليا وخارجيا في ظل توافق و مساعدة إقليمية أمنية ومع أجواء حرب الخليج الأولى التي رسمت حدودا دموية مرعبة ، فأنزوت المعارضة العراقية و أختلفت فيما بينها بشأن التعامل مع المواقف المستجدة ، فالجماعات الشيعية مثلا كانت تراهن على هزيمة العراق و إنتصار إيران في الحرب و إحتلال العراق كثمن لتحقيق هدف قيام الجمهورية الإسلامية في العراق تحت راية الخميني!! هكذا كان يعلن أهل الدعوة و المجلس الأعلى و منظمة العمل و جماعة العلماء المجاهدين وغيرهم! ، بينما رفضت الجماعات القومية الحرب وكل ما يصدر عنها ، فيما طالب الحزب الشيوعي العراقي بوقف الحرب العبثية و إقامة الديمقراطية في العراق و الحكم الذاتي في كردستان! ، ووسط هذه المعمعة نشأ تيار سياسي جديد هو التيار الليبرالي العراقي ممثلا في ( حزب الأمة الجديد ) الذي أسسه السياسي ورجل الأعمال العراقي المعروف سعد صالح جبر عام 1983 و أصدر أقدم و أول صحيفة دولية للمعارضة العراقية الليبرالية هي صحيفة ( التيار ) في لندن ، وقتذاك كان سعد صالح جبر وهو إبن لرئيس وزراء عراقي سابق و شهير وهو المرحوم صالح جبر ، كما أنه كان وكيلا عاما لشركة جنرال موتورز في الشرق الأوسط وله علاقاته الدولية و الإقليمية الواسعة جدا مع زعامات وقيادات عربية ودولية أقول كان سعد صالح جبر وقتذاك ماليء الدنيا و شاغل الناس ، وبرز سياسيا في وقت عراقي عصيب تميز بالتشتت و الفوضى و الحيرة ، فكان سعد ملاذا لكل العراقيين بغض النظر عن طائفتهم و توجهاتهم الفكرية ، وكان بثروته يمول العديد من الأسماء المعارضة و التي برزت بعد حين مثل محمد بحر العلوم ، ومهدي الحكيم ، وحسين هادي الصدر ، وغيرهم الكثير كما كان بيته محجا لجميع العراقيين على إختلاف أهوائهم و مشاربهم بل أنه و من أجل المعارضة العراقية صرف ثروة مالية كبيرة تقدر بعشرين مليون دولار بأسعار ثمانينيات القرن الماضي وهو مبلغ كان يكفي لشراء نصف بغداد!، و مع ذلك فقد أهمل القوم اليوم ذكره و تناسوه بالكامل وكل ماحصل عليه بعد رحلة العمل و النضال الوطني المريرة هو بيت بالقرب من الجسر المعلق في المنطقة الخضراء هو أصلا ملكا للدولة العراقية وحيث يتبجح الطارئون و الجهلة من الطبقة الحاكمة اليوم بكونهم قد أكرموا سعدا وهو الذي باع قصره في الريف البريطاني و طائرته الخاصة وسيارات الرولز رايس من أجل المعارضة العراقية التي كانت خائفة و مرعوبة بينما كان سعدا يتحدى صدام علانية وجهارا فيما كل أبطال المنطقة البغدادية الخضراء بما فيهم رئيسهم المالكي يعيشون الذعر و يتخفون تحت الأسماء المستعارة و يتنقلون و يتحركون في الظلام ، وحده سعد صالح جبر الذي شكل بعد غزو الكويت ( المجلس العراقي الحر ) و أصدر التيار الجديد ثم صحيفة ( العراق الحر ) التي إستمرت بالصدور حتى سقوط صدام حسين ، وللأسف الشديد فقد كان لمرض السيد سعد صالح جبر في بداية الألفية الثالثة دور مهم في تراجع دوره وفي إنتكاسة التيار الليبرالي في العراق أيضا ، لقد تعرض ذلك المناضل الوطني لطعنات غدر من قبل العديد من العناصر التي عملت تحت رايته وعطفه ونالت من خيراته ما نالت من أمثال عبد الحليم الرهيمي وغيره من الإنتهازيين و ماسحي الجوخ المعروفين في العراق ، واليوم حيث يعيش سعد مريضا و معزولا يعامل معاملة غير لائقة من قبل مكتب رئيس الوزراء الذي يتجاهل تماما كل نداءات الإحتياج للرعاية و العناية و توفير المستلزمات اللوجستية لعناصر حماية الأستاذ سعد صالح جبر الذي كان في قمة الكرم على معارضي الماضي الذين ردوا له الجميل بعد ان تحولوا لحكام بقوة الحذاء الأمريكي الثقيل على شكل إهمال و تقتير و تقصير فظيع ، سعد صالح جبر وهو في شيخوخته يمثل مدرسة وطنية عراقية شامخة و أصيلة لم تنكس رايتها و لم تخضع لأي طرف وكان وهو في صحته يتحرك على جميع الأصعدة داخليا وخارجيا وبما كان يشكل أرقا للنظام الصدامي الذي كان ، لقد تنكر لصوص السياسة وسارقي الكفاح لذلك الرمز الأصيل الذي لم تنل منه أبدا ظروف المرض و العزلة ، وسيظل في الذاكرة الوطنية هرما وطنيا شامخا يسجل له التاريخ كل خدماته و تضحياته ، فالطارئون في العراق اليوم هم حالة مؤقتة ستتلاشى ريحهم قريبا ، من الصعب الحديث في مقالة واحدة عن تاريخ و تضحيات رمز من رموز المعارضة العراقية السابقة ، وسنعود في مقالات لاحقة لتفصيلات أكثر و لإعادة تذكير بمشاهد و أحداث لم تتح للكثيرين فرصة الإطلاع عليها ، فتدوين تاريخ النضال الوطني العراقي هو مهمة مقدسة لا تحتمل التأجيل...
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
896 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع