الاستاذ الدكتور عبدالرزاق محمد الدليمي
شتان مابين هذا النظام المعوق وغيره !!
تبني الانظمة المحترمة أساسها وشرعيتها على عدد من المقومات من ابرزها وجود احزاب سياسية تسهم بشكل حقيقي وفعال في بناء التجربة الديمقراطية اضافة الى كونها الضمانة الصلبة لحماية الحقوق المدنية والحريات العامة في المجتمع . الا ان هذه الظاهرة الايجابية في كثير من المجتمعات لاتبدو كذلك في العراق المحتل حيث فشلت الاحزاب وتحديدا المتأسلمة المهيمنة على النظام الفاسد الذي زرعته دول الاحتلال في العراق وكانت وستبقى تعاني من أزمات حقيقية وهذا ما انعكس بشكل كارثي على كينونة الدولة العراقية لان المجموعة التي تهيمن على هذه الاحزاب لاتمتلك اية قناعة بضرورة العمل على أساس جماهيري وطني ويلاحظ ان هذه المجموعة المتخلفة ركنت طيلة ال 18 عام السوداء من تاريخ العراق المعاصر إلى اتباع اسلوب المناورات والحركات المرتجلة وردود الافعال التي تمليها الظروف الطارئة على الوضع القائم ، دون تفكير فيما تجره هذه التصرفات من مساوئ ، وما تؤديه من نتائ وخيمة تضرب حياة الدولة في صميمها ، معتمدين على قناعاتهم الشخصية الخاطئه في إجراء هذه المناورات .
كما إن عددا كبيرا من القتله وشذاذ الافاق اتخذوا من السياسة كحرفة ووسيلة للعيش ، وسبيلا للارتزاق،ولهذا لم تكن لديهم اية خطة لسيرهم،ولم يحددوا هدفا لإعمالهم آلهم الا سرقة المال العام وجرائم القتل بحق كل من يعتقدون انه يقف ضدهم،فهم بالطبع بعيدون عن النظم الحزبية،التي توجب تركيز فعاليتهم في حدود مبادئ الجهة السياسية ،وإلزام أنفسهم بمقرراتها. ولاحظنا كيف المصالح المادية وغريزة السلطة والتسلط جعلت من بعضهم عدو وخصما للبعض الاخر رغم انهم كانوا منخرطين في حزب واحد، فهم سرعان ما ينقلبون على بعضهم ، إذا ما لاح لهم في غيره نفع أعم ، أو مغنم أوسع ، كما أنهم على أتم استعداد للتبرئ من الجهة الحزبية حين تعود عليهم بأقل الضرر.
وتأسيسا على ذلك لاحظنا ضعف ثقة الشعب في هذه التنظيمات المتأسلمة وهناك قناعات بأن عدد من هذه التنظيمات مدعومة منذ تأسيسها من جهات اجنبية، ولذلك يتركزعملها بكل قوة على إحباط كل مسعى وطني ممكن ان يخدم البلاد،لأنها ترى فيه شبح المقاومة المنظمة التي تتعبها وتحول دون تحقيق كثير من أهدافها وهذا ما برز واضحا بعد نيسان عام 2003 ، بل زادت حدة وتعقيدا ، لاسيما عند تسلط نظام يقوم على المحاصصة السياسية وما رافقه من سلبيات ومشاكل عدة منها ذلك إن كثيرا من هذه الأحزاب بلا برنامج سياسي واضح تلتف حوله الجماهير وتشعر انه يحقق مصالحها. كما إن هدف هذه الأحزاب هو امتلاك السلطة لا خدمة الشعب فهي تجري خلف الكراسي ، بدلا من أن تأتيها الكراسي كاستحقاق ، وبصرف النظر عن من يمنح الكرسي أو كيف يتم الحصول عليه.
والاخطر من ذلك إنها أحزاب طوائف وقوميات ومناطق وفئات لا علاقة لها بالوطن والمواطن ورسخت منذ الاحتلال ثقافة الإقصاء والنبذ والتهميش وخلق الأزمات في الخطاب المتبادل بين هذه الأحزاب بدلا من ثقافة الحوار وتقبل الرأي والاجتماع على قواسم وطنية مشتركة ،سيادة نزعة الزعامة والقيادة الفردية في هذه الأحزاب ، إذ تجد أنها تستمد وجودها من الانتماء لشخصيات محددة أكثر مما تستمده من برنامجها السياسي فهي قائمة على الولاء لهذه الشخصيات بدلا من الولاء للوطن ، كما إن بعضها يمثل أحزابا نخبوية وليست أحزابا جماهيرية، فيحاول تلافي هذا العيب بوسائل مختلفة لا تمت للعمل الحزبي بصلة ،في حقيقة الامر أنها أحزاب مسؤولة عن تحقيق الاهداف الذي عجزت عنه كل المؤامرات الخارجية ألا وهو تقسيم العراق فعلا أو واقعا ناهيك عن ابتعادها عن فهم واستيعاب حاجات الشعب العراقي وترسيخ الهوية العراقية الموحدة من خلال تأكيد روح المواطنة وتغليبها على الولاءات الضيقة ،وحفظ سيادة واستقلال العراق وحماية وحدته الوطنية، وتأهيل الدولة العراقية لتأخذ موقعها الطبيعي إقليميا ودوليا والنهوض بالواقع الاقتصادي العراقي ، من خلال تطوير قطاعات الزراعة والصناعة والتجارة ، ووضع نظام مالي صحيح يحقق توزيع عادل للثروة ، والتخلص من آفة البطالة الموجودة في قطاع العمل، الارتقاء بالوعي السياسي للفرد العراقي ، بشكل يقود إلى نبذ العنف والإرهاب ، وتغليب الحوار والتسامح والقبول بالحلول الوسط والتوجه نحو معالجة الفساد المالي والإداري الذي اصبح العراق يمثل مراتب متقدمة عالميا إلى جنب ماينمار والصومال كما اصبحت المطالبة بحماية حقوق الإنسان العراقي وحرياته شئ من الترف الفكري، بل ان الحكومات المتعاقبة منذ الاحتلال مارست عمليات انتهاكها بشكل محترف وبمختلف مسمياتها.
ان المطلوب من القوى المناهضة للاحتلال و للعملية السياسية الفاشلة تركيز الجهود على إعادة الاعتبار للرأي العام العراقي ولدوره في الساحة السياسية العراقية بعدما ثبت للقاصي والداني فشل جميع الاحزاب سواء كانت علمانية ودينية فشلا ذريعا ذلك الفشل الذي لم يفاجئ احد منهم ، بل كان امرا حتميا متوقع مسبقا ، بل الملفت ان الحديث عن فشلها وفسادها اصبح عادة لدى العراقيين بكل شرائحهم يتندرون بها في مجالسهم ومنتدياتهم.
إن بقاء هذا الانطباع الشعبي السلبي عن هذه الأحزاب في العراق لا يمكن ان يعتمد عليه لبناء دولة حديثة أساسها الثقة المتبادلة بين الشعب ورجال السياسة والحكم ، كما أن تغيير هكذا الانطباع لا يكون بشعارات رنانة وخطط تنموية موضوعه على الورق ، وإنما يحتاج إلى وقت ، وجهد مخلص ، ورجال أكفاء صادقين ، وبرامج تأهيلية وتطويرية صحيحة . فالأحزاب السياسية القائمة فشلت بإقناع الرأي العام العراقي بأمكانية ان يكون لها دور في بناء الوطن أوخدمة المواطن ، او بناء دولة قوة حقيقية لا دولة كارتونية أي الدولة التي تقوم بالوظائف والأهداف المختلفة ..الدولة التي تقوم على تخطيط وتنفيذ سياساتها وفرض القوانين بإنصاف وشفافية ،الدولة القوية المؤسساتية القادرةعلى صياغة وتنفيذ السياسات ، وسن القوانين المختلفة ، والإدارة الكفوءة القادرة على محاربة الفساد والابتزاز والرشوة ، وعلى الحفاظ على مستوى عال من الشفافية والمحاسبة في المؤسسات الحكومية ، وفرض وتنفيذ القوانين لا دوله ضعيفة وفاشلة كما حالها في العراق اليوم التي تعجز عن تنفيذ ابسط المهام والوظائف التي يجب ان تضطلع بها.
إن الحديث عن هذه الحقائق التي تحيط بنظام الحكم في العراق المحتل يجعل المواطن العراقي البسيط يشعر بمزيد من الحنق والغضب بما يواجهه من مظاهر التقييد والتعقيد والبيروقراطية في حياته اليومية ، وانه يعيش في دولة ضعيفة محدودة القدرة ، وفاشلة في القيام بأبسط مهامها ووظائفها .
ان الذي يزيد المواطن العراقي حنقا وحقدا وكراهية على النظام الاحتلالي ادراكه ان سياسيي الغفلة لا يشعرون بالمسؤولية ولا بالخجل عن معاناة العراقيين منذ 18 عاما والادهى من ذلك هو تعود المواطن على الاكاذيب التي يخرج بها السياسيين كل يوم بخطاباتهم المعهودة التي تعد ببناء دولة قوية مقتدرة دون أن يكون لهذه الخطابات أي رصيد على ارض الواقع كما انهم لا يخجلوا عندما يتحدثون جميعهم من خلال وسائل الاعلام عن محاربتهم للفساد والفاسدين الى درجة ان المواطن العراقي اصبح في شك من امره ان يكون هو المتهم بالفساد وليس السياسيين.
ان على الأطراف السياسية العراقية الجديدة الرافضة للنظام السياسي الاحتلالي القائم ان تركز جهدها الفكري والتنظيمي على تقديم مشاريع حقيقية لبناء دولة حضارية قوية مقتدرة بمؤسسات فاعلة ، دولة يمكن أن يعترف العالم بنجاحها ، ويتعامل معها على هذا الأساس ، دوله تبتعد عن التقييد والتعقيد والبيروقراطية في مؤسساتها ، تواجه بالعلم مشاكل الفقر والمرض الإرهاب والأمن ،ولكي تحقق النجاح في عملها السياسي ، لابد لها من اعتماد آليات أو ثوابت عمل اخلاقية صحيحة ومناسبة للظروف والتحديات التاريخية الذي يعيشها العراق ، والابتعاد كليا عن الاساليب التي اعتمدتها الاحزاب التي دمرت العراق من الحيل والخداع والمكر والهيمنة والاستيلاء على السلطة بعيدا عن حياة الناس ومصالحهم وحقوقهم ومستقبلهم بل انهم يعتبرون كل ما موجود في العراق انما هي أدوات يتلاعب بها السياسيين للوصول إلى غاياتهم التي لاصلة بها بما يحتاجه او يتمناه العراقيين.
ان السياسة كما وصفها بسمارك وغيره من الدهاقنه هي علم وفن وإدارة هدفها النهائي توجيه مؤسسات الدولة لخدمة الناس وتحقيق مصالحهم وضمان حقوقهم وحرياتهم ، وحتى في الفقة الإسلامي فدورالدوله يتركز في تدبير شؤون الشعب ورعاية مصالحه بما يصلحها ، فالإصلاح بين الناس من خلال الحكم الرشيد يمثل بوصلة عمل السياسي الشريف ومقياس نجاحه في الدور المناط به .
ان على الساسة الذين فرضهم الاحتلال على العراق بعد عام 2003 على اختلاف مشاربهم والذين فشلوا في تحقيق ابسط مقومات بناء الدولة المدنية الحقيقية ان يعيدوا النظر بسياساتهم الكارثية وان يتقوا الله ويعودوا الى رشدهم ان كان هناك رشد بالاساس وان يلتزموا بتعاليم الدين ان كانوا مؤمنين لأنه سيشكل المعيار الأخلاقي الضابط لعمل الجميع والمحفز على البناء والتقدم أو ان يتركوا السياسة وهو الافضل للعراقيين ،لان العدل السياسي والعدالة الاجتماعية اساس قيام نظام الحكم الصالح وهما يخلقان الشعور بالمساواة الحقيقية بين الناس بصرف النظر عن قوتهم أو ضعفهم ، غناهم أو فقرهم ، علمهم أو جهلهم ويولدا الاطمئنان بينهم من خلال قناعتهم بعدم وقوع الظلم عليهم كون القانون كفيل بمنع ذلك من خلال نظرته المتساوية العادلة للجميع ، وإذا ساد العدل بين العراقيين سيجد المسؤلين بعد التغييرأن كثيرا من نفقات الدولة على القوى الأمنية والعسكرية لن يعد لها حاجة ، وان كثيرا من الجرائم ستنخفض ولن تعود هناك حاجة أيضا إلى كم كبير من القوانين في قانون العقوبات العراقي النافذ . أما مبدأ العدالة الاجتماعية فلا تقل أهميته عن العدل في النتائج الايجابية التي سيتركها بين الناس لان العدالة في حالة شيوعها سوف تنتج ثقة وقناعة عالية من المجتمع بنظامه السياسي ككل ، ونظام حكمه بشكل خاص ، وستضيق الفجوة الهائلة بين الحكام والمحكومين في بلد كان ولا زال يشكو أفراده من اتساع هذه الفجوة.
ان حاجة العراق الان وفي المستقبل هو رجال دولة ذو كفاءه عالية لا رجال سلطة لان رجل الدولة يمثل مستوى راق في العمل السياسي ويوظف أحكام وقواعد ومبادئ السياسة بمهارة وفاعلية لتحقيق الخدمة العامة التي يقوم بها . إن رجل الدولة موظف من طراز خاص يخدم من خلالها شعبه لفترة معينة يعود بعدها فردا اعتياديا بين الشعب. في العراق لم يعد مقبولا بعد كل هذه المآسي صعود اناس هواة وجهلة لايعرفون ابسط متطلبات عملهم ولذلك ألحقو سيلحقون الأذى بالعراقيين وهدف هؤلاء هو فقط ضمان مصالحهم الطائفية والحزبية والمناطقية الخاصة .
ان ابسط مقومات الدول المعاصرة حاجتها إلى قيادات إدارية قادرة على فهم دورها ، والنهوض بأعباء مسؤولياتها ، إدارات منتجة ذات قدرة تنافسية عالية ، قيادات لايغلبون الولاء والمحسوبية والمنسوبية لأنفسهم وأحزابهم وقواهم السياسية لذا يجب جعل الكفاءة معيارا لتولي المناصب الإدارية ، لضمان وصول امن إلى أهداف النظام ، وجعل إدارة الحكم في البلد رشيقة وفاعلة ، لاسيما التعليم والقضاء والمالية والدفاع والداخلية والخارجية.
ان اسمى وارقى هدف تحمله الانظمة في العالم هي قدرتها على بناء الإنسان قبل بناء أي شئ اخر وهذا الهدف يكاد يتقدم على كل الاهداف الاخرى رغم اهميتها جميعا ذلك بسبب ما ألم بالمواطن العراقي وما واجهه من الاستبداد بعد احتلال بلده ، والأعمال الإرهابية الفظيعة ، والعنف الطائفي المفزع في العراق الذي تسبب بصدمات اجتماعية عنيفة تركت تأثيرها الخطير على سيكولوجية الإنسان العراقي ، فأصبح إنسان معقد ، مأزوم ، وخائف ، وغير مطمئن للمستقبل ، وغير واثق من الآخر ، وهو بكل المقاييس إنسان محطم الذات ، نتيجة ما تعرض له عبر 18 عاما عجافا لا يمكن احتمالها أبدا . أن هذا الواقع الاجتماعي العراقي يجب إدراكه بحكمة وتفهم من قبل الساسة الذين سيقودون البلد ويججب ان يكون محور حركتهم وهم يتوجهون لبناء الدولة على أسس جديدة ، إذ يحتاج مجتمعهم فعلا إلى إعادة تأهيل ليتجاوز مشاكله النفسية العميقة ، من خلال برامج اجتماعية مناسبة يتم فيها الاستعانة بكل الخبرات الوطنية والدولية في هذا المجال ، وخطاب سياسي جديد مغاير لما كان يسمعه الشارع من خطابات في الحكومات المتأسلمة السابقة ، لأن وجود إنسان جيد وكفوء واحد قادر على انجاز ما لا يستطيعه ألف إنسان . إن تأهيل الإنسان العراقي وإعادته إلى إطاره السيكولوجي الإنساني الصحيح هو الضمانة الوحيدة لعلو العمران وتحسين مظاهره ودوام الحفاظ عليه وما عدا ذلك من أفكار ورؤى غير صالحة ألبته ولا يرتجى منها شئ .
2933 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع