عادل شهاب الاسدي
قصة قصيرة - حذاء ابنتي
دخل المطبخ يطلب قدحا من الشاي. كانت تغسل آنية الطعام .وحينما أحست أن أحدا خلفها التفتت فرأته قالت له والابتسامة تغمر محياها
: ــ .. أبي ..
ــ نعم يا قلب أبيها ..
ــ أريدك أن تشتري لي حذاءا فقد أصبح حذائي قديما وفوق هذا انخلع كعبه ولم يعد صالحا، نثرت ابتسامتها على وجهه ببراءة ودلال، وقعت عيناه على عينيها صمت برهة.. استدارت نحوه مرة أخرى :
ــ أبي ألا تسمعني ؟
ــ .. بلى يا حبيبتي أنت تأمرين !! غدا نذهب للسوق ..وسوف اشتري لك الحذاء .
عاد الى غرفته صامتا، جلس مطرقا برأسه ونسيَ انه دخل المطبخ ليطلب منها أن تعد له قدحا من الشاي . لا تعلم رجاء ان أباها الذي وعدها توا بشراء حذاء لها لايملك ثمنهُ! وها هو دواءه قد نفد . وكان الطبيب المختص قد كتبه لحالته بعد ان أجرى عملية جراحية لقلبه . ومن الضروري أن يواضب على تناوله للدواء بصورة منتظمة ودونما تأخير حتى نهاية عمره. وفيما هو في دوامة من التفكير والحيرة ، رفع رأسه وراحت عيناه تجوبان أرجاء الغرفة. وقع نظره على مجاميع الكتب المرصوفة على رفوف مكتبته التي كانت تضم كتبا معظمها ذات طابع أدبي..قصص وروايات ودواوين شعر وأخرى متنوعة كان يحرص على جمعها منذ سنين ، قال : محدثا نفسه : " قد تكون فكرة نافعة إذا ما بعت بعض من الكتب لعلّي أتمكن من شراء حذاء لابنتي ."
أطلق تنهيدة أمتزجت بحرقة شديدة أمتلأ بها صدره متسائلاً:" .. من سيشتري كتبي ؟ ! تلك الكتب.؟. من سيقرأ في هذه الأيام .. ما عاد هناك من يهتم لأمرها بعد اليوم! ولكن لنجرب فليس لأمر بيعها من بدٍ .. نعم.. مد يده نحوها وأخذ يختار: واحد ..إثنان . ثلاثة .. عشرة .. ذلك يكفي كما أظن وضعها في كيس دون يراه أو يشعر به أحد .وجلّ ما يخشاه هو أن تراه ابنته فهي ذكية . وحمل بيده كل هذه الكتب وخرج بها خلسة .. ستكتشف على الفور انه ذاهب بها لأجل أن يبيعها وقد يكون ذلك بسببها، إذ ليس من السهل أن يفرط بكتبه وهي تعلم كم يعشقها ولم يجمع كل هذه الكتب إلا بشق الأنفس فكثيرا ما ترك نفسه بدون مصروف من أجل شراء كتاب أو مجلة أو جريدة .
في وسط السوق كان له صديق قديم يملك محلا صغيرا يعرض فيه أنواعا من الحبوب والبذور والسماد . وكانت تجمعهما لغة مشتركة هي حب المطالعة والقراءة فصديقه أديب معروف في الوسط الأدبي وكثيرا ما كان يعرج عليه خلال ذهابه للتسوق في مركز المدينة، يجلسان.. يتحاوران ويتبادلان الكتب ويأنسن احدهما للآخر .
دلف لمحل صاحبه ملقيا عليه التحية . لم يشأ أن يطيل المكوث إذ يكفيه بضع دقائق وحسب فهو في مهمة عليه أتمامها وقبل ان يهم بالنهوض ، بادره صديقه قائلا:
ــ ما قصة هذا الكتب التي تحملها بين يديك يا صديقي لم تطلعني عليها ؟
. بلع أبو رجاء ريقه وشعر أن الكلمات تحجرت في حلقه .. وتردد بم سيجيبه ! ربما سيشتريها صديقه المولع هو الآخر بشراء الكتب ويُريحهُ من هذا الأمر. ستكون فرصة عظيمة إذا ما وفر عليه عناء ذهابه الى السوق ، خفض بصره وعاد الى الجلوس . أجاب متمتما :
ــ في الحقيقة انها كتبي الخاصة وقد قرأتها وما عاد لي حاجة بها لذا فكرت ببيعها . كان صديقه الأديب يعرف جيدا مدى ولع صديقه وحبه الشديد لتلك الكتب فهو لم يفرط يوما بكتاب فما الذي يدفعه لبيعها يا ترى ؟
حينما التقت عيناه بعيني صديقه لم يكن عصيا عليه قراءة ما تخبئان من أمر. انه عجز عن أن يقرأ ما وراء السطور كما يقال فكيف سيخفى عليه أمر صديقه وعرف أن هناك أمر ما أضطره لفعل ذلك وهو ما دفعه لبيع كتبه!
بادره قائلا: ــ أرني إياها إن أمكن ..
راح يستعرضها كتابا كتابا :
ــ ماذا عندنا ؟ أو القفص الزجاجي لكولن ولسن ..انه كتاب رائع أرني الآخر. آه .. مكسيم غوركي .. جميل .. المملكة السوداء الطبعة الأولى أنه القاص الكبير محمد خضير ..حسناً انك تحتفظ بها ، حتى تفحص الكتب جميعها .. إنها حقا كتب جميلة ورائعة .. هل توافق ؟.. أنا من سيشتريها منك . وبدون أن يعلق سحب الدرج ودفع إليه بورقتين من فئة الخمسة وعشرين ألفا ..خمسون ألف دينار..
ــ هل يكفي هذا المبلغ يا صديقي أم أزيد؟
ــ لا .. شكرا هذا مناسب، التقط أبو رجاء النقود ودسها في جيبه بارتباك واضح والألم يعتصر قلبه وقال محدثاً نفسه :" .. لو اخذها الى السوق لن أحصل على نصف ما حصلت عليه الآن، حمدا لله .. ففرحة إبنته هو كل ما يبتغيه ، وكل شيء يهون مقابل إسعادها ."
ابتسم وهمس لنفسه : ".. الآن أصبح شراء الحذاء أمرا واقعا .."
نهض أبو رجاء مودعاً صديقه وقبل أن يصل عتبة المحال صاح به صديقه الأديب : ــ تمهل يا صديقي..
ورفع الكيس المحشو بالكتب ووضعه بين يديه قائلا :
ــ أرجو أن تدع هذه الكتب عندك في الوقت الحالي وكلما احتجت كتابا لأقرأه طلبته منك . في الواقع لا يوجد عني مكان يسعها ، كما تعلم أن مكتبتي تغص بالكتب ..
تناولها منه قائلا :ــ وأنا سأحفظها لك .. الى اللقاء !
غادر المكان قاصدا البيت وقد رُدت اليه بضاعته من دون توقع .. هكذا وبتصرف حاذق ونبيل تمكن الأديب والصديق الرائع من إعادة الكتب إلى صديقه دون مِنّة أو فضل ..
إنها ابنته الوسطى التي بقيت من بين شقيقتين تزوجتا قبلها ، فهي تمثل بالنسبة له حالة خاصة فقد كان يوليها اهتمامه ويغدق عليها من حنان الأبوة ما يجعلها تشعر بالسعادة .
استيقظت رجاء ذات صباح وهي ابنة السادسة عشر من ربيع عمرها وكانت حينها طالبة في مرحلة المتوسطة لتوضب نفسها لغرض الذهاب الى المدرسة . اتجهت صوب المغسلة لتغسل وجهها وطفقت ترشه بالماء وهي تنظر في المرآة المعلقة أمامها .. يا لهول الصدمة !انها لا ترى بعينها اليسرى ..صاحت وهي مذعورة بأعلى صوتها ..عيني عيني ..! لا أكاد ان أرى بعيني ما الذي يحدث، وغابت في نوبة من بكاء مرير دموعها تنهمر بحرقة وألم !
بعد ساعتين كانت رجاء مع والدها في المستشفى ، أدخلها على الطبيب المختص أجلسها أمام جهاز فحص العيون وبعد أجراء الفحص اعلن الطبيب :
ــ لقد تعرضت ابنتك إلى جلطة ضربت شبكية العين مما افقد عينها اليسرى البصر . سنعطيها علاجا ربما سيساعد في تخفيف أثر التجلط إن شاء الله ..
استنفد أبا رجاء كل ما يمكنه من جهد بعد أن ذهب بها لأكثر من طبيب مختص في المدينة وحاول مرات عديدة ولكن دون جدوى .. قد يجد لها علاجا خارج البلد فمستوى الطب هناك أكثر تطورا إلا ّ أن ضعف إمكانياته المادية حالت دون ذلك . ومرت على حادثة فقدان رجاء لعينها خمسة أعوام تركت على أثرها مقاعد الدراسة بعد ان خلفت تلك الحادثة أثرا بالغا على حالتها النفسية فصارت قعيدة البيت ..!
في اليوم التالي كانت رجاء مع أبيها في السوق تتنقل من محل الى محل كأنها حمامة أطلقت من حبسِها وهي ترمق أباها بنظرات مغمسة بالسعادة والرضا فيما راح ابوها يتشبث بيدها كما لو كانت طفلة .
وهما في طريق العودة وبعد أن أمضيا وقتا سعيدا في السوق جلسا عند محال لبيع العصائر والمرطبات :
ــ ماذا تشربين يا رجوتي ؟..
ــ (قمر الدين) أحب عصير المشمش ..
راح أبيها ينظر إليها ويكاد قلبه الكليم أن يفرّ من بين أضلاعه لفرط سعادته .. نعم فكل ما يتمناه في هذه الدنيا ان يرى السعادة والأمل يملآن قلب أبنته الحبيبة ..
دلفا للداخل داخل البيت .. فراحت رجاء تهتف :
ــ أنظروا !
رفعت طرف ثوبها :
ــ ما أجمل حذائي لقد اشتريته بخمسة وعشرين ألف دينار !
ــ نعم إنه حذاء أبنتي !
قال الأب وجلس لاهثا مسرور الخاطر وسط تصفيق الجميع .
903 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع