حسن ميسر صالح الأمين
(الموصل... فاتنة في الخراب، هكذا يبدع الشعراء).
لوحة شعرية صادحة، باذخة المعاني، ناطقة بالصدق كله من حنجرةٍ لا تعرف غير الصدق في القول والاخلاص في العمل، أبدع فيها شاعرنا الثبت العتيد الأستاذ الموصلي الأصيل (امجد محمد سعيد)، الجبل الأشم والرمز الشامخ ليُخرج لنا لوحة شعرية متكاملة ومترابطة ومنسوجة بإتقان من خيوط الواقع ومحاكيةً لما مضى من عصور مرورًا بحاضر قاسٍ وظلمات بعضها فوق بعض، قال عنها الأستاذ الدكتور احمد الحسو لدى مشاركته المقال على صفحة النافذة الحرة القيمة وهو السباق دومًا في نشر كل ما يخص الموصل وأهلها... (هذه قصيدة من ذوب قلب الشاعر أمجد محمد سعيد .. انها ملحمة شعرية ، حين قراتها سمعت صوتين مدنفين حزنا ، وممتلئين - رغم الجرح الموغل - ثقة : صوت الشاعر وصوت الموصل . شاعر اتعبه اغترابه عنها ، ومدينة لم يتعبها غدر الغادرين وصمت الأقربين، فاذا هي وفلذات أكبادها من شباب أطهار يجمعون على مهل ، بقية بيت مهدم وحديقة مهشمة ،في الطريق الى عودة تشرق فيها الشمس وتزهر الحقول - انتهى).
قرأتها لأكثر من مرة وكأني جالس في عزاء وفي فرح في آن واحد، فتارة يأخذني الحديث عنها ويغمسي في بحر لجي يملؤه الحزن والأسى على ما مرت وتمر به من ظلمة حالكة وقسوة لا مثيل لها ومصائب وفواجع لم تشهد لها مدينة غيرها عبر التاريخ وهي لمّا تزل تئن تحت قصف العدو وقصف الصديق:
(كأن لم تكن زهرة التاج
أو درة الصولجان
كأن لم تكن واحة من أمانْ
كأن لم تكن شفة للزمان)،
وتارة اجد نفسي محلقًا في سماوات النشوة والسرور والتباهي بها وبتاريخها وأمجادها والقصيدة تتنقل بي بين بيوتها وعوجاتها وأزقتها وأسواقها وتلالها وهضابها ودجلتها وربيعيها وأشجارها وغابتها، جوامعها كنائسها، حضارتها ومواقعها الأثرية...
(تَبَدَّت فَلا وَاللَهِ ما الشَمسُ مِثلَها... إِذا أَشرَقَت أَنوارُها في المَطالِعِ).
وثالثة وهي تتأمل القادم وتزرع بذرة الأمل بالتغيير المنشود الذي طال انتظاره لتعود الى مكانتها التي يجب ان تكون عليها (ها هو العهد
أبناؤها الحاضرون...وابناؤها الغائبون... وابناؤها الراحلون وأبناؤها القادمون... لقد راهنوا كل ما يملكون بهذا الرهان).
واخرى.. عندما (تواطأ ضدك من تعرفين ومن تجهلين) وهي تسائلني وهي عليمة بالقول (اطلت الغياب علينا) ، فأخبرتها بما جرى لي بسبب حبي لها وتعلقي بها ورغبتي في خدمتها والعمل على تطويرها وأعمارها
(فَلَمّا رَأَت أَنّ الفِراقَ حَقيقَةٌ
وَأَنّي عَلَيهِ مُكرَهٌ غَيرُ طائِعِ
تُسَلِّمُ بِاليُمنى عَلَيَّ إِشارَةً
وَتَمسَحُ بِاليُسرى مَجاري المَدامِعِ
بَكَت فَأَرَتني لُؤلُؤاً مُتَناثِراً
هَوى فَالتَقَتهُ في فُضولِ المَقانِعِ) ، نعم يا شاعرنا معك واؤيدك وانت تقول:
إذن كان لابد ان تصلبي
كي تقومي
و لابد ان يشعلوا في بهائك نيران أحقادهم
كي تكوني...
(فَيا رَبَّ لا يَصدُق حَديثٌ سَمِعتُهُ... لَقَد راعَ قَلبي ماجَرى في مَسامِعي).
لقد أنشب العصر أنيابه في مسامك
أدماك لكنك اليوم فاتنة في الخراب
وعذراء ينهض من جرحها فارس وحصان ْ
وأغنية وزمان ْ.
نعم (فاتنة في الخراب) اسم يضاف الى اسماءها الأخريات وما اطلق عليها من أوصاف جمالية وغزلية بها،
(وَما بَرِحَت تَبكي وَأَبكي صَبابَةً
إِلى أَن تَرَكنا الأَرضَ ذاتَ نَقائِعِ
سَتُصبِحُ تِلكَ الأَرضُ مِن عَبَراتِنا
كَثيرَةَ خِصبٍ رائِقِ النَبتِ رائِعِ).
ختامًا: هذا هو الإبداع بأبهى صوره وهكذا يجب ان يكون الشعر وكذا المعاني وهكذا يجب ان يكون موقف المحبين للموصل وأهلها والناقلين لأحداثها الجسام بكل امانة والصادقين معها قولًا وفعلًا.
بارك الله بالأستاذ والشاعر الكبير (امجد محمد سعيد) فيما ابدع كالمعتاد عنه وأتحفنا ببانوراما شعرية جسدت التاريخ والحاضر والقادم بكل صدق وامانة، حيا الله المبدعون أينما حلوا وارتحلوا، وأود الإشارة والتأكيد على أنني لست في بحر تقييم القصيدة وشاعرها بل في موضع تباهي وفخر بهكذا شخصية عالية الجناب والمقام وبهكذا مُنجز قيّم ثري يخص مدينتي الغالية، علمًا انني سأدرجها في الطبعة الثانية لكتابي (من جوامع الكلم) والتي ستبصر النور قريبًا حفظًا لها ولموقف قائلها المُشرف، وادناه القصيدة كاملة والتي تنشر لأول مرة منذ أن ألقاها الشاعر في مهرجان القاهرة الدولي للشعر قبل عام تقريبا، اتمنى أن يروق لكم الاختيار وتقبلوا وافر الاحترام والتقدير.
حسن ميسر صالح الأمين
20-1-2021
القصيدة
قصيدة ( الموصل )
شعر
أمجد محمد سعيد
كتابٌ من الدمعِ أبيضُ
أبيض
يمتد منْ أفقٍ غامضٍ في نسيجِ الزمانِ
إلى أفق غامضٍ في نسيجِ المكانْ .
كتاب من الدمع أبيض
دمع الجذور الخفية في النبض والعنفوانْ .
على شكل نهر
ونخل
وبدر
ورمانْ .
كتاب من الدمع أبيض
أبيض
نقرأ في نبضه الحادثاتِ التي عبرت
هضبات التقاويم من قبلُ
والعربات التي انكسرت في الطريق
ولكنها لم تقفْ
ومضت مثل صقر السماء الجريح ِ..
وبالشهداء الذين قضوا
تحت وهج الحريق
وبالامهات اللواتي شققن الجيوب
وبالعائلات التي انطمرت
تحت قصف العدو
وقصف الصديق ..
سنمعن في شكل هذا المدى القرمزي
الذي فاجأ الروح في غفلةٍ
ثم نرحل صوب المياه القديمة
نبعا فنبعا
نجالس من فات في غمرة الحزن
أو تاه في ضجة الموت
أو غبرة المعمعانْ .
..................
على موعدٍ
أو بلا موعدٍ
سوف أهبط مثل الغيوم على ضفتيكِ
وأغفو.
أنا لم أعد اذكر الوقت
كان المدى حلما بين لون
ولونٍ .
وكانت نجوم السماء تضيع
هنا أو هنالك
محمولة في سلال من السحبِ
كانت زوارق دجلة في الأفق
نائية تتمايل بين السواحل
ريح وبرق يضيء المياه
فتعلو وتهبط ثانية مثلما جوقة من صبايا المسلاتِ
يرقصن بين يدي ( شميراميش )
في صخب المهرجانْ .
كأن حصانا من الغيم يهبط بي قرب ( آشور)
أو بين ( شقّيق ) نيسان
فوق تلال الربيع ب ( قوينجق )
سوف أعدو مع الموج من ( عين كبريت )
مندفعا صوب غابات سروٍ
إلى زرقة الماء ,
روح الزمان القديم يخطط حيطانها
ويمرر كيمياءه في قناطر ( عوجاتها )
سيعانق جص البيوتات
مرمرها الأبيض
الأزرق
الأخضر
الآن ,
يومض نجم الحقيقة
من بعد ألف
والف
والف
كأن لم تكن زهرة التاج
أو درة الصولجان ْ.
كأن لم تكن واحة من أمانْ
كأن لم تكن شفة للزمان ْ.
ولكنني
لم أعد أذكر الوقت
كان المساء شراعا من الفستق الموصلي
وساحل دجلة يغفو على حاجب الغابة العائلية
هذي المدينة من غير وقت
يؤرخ أسماءها بدرها
وفضاء المواقيت يلتم في قدح
ودخان ْ.
هنا الوقت من موجة
وغزال
ودمع كمان ْ.
هنا الوقت منشغل بطيور المآذن
ينسى الزمان ويدرج في أبدية لون جديدٍ
وفيض أغان ْ.
وهذي المدينة من غير قفل
شبابيكها هي أبوابها
ومنائرها مرمر أرجوانيُ
يحضن في كفه قمرا يتسكع بين البيوت
مواويلها عسل من بساتين يونس
أو من دنان سراديب بهنام قرب الضحى
ها هو العهد
أبناؤها الحاضرون
وابناؤها الغائبون
وابناؤها الراحلون
وأبناؤها القادمون
لقد راهنوا كل ما يملكون بهذا الرهان ْ.
.................
أطلت الغياب علينا .. تقول
وكانت نوافذنا تتحاور والموت
موتا بموتٍ
حزيران خيَّم خلف الشبابيك
قالت هنا نأخذ الكأس
كأس المنية
أو مشعل الخلد
بين عيوني وبين عيونك
مقهى مدمى على النهر
نرقب منها قوافل تمخر هذا المكانْ .
ستبدو الحروف القديمة مثل فوانيس ( باب السراي )
نفيق على حافة الفجر نلمحها قرب ( جسر العتيق )
وجامع جرجيس ذاك
المغطى ببدر الليالي
وهذي المدينة من غير قفل
تراها تفيض على مدرج الصحو مثل النجوم القريبة
من مشرق القمح حتى مغيب العناقيد
ليل يقلب في راحتي النجوم الرشيقة
والعمر يركض بين الأزقة مثل ( القلاشات )
حتى تطل الطفولة في ( شهر سوق )
وتمضي الحكاية دامية
دمك المستباح
على حافة العمر
يفجعني جرحك القرمزي ُّ
وكنت أخاف عليك
ظللت أخاف عليك طويلا من الكلمات المغطاة بالخبث
من حسد الحاسدين
وأعرف اعداءك الغاضبين من المجد طي نقوشك
كانت سطوح المدينة تنهار
تنهار مثل الفواجع يوما فيوما
تواطأ ضدك من تعرفين
ومن تجهلين
إذن كان لابد ان تصلبي
كي تقومي
و لابد ان يشعلوا في بهائك نيران أحقادهم
كي تكوني
لقد أنشب العصر أنيابه في مسامك
أدماك لكنك اليوم فاتنة في الخراب
وعذراء ينهض من جرحها فارس وحصان ْ.
وأغنية وزمان ْ.
وبعض كلام سيبقى طويلا
ستمشي الدروب به , وبما سيكون ,
سيعرف ابناؤك القادمون الحكاية من أصلها
وسيكتب أحفادك القادمون القراطيس من حزننا
والمواويل من دمنا
سيقولون لا
لن تضيع الدماء
ستسري من الظل والشجر المتطاول
تمشي إلى غيمة قرب مرتفع ( الصيرمون )
وتذكر وجه أبيك وأحبابه الطيبين
وتمضي إلى حلمٍ من غمام ْ.
وسيعرف ابناؤك القادمون طريق النهار الجديد
ومسرى اليمامْ .
* لقراءة المقال والتفاعلات الحاصلة على الرابط ادناة
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=10224014428249732&id=1269245661
1987 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع