د. صبحي ناظم توفيق
عميد ركــن متقاعد.. دكتوراه في التأريخ
17/12/2020
التدخَّل العسكري العراقي والسوري في أحداث أيلول/١٩٧٠
ملخص عمّا أوردناه
بعد إعلان الحاكم العسكري العام "المشير حابِس المًجالي" مساء (الأحد-20/أيلول/1970) عودة الحياة السويّة ورفع حظر التجوال في عموم المملكة جزئياً، ناصحاً مواطنيه بممارسة أعمالهم الإعتيادية إعتباراً من نهار اليوم التالي، فقد تنفسنا الصَعداء معتقِدين بأن الأوضاع إستتبت نسبياً، لذلك لا يُحتمَل تحريك لوائنا بعيداً عن "المفرق" أو تكليفنا وحداتنا بمهمة مُضافة بالمستقبل القريب.
فبُعَيْدَ متابعتنا لآخر الأخبار مع منتصف ليلة (20-21/أيلول/1970)، توجّهتُ إلى حُفرَتي وطلبتُ من الجندي المراسل أن لا يوقظني فجراً للإنذار الصباحي المعتاد، وكُلّي أمل أن آوي إلى فراشي السفري لأغُطَّ بنوم عميق حُرِمتُ منه طيلة ليالٍ مضت.
وأخيراً أُقْحِمنا في المعمعة
ولكن، وقبل إغماض جفوني، سمعتُ صوت صديقي العزيز "الملازم أوّل علي محمّد الشلاّل" -آمر فوجنا وكالةً- وهو يطلبني في حديث خاص خارج الملجأ، حتى فاجأني بوجوب تحريك سريّتي فوراً لأكون تحت إمرة كتيبة دبابات المقداد لتنفيذ مهمة طارئة سيبلّغني بها آمر الكتيبة "الرائد الركن نعمة فارس المحيّاوي".. ولمّا ذَكَّرتُه بأن سريته هي من تتجحفل مع تلك الكتيبة حسب نظام المعركة المعمول به أسوة بالأعوام المنصرمة الثلاث، فقد تذرَّعَ بكونه وكيلاً لآمر الفوج، إذْ لا يُعقَل أن يحرِّك السرية ويقودها ويترك الفوج من دون قيادة!!!
ولمّا قرأ على وجهي إمتعاضي وعدم رضاي في زَجّي بهذه المَعمَعة وعدم رغبتي المطلقة في تنفيذ هذا الأمر وإستعدادي لتحمّل أية نتائج تحصل جراء ذلك، فقد بادر لإحتضاني ورجاني أن لا أردّ طلبه وإعتبار رجائه أخوياً وليس أمراً عسكرياً.
إسنادنا للفدائيّين ... ولكن بعد فوات الأوان
وفوراً حضر ضباط سريتي أمامي بعد منتصف الليل، بعدما أوعزوا لإيقاظ جنودهم من نومهم في تلك الساعة المتأخرة من بعد منتصف الليل ليستحضروا... وهم حسب قِدَمِهِم العسكري:-
• الملازم أول إبراهيم جهاد عزيز.
• الملازم سلمان محمود الجَنابي.
• الملازم سُهيل أحمد الجَلَبي.
• الملازم عبدالواحد عِيفان.
• الملازم ثابت سليمان الفَراجي.
كلَّفتُ "إبراهيم جهاد" بقيادة السرية إلى الموقع الذي سأبلغه به لاسلكياً بعدئذِ، وأسرعتُ إلى مقرّ جحفل كتيبة المقداد، حيث وجدتُ آمرها "الرائد الركن نِعمَة فارس المُحَيّاوي" مُتَرَئٍّساً مؤتمراً لضباطه الأقدمين، ومُستَرسِلاً في إيضاح ما سيقومون به في الساعات اللاحقة، قبل أن يرحِّب بحضوري ويطلب مني أن أُلْحِقَ -كالعادة- فصيل مشاة آليّ بإمرة كل سرية دبابات، وأن يُلحِقوا تحت قيادتي (3) رعائل دبابات تشتمل ما مجوعه (9) دبابات، فيما سأحتفظ بفصيل الإسناد لوحده -والذي يحتوي الهاونات ومدافع مقاومة الدبابات ورشاشات مقاومة الطائرات- بمثابة إحتياط وقوة ضاربة عند الحاجة، وذلك قبل أن يطلب أن أُصاحِبَه إعتباراً من هذه الساعة حسب النهج الذي إتّبعناه منذ عام 1967.
الخطّة الموجزة
ثم أوجز تفاصيل خطّته البسيطة:-
• حالما تتهيّأون، تصطفّ سرايا الدبابات المُتَمازِجة مع ناقلات فصائل المشاة المدرّعة وبطرية مدفعية الميدان ورعيل مقاومة الطائرات وفصيل الهندسة على الطريق العام المّؤدي من ضواحي "المفرَق" نحو مدينة "جَرَش"، على أن يتمّ ذلك قبل الساعة الخامسة فجراً، إنتظاراً لِتَلَقّي الأوامر مني.
• بُلِّغتُ أن يكون إرتباطنا ((لأغراض هذه المهمّة الإستثنائية فقط)) بقيادة الفرقة المدرّعة/3 مباشرة بدلاً من مقر لوائنا المدرّع/6، وأكون صاحب القرار في هذه العملية.
• سأنطلق -ومعي الملازم أوّل صبحي- إلى "معسكر الرادار الأردني" لأُبَلِّغ قائدَه أنْ يُوافق -بالضرورة ومن دون مناقشة- على عبور (60) شاحنة عسكرية عراقية على الطريق العام "المفرق- جرش" المار من قرب معسكره، وهي محَمَّلَة بمواد تموينيّة وأدوية إلى الفدائيّين الفلسطينيّين المُحاصَرين في "جَرَشْ" لمساعدتهم على تسيير حياتهم اليومية ليس إلاّ.
• عند إيعازي إليكم بالحركة، تتّخذون قواطع المسؤوليّات -التي حدّدتُها لكم على الخريطة- على جانبيّ الطريق العام، وبواقع حوالي (15) كيلومتراً لكل مجموعة قتال (جحفل سرية).
• يكون مقرّي على بعد كيلومتر واحد إلى الغرب من قرية "رِحاب" الواقعة بمنتصف المسافة بين المدينتين.
• يتهيأ ضابط إستخبارات الكتيبة بسيارة جيب منفردة لا تحمل سلاحاً، لإستطلاع الطريق العام حتى مدخل "جرش"، للتأكدّ من خلوِّ جانبَيه من عساكر أردنيين، ولا يدخل المدينة، على ان لا يباشر بالحركة إلاّ بإيعاز مني.
• لا أسمح مطلقاً بأي إحتكاك مع الإخوة الأردنيّين وإثارة أية مُعْضلات معهم، عسكريين كانوا أم مدنيّين، فالوضع مشحون بالحسّاسيّات.
• يتخذ كل مدفع من رعيل مقاومة الطائرات موضعاً مناسباً، وبواقع حوالي (7) كلم بين مدفع وآخر.
• تنفتح بطرية مدفعية الميدان بكاملها قرب مقر كتيبتنا، ويصاحبني آمرها -كالعادة- في تحركاتي عند تنفيذ العملية.
• لا تُفْتَح أية نيران من أي سلاح كان مهما كانت الأسباب، إلاّ في حالة الدفاع عن النفس والضرورة القُصوى، ولكن بعد إستحصال موافقتي شخصيّاً.
• أعظم ما نتمناه أن تمرّ هذه العملية بسلام، ولا يحدث ما لا يُحمَد عُقباه، سواء مع الأخوة الأردنيين أو مع سواهم.
باكورة التنفيذ
مع أوّل ضياء (الإثنين 21/أيلول/1970) عَبَرَنا بسيارة "جِيب" منفردة -ومن دون سلاح- بوّابة معسكر الرادار الأردني (7 كيلومترات غربيّ "المفرق") مُتَوجّهين مباشرةً نحو مكتب قائد المعسكر "العقيد المهندس عَليّ"، والذي هرع من غرفة نومه وقد فوجئ بحضورنا من دون موعِد مُسْبَق في ذلك الوقت المبكّر.
إستمع "العقيد علي" من "الرائد الركن نعمة" مهمّتنا الرئيسة، فأجاب -بهدوء مَشوب بإرتباك ملحوظ- أنه ليس صاحب قرار بالذي يجري خارج معسكره في مثل هذا الظرف، وأنه يعتبر تصرّفنا سَكباً للزيت على النيران التي خمدت.. لذا عليه إستحصال موافقة قيادته العليا في"عمّان".
ردّ عليه "نعمة":- ((سيادة العقيد نحن سنتحرّك الآن، وإسْتَحْصِلْ أنتَ ما تريد، وتصرَّف مثلما تشاء))!!.
فور مغادرتنا المعسكر الأردني، إستأذنتُ من "الرائد نعمة" أن أصارحه، بأن ليس من عادته أن يسيء لأحد.. فلماذا تحدث مع السيد العقيد بهذا الأسلوب في نهاية الكلام؟؟ وهل كان يتقبّل هكذا أسلوب من غيره في وطنه؟
فأجاب:- (ربما أعطيك الحق يا صبحي، ولكني قدّرتُ الموقف ذهنياً وتوقعتُ بأن السيد العقيد سيبادر لإستئذان قادته.. ولما كان الإحتمال الأعظم أنهم سوف لا يوافقون على تحرّكنا، عندئذٍ نكون نحن في موقف حَرِج للمباشرة بالعملية، لذلك إبتغيتُ وضعه أمام الأمر الواقع).
لماذا تأخرنا؟؟
إنطلق ضابط إستخبارات الكتيبة بإتجاه "جرش"، وبعد أقل من ساعة إستغربنا وقتما أكّد لاسلكياً -من مدخلها الشرقي- خُلو الطريق بكامله من أي وجود عسكري أردني بائن للعَيان، رغم كون المعلومات الإستخبارية المتاحة تُشير إلى إحكام القوات الأردنية لجميع مداخل المدينة الستة الآتيات من كل الإتجاهات.
وفي الوقت الذي كان "الرائد نعمة" ينتظر معلومة وجود قوة أردنية في مكان ما من الطريق، وبالأخص قرب "جرش"، وكان متهَيِّئاً للتوجه بشخصه للقاء قائدها والتفاهم معه، مثلما عمل مع قائد معسكر الرادار، فقد إحتار بعض الشيء وطلب من ضابط الإستخبارات إعادة الإستطلاع والتمحيص مع من يستطيع التحدث معه من أهالي القرى... فتبيّن بعد ذلك أن قوة أردنية بواقع فصيل مشاة كانت تمسك مدخل "جَرَش" قد تركت موقعها سراعاً قبل ساعة تقريباً وإنسحبت.
السيطرة على جانِبَي الطريق
وبعد أن إطمَأَنَّ "الرائد نعمة" وبدا له أن الأردنيين كذلك لا يبتغون الإحتكاك معنا، فقد أمر أن تكون الساعة السابعة والنصف موعداً لحركة سرية الدبابات الأمامية نحو "جرش" تليها السريتان الأخرَيان تباعاً.
لم تستغرق دباباتنا ومدرعاتنا في إتمام السيطرة على جانبيّ الطريق سوى ساعة ونصف، وبعدما أخبر قائد السرية الأماميّة أن سريته إنفتحت على التلول المشرِفة على مدينة "جَرَش"، عندئذٍ باشرت الشاحنات الـ(60) -الآتيات من "بغداد" بعهدة أشخاص من مكتب فلسطين والكفاح المسلّح بالقيادة القومية لحزب البعث- السير بهدوء وبسرعة بطيئة نحوها من دون أيّ حادث، مصحوباً بعدم وجود أية قوة عسكرية أو شبه عسكرية أردنية في عموم المنطقة المحيطة بالطريق، ودخلت الشاحنات إلى "جرش" بسلام قبل ظهر يوم (21/أيلول) وتفرّقت قبل أن يباشر منتسبو "الجبهة العربية لتحرير فلسطين" بإفراغ حمولاتها، ومن دون أن نتعرّف على محتوياتها.
أسرع "الرائد نعمة" -وأنا مع الملازم أوّل هشام علي غالب- بصحبته إلى "جرش" مفتخِرين بأننا أنجزنا شيئاً مُهمّاً لصالح الفلسطينيين، وعلى إعتقاد بأنهم أمسوا مُمْتَنّين لمـا حقّقناه لأجلهم في ذلك النهار، وأنهم سيرحّبون بنا بكلّ حرارة عند حضورنا في أوساطهم لتَفَقّد أحوالهم والتشاور إنْ كانوا بحاجة لأشياء أخرى.
وكم كانت خيبتنا عند إستقبالهم لنا بوجوه عابِسة ومن دون مجاملات خالية من عبارة شكر وإمتنان، بل أن عدداً منهم لم يَخْفِ أحاسيسه حين قالوا بإمتعاض وسخرية:- ((لـقـد خَذَلْـتُمُونـا أيها العراقيون))!!!
فعُدنا بعد الظهر إلى مقرّ الكتيبة خائبين من دون مضيعة وقت.
وجهاً لوجه مع عساكر أردنيّين
بحدود الساعة الرابعة من عصر ذلك اليوم (21/أيلول) كان حادث مُؤسِف على وشك أن يقع بيننا وقوة من الجيش الأردنيّ مؤلّفة من (8) عجلات جيب "لاندروفر" كانت محمّلة بمدافع من طراز (106) ملّم لمقاتلة الدبابات، حين أَخْبَرَني "الملازم أوّل إبراهيم جهاد" بمشاهدته لقوة تسير نحونا على طريق ترابيّ وبرتل منتظم من إتّجاه تلول "الحمراء".
هرعتُ لإخبار "الرائد الركن نعمة"، فخَوَِّلني بالتوجّه إليهم فوراً والتصرّف معهم بكل لياقة من دون إستخدام سلاح، وإيقافهم قبل أنْ يتقربوا إلى حافات مواضعنا، فأسرعتُ بمفردي بسيارة جيب منفردة غير مسلّحة تحمل جهازاً لاسلكياُ فقط.
أشرتُ إليهم بِيَدَيَّ فتوقفوا بالقرب من قرية "بَني حسن"، وأمام أنظارهم نزعتُ مسدسي الشخصي من نِطاقي -مُتعَمِّداً- وقذفت به في السيارة قبل أن أسير على قَدَمَي نحوهم، فنزل من العجلة الأمامية ضابط أردنيّ برتبة "ملازم ثانٍ" طويل القامة رشيق البُنية، وأدّى التحيّة العسكرية بإنضباط عالٍ مُقَدِّماً إسمه "الملازم عبدالله الشَركَسي"، فما كان منّي إلاّ إحتضانَه والتعريف بذاتي، مع التركيز على كوني من أصول شركسية، والترحيب به ونحن في أرض وطنه منذ حزيران/1967.
وحالما أوضح المهمة المُرسَل لأجلها:- ((منع أيّ مسلَّح من التنقّل بين "المفرق وجرش" ولأيّ سبب كان)).
قلتُ له وبكلّ ما يستحقّه من أدب وأصول:-
((أنّ قائدك الذي كلّفك بهذا الواجب، ربّما لا يعلم ولم يتابع التطوّرات التي حدثت بهذه المنطقة تحديداً منذ صباح اليوم، فالطريق العام "المفرق-جرش" نحن منفتحون على جانبَيه بواقع جحفل كتيبة دبابات عراقيّة مع سريّة مشاة آليّة مؤلّفة من (48) دبابة و(23) عجلة قتال مدرّعة و(6) مدافع ميدان و(6) مدافع م/ط... وبإستطاعتك مُشاهدة عدد منها على قمم هذه التلول بالعين المجرّدة... وقد تَشَرَّفنا فجر هذا اليوم بزيارة السيد "العقيد المهندس علي" قائد معسكر الرادار الأردنيّ، مُوَضِّحين له أنّ مهمّتنا تنحصر في تأمين هذا الطريق بغية إيصال مساعدات إنسانيّة للفلسطينيّين المُحاصَرين في "جرش"، ومن دون أنْ نسمح لأيّ مسلّح منهم بالتنقّل على هذا الطريق، ولا يُعْقَل أنّ "العقيد المهندس علي" لم يُخبِر القيادات الأردنيّة العليا بذلك.
لذا فليس من المنطقيّ أن أسمح لقوّتك الصغيرة هذه أنْ تَتَخَلَّل بمدافعها لتنفيذ مهمّة تتعاكس مع ما نحن مُكَلَّفون به، وتتعرض لمواجهة غير متكافئة مع دباباتنا ومدرّعاتنا، مع علمنا وتقديرنا بأنّ هذه أرضكم وبلدكم وأنتم أحرار فيها، وأنّ الأوامر العسكريّة التي تَلَقّيتَها أنتَ يجب أنْ تُنَفِّذها.
لذلك، لو كنتُ في موقعك وموقفك الصعب لإتّصَلتُ بقائدي فوراً وأعْلَمْتُه بالذي أراه وأسمعه قبل أنْ أَقْدِم على الخطوة التالية... وإذا رغبتَ أنْ تتفضّل معي لتُقابل قائد كتيبتنا بشخصك فقط لإستيضاح أُمور أكثر، فعلى الرحب والسَعَة، فهو بإنتظارك الآن إن شئتَ)).
وكم حزنتُ لتلك الحيرة التي أصابت ذلك الضابط الأردنيّ الشاب في أمره وصعوبة إتّخاذه قراراً في تلك الساعة وهو مُتَواجِه -في أرض وطنه- بعشرات الدبابات والمدرّعات... ولما خَطى نحو جهازه اللاسلكيّ، تعمّدتُ الإبتعاد عنه عشرات من الأمتار كي لا يُحْرَج في حديثه الخاصّ مع قائده، حتى إنقضت الدقائق علينا طويلة بإتصالاته اللاسلكيّة المتتالية مع قائده‘ مصحوبة بتساؤلات "الرائد الركن نعمة" مني عمّا آلَتْ إليه الأمور.
وفي ظلّ أعصاب مشدودة وأحاسيس مكبوتة وأدعيتي للعليّ القدير أنْ يُمَرِّر علينا هذه المِحنة بسلام، وأنْ لا نضطرّ لمواجهة الأشقّاء بالتهديد أو السلاح، حتى عاد "الملازم عبدالله" بعد حوالي نصف ساعة مُستَبشِراً ليقول أنّه سيعود إلى من حيث أتى ما دامت المُساعدات التي نُعَبِّرُها للفلسطينيّين إنسانيّة صِرف... فحمدنا الله على ما آلَ إليه الأمر بعد أنْ تعمّدتُ بمصافحة بعض أفراد تلك المدافع الفَتّاكَة مُوَدِّعِينَهم ومُتَمَنِّين لهم السلامة.
حرب سوريّة-أردنيّة
((كانت عايزة وإلْتَمَّتْ))، مثَل شعبيّ عراقيّ أكرره، حينما يُطْلَق لمّـا تتفاقَم الأمور وتتراكم وتتعقَّد فيأتي ما هو الأنكى والأَمَر.. وذلك ما ينطبق تماماً على ماكنّا نُعانيه بتلك الأيام والساعات، ففي حين لا أزعم القول بأن كان هناك تنسيق بين العراق وسوريا في هذا الشأن، ولكن يبدو من سير الأحداث أنها ربما لا تتصاعد بمَحْض مُصادَفة!!!
ففي فجر يوم (الثلاثاء- 22/أيلول) وبينما كنا نخلد إلى بعض النوم القلق بعد سهر وعمل طال أكثر من (24) ساعة متواصلة، فقد أتَتنا أخبار غاية في السُخونة والخطورة من ناحية بلدة "الرَمْثا" حيث الحدود الدوليّة الأردنيّة مع "سوريا"، فقد أُخْبِرَ آمر جحفل كتيبتنا بأن ضباطاً سوريّين حضَروا بعد منتصف الليل إلى مقرّ "العميد إسماعيل محمّد ياسين التَلْعَفَري" آمر جحفل اللواء المدرّع العراقيّ/12، المُنفَتِح في أرض محافظة "درعا" المتاخمة للحدود الأردنية- السورية، طالبين منه إصدار أوامره الفورية بأنْ يترك جميع وحداته مواضعها فوراً!!!! وإلاّ فإنها ستبقى بين نيران "لواء التحرير الفلسطينيّ المُدرّع" المُهاجِم لفكّ الحصار عن إخوتهم في "جرش" وبين الجيش الأردنيّ المُحاصِر لهم!!!
القتال أمام أعيننا
وقد حصل ذلك.. فمع شروق الشمس إجتاز ذلك اللواء المدرّع المؤلّف من (99 دبابة طراز T-55) سوفييتية المنشأ، ومعه فوج مشاة محمول في متون العشرات من ناقلات الأشخاص المدرّعة قديمة للغاية (B.T.R-152) السوفييتية، تُسْنِدهم كتيبة مدفعيّة (18مدفع عيار 122ملّم) كانت مُنفتِحة على خطّ الحدود المشتركة،.. أما الدفاع الجوي فقد حققته بضعة مدافع خفيفة لمقاومة الطائرات (23) ملم مسحوبة بعجلات، ناهيك عن عشرات الرشاشات الثقيلة والمتوسطة المركبة على أبراج الدبابات وفوق أسطح الناقلات.
ذلك اللواء الذي إندفع بزخم كبير وسط فراغ عسكريّ أردنيّ في تلك المنطقة التي كانت آمنة وخالية تماماً من أية قوة عسكرية أردنية قُبَيْلَ تلك الساعة، وفي هجوم برّيّ إنطلق من أرض محافظة "دَرْعا" السورية نحو بلدة "رَمثا" الأردنيّة.
لم ينتظر "نِعمة فارس" -كعادته- طويلاً وبصحبتنا صديقنا الحميم "الملازم أوّل هشام علي غالب" لنسير بسيارَتَي "جيب" ونتسلّق قبل الظهر نحو قمّة عالية من تلول "الحمراء" قريبة من قرية "بُرَيقا" تُشرِف تماماً على ذلك السهل الواسع، والذي يلتقي في وسطه الطريق العام "المفرَق- إرْبِد" مع الطريق الدُوَليّ "رَمْثا-جَرَش"، وقد إجتازَته الدبابات الآتية من "سوريا"، تحت وابل من القنابل التي كانت المدافع المُنفَتِحَة في الأرض السورية تُطلقها مُنْهَمِرَة أمام الدبابات المتقدمة ببطؤ ملحوظ -ولو من دون داعٍ- حيث لم يكن هناك أيّ وجود لأية مقاومة أردنيّة منذ الصباح ولغاية تلك الساعة.
وفي ذلك الحين كانت طائرات أردنية مقاتلة/هجوم أرضي من طرازَي "هوكَرْ هَنْتَر" و"سْتار فايْتَر F-105" تحَلّق في سماء المنطقة وتَنْقَضّ على إرتفاعات منخفِضة للغاية على المُهاجِمين، فارِضَةً على تقدّمها تأخيراً وتباطُؤاً ملحوظَين، وبالأخصّ حين أمسوا خارج مدى المدافع السورية البالغ (19) كيلومتراً، والتي كان المفترَض أن تُسنِد إندفاعهم نحو "جَرَش".
كان تعلّق الفلسطينيّين بـ"جرش" كبيراً بعد ذلك الهجوم الذي سيفكّ الحصار المفروض عليهم، ولربّما سيُعيد بعض التوازن الذي تَخَلْخَلَت كَفّتاه لصالح الأردنيين بالأيام الخمسة المُنصرِمة، ولذلك فقد هلّـلوا وكَبّروا آمِلين شيئاً أعظم في نهار اليوم التالي، وبالأخصّ وقتما إضطرّ الطيران الأردنيّ إلى إيقاف عمليات الإسناد الجويّ قُبَيلَ المَغيب، فإستثمر المهاجِمون ذلك ليتقرّبوا ليلاً حتى بلغوا السفوح الشمالية لمرتفعات "جرش"،،،، ولكن الأردنيّين من ناحيتهم إستغلّوا كذلك ساعات الليل ليُحرّكوا لواءَهم المُدرّع/40 ويُمَرْكِزوا دباباته الـ(150) من طراز (M-48) وبرفقتها كتيبة مشاة ميكانيكي مجهزة بناقلات الجنود المدرعة (M-113) الأمريكية وسط المرتفعات نفسها.
الهجوم المقابل الأردني
بُعَيْدَ طلوع شمس (الأربعاء- 23/أيلول) عُدنا للمرصد ذاته مع نواظيرنا المُكَبّرة، وتهيّأنا لمشاهدة أمور أشبه ما تكون بأحداث فِلْمٍ سينمائيٍّ حقيقيّ يُصَوَّر ميدانياً -ومن دون مقابل مادّي- أمام أنظارنا على مسافة لا تزيد على (7) كيلومترات وبإستخدام جميع أنواع الأسلحة الثقيلة البرّية والجويّة، كان مُنتِجوه قادة سياسيون ومُخرِجوه قادة عسكريّون، وكاتبو سيناريوهاته ضبّاط ركن، وكومبارسُه ضباط وجنود في رَيعان شبابهم، لم يجتازوا معاهد الفنون الجميلة ليَهْوَوْا التمثيل ويحترفوه، بل هم يُؤَدّون أدوارهم بكل ما أُوتوا من قوة وعزم ومن دون تَكَلّف أو إضطرار ليتقَمَّصوا شخصيّات الروايات التراجيدية.
لذلك فإن دماءَهم الطاهرة ستسيل على ((أرض العروبة والإسلام))، ومن دون حاجة إلى أصباغ وصَلْصات ذات لون أحمر، فالذي سيُصرَع ويُتوَفّى سوف لا ينهض ليحيا مرة ثانية، بل أن العديد ستتناثر أجسادهم أشلاءً لا يستطيع أحد التعرّف على إصحابها إلاّ من خلال أقراص معدنيّة مُعَلّقة في رقابهم ومعاصِمِهم، ولا أحد سيفقَه أو يُفْتي إنْ كانوا في حقيقتهم ((شهداء))، ولأجل ماذا يتقاتل مع أخيه المسلم- العربي؟؟ وأنّ الشاب الآخر الذي يفقد أحد أطرافه أو جزءاً من جسده سوف يواصل كلّ أعوام عمره مشلولاً أو مُعَوََّقاً، وستنساه الدولة بعد إنقضاء بضعة أشهر أو سنة على أكثر تقدير، ليُمْسي عالَةً يتضجَّر منه حتى أفراد عائلته وأقرب أقربائه ولغاية المَمَات.
وعلى أية حال فبينما ظلّ الطيران الأردنيّ ضاغِطاً بالتحليق والقصف المُبَرِّح بالمدافع الرشاشة والصواريخ على المُهاجِمين منذ الصباح الباكر ومن دون أن يُسقِط السوريون ولو طائرة واحدة أمام أنظارنا.. فقد بدا لنا أنّ الساعة التاسعة صباحاً كانت هي ساعة الصفر لقصف جويّ عنيف للغاية شنّته الطائرات الأردنيّة من جانب واحد وكأنها تتدرّب على ضرب أهداف متناثرة في ساحة رمي وليس بميدان معركة، فدُمِّرَت من جرّائه أكثر من (50) دبابة ومدرّعة.
وقد أعقب ذلك قصف مدفعيّ أردني أعنَف من طرف واحد أيضاً، وتسبّب بإلحاق أذىً كبير بالعشرات من ناقلات الجنود والعجلات والشاحنات المُنتَشِرة، والتي كان العديد منها يتفتت أجزاءً تتناثر هنا وهناك، وفي ظلّ محروميّة مُطْلَقَة للقوات التي أتت من الأرض السورية من أيّ إسناد جويّ لعدم توفيره لهذه العملية من حيث الأساس، وكذلك حرمانه من الدعم المدفعيّ لبُعد المسافة التي باتت تفصل القوة المهاجمة عن مدافعها الميدانية.
وسنعلم بعدئذٍ أنّ مجموعة قتال أردنيّة مؤلّفة من بضع دبابات ومشاة محمول وسط مدرعات قد تَوَغَّلت في جزء من الأرض السوريّة من إتّجاه تلول "البُوَيْضَة والحَمراء " مُباغِتَةً تلك المدافع ومُدمِّرة إيّاها وسط مواضع إنفتاحها وسَاحِقَةً بالسُرَف بعضاً من أقسامها.
ولذلك لم يكن القادة الأردنيّون على عُجالة في شنّ هجومهم المُقابل النهائي، ما داموا في مَكامِنِهم يُراقبون طائراتهم ومدافعهم ودباباتهم لتنال من خصومهم أقصى قدر ممكن في الأرواح والأسلحة الثقيلة، وقبل أنْ يأمروا في منتصف النهار بشنّ التعرّض النهائيّ وبكامل لوائهم المدرّع/40 للإجْهاز على مَنْ وما تَبَقّى في ساحة المعركة منذ الصباح... حتى حلّ وقت العصر ليمسي كلّ شيء وقد إنتهى... وبإعتقادنا أن أيّـاً من منتسبي ذلك اللواء المدرع ومشاته المحمول لم يَعُدْ إلى أهله سوى الذين سَلّمُوا أنفسهم للجانب الأردنيّ الذي أعادهم إلى السلطات السورية بعدئذٍ.
وكم تأثّرتُ من عبارة أطلقها "الرائد الركن نعمة":-
((لا أدري ماذا يحلّ بنا -نحن العرب- وقتما نُحارب "إسرائيل"؟؟ ولماذا نغدو بكلّ هذه الجرأة والبطولة والفروسيّة والهِمّة والغيرة والإندفاع بهذا الزخم حين نَتَقاتَل فيما بيننا؟؟)).
حقيقة التدخلات الأجنية
وبعد ذلك اليوم كانت وسائل الإعلام تورد من هنا وهناك أنباء عن إشتباكات مسلّحة بين قوات أردنية ومسلّحين فلسطينيين، ولكني لم أشاهد أياً من تلك الأحداث ولم أسمع إطلاق نيران أسلحة حتى الخفيفة منها، لا في المفرق أو جرش ولا على الطريق العام الذي كنا منفتحين على جانبَيه والبقاع القريبة منه... ولكن من الطبيعي أن لا أعرف مجريات الكثير من الوقائع -إن حدثت- في "عَمّان" وسواها، إلاّ أن مُجمَل تقارير إستخباراتنا اليومية لم تُشِر لذلك على قدر إطلاعي عليها.
وقد دار لغط كثير لدى البعض من وسائل الإعلام ((الثَورية))، بطلب الملك الحُسَين تدخّلاً أمريكياً وبريطانياً وإسرائيلياً لإنقاذ مملكته من براثن التدخّل العراقي والسوري، فأُجيب -على قدر مشاهداتي بالعين المجرّدة- رغم شغفي بالطيران وتمييزي لمعظم الطائرات، فإني لم أَرَ سوى الطائرات المقاتلة/هجوم أرضي الأردنية من طرازَي "هوكر هنتر" القديمة، و"ستار فايتر F-104" الأحدث، محلِّقةً بإرتفاعات منخفضة للغاية في أجواء "المفرق، جرش، الرمثا" طيلة تلكم الأيام الساخنة، وبالأخص يومَي (22-23/أيلول/1970)، إذْ يُفتَرَض أن الأردن كان بحاجة لإنقاذ ذاته.
المال الساحر- المسحور
وبعد أنْ أمسى الإخوة الفلسطينيون بأقصى درجات الإحباط في "جرش" إثر الإخفاق الذي أصاب ذلك التعرّض السوري المدرّع، فقد طرق سمعنا بالقرب من قرية "الرحاب" لَغَطاً بين آمر حضيرة الإنضباط (الشرطة العسكريّة) وضابط فلسطينيّ يحمل رتبة "نقيب" يروم الوصول إلى مقر الكتيبة، وهو يصيح عالياً باللهجة الفلسطينيّة ((بدنا عتاد.. بدنا سلاح.. بدنا نقاتل))!!!.
وفي خيمة آمر الكتيبة عَرَّفَ نفسه كونه النقيب "ذ.أ.م"، وإدّعى أنه فاقد لهويّته العسكريّة بالقتال الأخير، وظلّ مُصِرّاً على عدم التحدّث ولو بكلمة واحدة حول المشكلة التي أتى من "جرش" لطرحها، مـا لم يتمّ إيصاله إلى مقرّ القيادة العسكريّة العراقيّة الأعلى في معسكر "المفرق"، حيث يتواجد فيه -حسبما قيل- وزير الدفاع العراقيّ "الفريق حردان عبدالغفار التكريتي" وإلى جانبه قياديّ كبير من "منظّمة التحرير الفلسطينيّة".
وبعد إستحصال "الرائد الركن نعمة" موافقة قائد فرقتنا "العميد الركن إسماعيل تايه النُعَيْمي" الهاتفيّة لإحضاره أمامه، وحالما وصلنا لمقر القيادة حتى تَعالَى صياح "ذ.أ.م" مُطالباً بالعتاد والسلاح والقتال، وقبل أنْ يُؤْذَنَ لهما بالدخول إلى ذلك المقرّ الذي وجدتُه -عن بُعد- مُحاطاً بحراسة متنوّعة وأسلحة مختلفة بعضها غير عراقيّة ولا هي أردنيّة، ومن تلك التي لم أعهد رؤيتها في سابق الأيام.
لم يَطُلْ إنتظاري طويلاً في ساحة وقوف سيارات الزائرين حتى رأيتُ ذلك القياديّ الفلسطينيّ وهو يودّعه بباب "مقر قيادة قوات صلاح الدين" العراقية، ولكن "ذ.أ.م" كان قد تَوَقَّفَ عن الصياح بعد أنْ حمل بين يديه مُغَلَّفاً مُغلَـقاً ليودّعنا شاكراً بالقرب من قرية "الرِحاب"، وقبل أنْ يُبيح "نعمة فارس" لي أنّ ذلك الظرف إحتوى (20.000) دينار أردنيّ، والذي يعادل في حينه (63.000) دولار أمريكي.
ومن غريب الأقدار أن ألتقي مع هذا الضابط الفلسطيني لعام دراسي كامل سنة 1973، وقتما أصبح برتبة "رائد" لدى "الجبهة العربية لتحرير فلسطين"، وبصفة ضابط تلميذ في صفوف كلية الأركان والقيادة العراقية.
تطورات سياسية متعاقبة
لستُ عاجزاً عن سرد الأحداث والوقائع السياسية التي أعقبت أحداث أيلول/1970، ودعوة الرئيس "جمال عبدالناصر" لوقف إطلاق النيران فوراً ومداخلات الزعماء العرب وحضور عدد منهم في "عَمّان" ونقل السيد "ياسر عرفات" من العاصمة الأردنية إلى "القاهرة" سِرّاً، وإعلان الملك الحسين يوم (26/أيلول) قبول إستقالة "العميد محمد داوود" التي قدّمها من "القاهرة"، وتكليف السيد "أحمد طوقان" بتشكيل وزارة مدنية قبل أن يُستَبدَل بعد شهر واحد بالسيد "وصفي التَل" في وزارة أشبه بحكومة طوارئ، وسفر العاهل الأردني إلى "القاهرة" والتوصّل لإيقاف النار بين الطرفين، وعقد آخر مؤتمر قمة عربي برعاية الرئيس "عبدالناصر" قُبَيلَ وفاته بجلطة قلبية يوم (28/أيلول/1970)، ثم الخلافات التي دَبَّت بين "صلاح جديد وحافظ الأسد" والتي إنتهت بتَبَوُّء "الأسد" كامل مقاليد السلطة في (16/ت2/1970).
الزعماء العرب في القمة الطارئة التي دعا إليها الرئيس "عبدالناصر" قُبَيلَ وفاته
إلاّ أن العديد من السادة الباحثين والكتاب والأساتذة العرب والأجانب غطّوا تلك الوقائع بغزارة غير مسبوقة، كلٌّ حسب زاويته ومعتقده وإتجاهه السياسي وإنتماءاته لهذا الطرف أو ذاك، وبإمكان أي متابع الأطلاع على تفاصيلها في مواقع التواصل.
لذلك رأيتُ من الأفضل أن أعفي قَلَمي عن خوض هذا المعترك، لأكتفي بسرد غير مسبوق لمشاهداتي الميدانية بالعين المجردة، والتي أعتقد أن لا أحداً قد نحى نحوها من قبلُ، على قدر علمي ومتابعاتي المتواضعة.
آخـر أيامنا الُمحزِنة
وبينما واصلنا مرابطتنا في العراء وسط الخيم على جانبَي الطريق العام "المَفرَق-جَرَش" لشَهرَين كامِلَين قبل أن نعود إلى مواضعنا المحفورة غربيّ "المَفرَق" إثر إشتداد البرد القارس وغزارة الأمطار، فقد إستفرد الجيش الأردني بمَن تبقّى من المسلّحين الفلسطينيين أينَما وُجِدوا أو إختبأوا وسط المدن الأردنية وقُراها ومخيّماتها، وكَأَنّ تفاهمات سِرّية قد أُبرِمَت وراء الكواليس بين "عمّان" وجميع العواصم العربيّة.
ويبدو أن كُرَة الجليد في "بغداد" لتسيير وتوجيه جميع تلك المُعضِلات العنيفة، قد قُذِفَ بها في ملعب "القيادة القومية لحزب البعث العربي الإشتراكي" بالعاصمة العراقية، وهي التي آلَت على نفسها إدارة الأزمة بإعتبارها ((مهمّة قومية لتحقيق الوحدة العربية))!!! وليست مجرد ((واجب عسكري وطني)).
لكننا -نحن وحدات الجيش العراقي في الأردن- ولسوء طالِعِنا وإنعدام الواقعيّة لدى العديد من أولئك ((القادة القوميّين المتطرِّفين)) حيال المواقف السياسية ذات الحسّاسيّة المفرطة بالمستوى الإقليمي والعالمي وتشبّثهم بـ((الثَوريّات والفَوريّات)) والشعارات الطَنّانة والطروحات الرَنّانة، فقد مرّت الأيام عصيبة على الفدائيّين الفلسطينيّين الذين سيُجْبَرون على مغادرة "جرش" المُحاصرة وأحراشها خلال بضعة أشهر إلى خارج الأراضي الأردنية بعد عدد لاحق من الإشتباكات الدموية، وبالأخصّ نحو "لبنان" الذي سيستقبلهم على مضَض.
أما -نحن الجيش العراقي في الأردن- فقد غَدَونا بوضع لا نُحسَد عليه في أنظار كلا الطرفَين المُتَخاصِمَين، يُضاف إليهما طرف ثالث ممثَّلاً في القيادة السورية التي رأت أن كان الواجب علينا الإنضمام بلواءَينا المُدرَّعَين/6 و12 وجميع تشكيلاتنا ووحداتنا إلى لوائهم المدرع المُهاجِم، لننقضّ سوية على النظام الأردني ونمحيه من الوجود ونُسلِّم "عَمّان" بين أيدي قادة المنظمات الفلسطينية!!!
وأخيراً لا حمداً ولا شكوراً
وفي حين رأى الإخوة الفلسطينيّون من ناحيتهم أنّنا لم نكن ((أوفياء)) معهم، كوننا قد سَخّنّا مشاعرهم وشجّعناهم حتى جاء اليوم الموعود فتركناهم أيتاماً!!! فإن الإخوة الأردنيّين نظروا حيالنا بمثابة ((أعداء)) لدولتهم ونظامهم السياسي، إعتقاداً منهم أنّنا أَسْنَدْنا الفلسطينيّين ودعمناهم حيال مملكتهم المعروفة بالإستقرار المشهود من الناحيَتَين السياسيّة والأمنيّة منذ إعلان تأسيسها رسمياً تحت مسمّى "إمارة شرق الأردن" يوم (11/نيسان/1921).
لذلك لم تَنْقَضِ سوى بضعة أشهر، وقد أمسينا خلالها مكروهين وغير مُرَحّبٍ بنا في كل من "جرش، عمّان، دمشق" على السواء، فتقررّ أن تعود القوات العراقية أدراجها إلى الوطن، إبتداءً من مطلع العام القادم (1971)، تاركين مسلّحي المنظمات الفلسطينيّة ليُلاقوا مصيرهم ويتصارَعوا في سبيل البقاء.
والذي أزعجني ولحد هذه الساعة، أننا في تلك الأسابيع التي تلت إنتهاء مهمتنا على الطريق العام "المفرق-جرش"، وقبل إعلامنا ببدء عودتنا إلى العراق، فقد بُلِّغنا بعدم النزول إلى "عَمّان، إربد، الزرقاء" بالقيافة العسكرية، وكذلك مُنِعنا من إجتياز الحدود نحو الأرض السورية!!!!
والمستغرب أن لا أحد من القادة الأردنيين كلّف ذاته لزيارتنا ولو على سبيل المجاملة قبل مغادرتنا أرضهم، والتي رابطتنا في بقاعها (44) شهراً، وقدّمنا في غضونها قرابين من شبابنا المجاهدين والصابرين الذين رووا بدمائهم الطاهرة ثرى مقبرة الشهداء العراقيين في "المفرق" متناسين الدعم المالي والتسليحي والتعاون الثنائي المضطرد بين الجيشين... وكذلك ينطبق الحال على القادة السوريين الذين رابطنا في بقاعهم (18) شهراً.
بل وينطبق أكثر منهم على القادة الفلسطينيين الذين مَوَّلَهم "العراق" من موازناته وقوت شعبه وسلَّحَ منظماتهم ودرَّبَ مسلّحيهم وساندهم سياسياً لدى المحافل العربية والعالمية.
كان فوجنا آخر الوحدات المقاتلة التي غادرت تلك البقاع من مدينة"المفرق" نهار (الأحد 21شباط/1971) حيث ألقينا نحو أرض المملكة الأردنية بعد عبورنا نقطة حدود "طريبل" نظرات مفعمة بمشاعر وأحاسيس متنوّعة، فقد تركنا وراء ظهورنا ذكريات من سِنِيّ شبابنا وكانت مريرة بمعظمها وحُلوة في بعضها، لنتعايش (4) أشهر عُجاف تحت ظلال الخيم وسط العواصف الرملية النهارية لصحراء (H-3) القاحلة الجرداء ذات الأفاعي الغبراء والعقارب الصفراء ولياليها الباردة، وذلك قبل أن يتحرّك لواؤنا إلى محافظة "واسط/الكوت" لنـُعَسكِر وسط بقاع قضاء "العزيزية" وعلى مقربة من الحدود مع "إيران"، قبل أن نُقْحَمَ في معضلات أخرى سوف لا تنتهي!!!
898 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع