د.سعد ناجي جواد
الانتخابات الامريكية.. هل هي ديمقراطية حقا؟ وكيف اوصلت هذه الديمقراطية رئيسا غير منتخب الى سدة الحكم؟ وهل سَتوصِل هذه المرة سيدة لحكم اقوى دولة في العالم؟
كُتَّاب راي اليوم الافاضل اسهبوا واجادوا في وصف الديمقراطية الامريكية التي يمكن ان تنعت بالغريبة. وساحاول ان اضيف بعض الحقائق لاعطاء فكرة مضافة عنها وعن غرابتها.
إبتداءا اتمنى ان لا يُفهم من كلامي انني اشكك في حقيقة وجود انتخابات ديمقراطية في الولايات المتحدة. رغم وجود حقيقة ثابتة تقول ان هذه الديمقراطية قد انحرفت عن مسارها كثيرا وانقلبت لكي تكون تجربة لحكم اقلية متنفذة تاتي عن طريق الديمقراطية، ونظام انتخابي يساعد على وصول الاقل كفاءة لحكم البلاد. وهذ الامر اصبح واضحا في العقود الخمسة الاخيرة، وخاصة بعد فترة حكم الرئيس جيمي كارتر، الذي يعد من الناحية الموضوعية الرئيس الاكثر استحقاقا لشغل هذا المنصب، ومع ذلك فشل في الحصول على فترة ثانية وخسر امام ممثل سينمائي من الدرجة الثانية (رونالد ريغان). كما ان كل الكتابات والتقييمات توكد ان جورج بوش الاب، رغم الاختلاف الكبير معه بسبب ما قام به من تدمير للعراق، كان كرجل دولة يتقدم باشواط على بيل كلنتون، الذي فاز عليه وحرمه من ولاية ثانية. الملفت للنظر ان كلينتون زادت شعبيته، وهنا المفارقة، رغم فضائحه الاخلاقية وفاز بدورة ثانية. وكذلك الحال مع آل غور وبوش الابن، فالاول كان من ناحية الاداء والتفكير والشخصية كان يبدو اكثر عمقا من الثاني، ومع ذلك فاز بوش الابن عليه. ثم فاز بولاية ثانية، رغم انه وجر العالم، بسبب احتلاله للعراق، الى كوارث لا يزال العالم يعاني منها لحد الان.
هناك من يقول ان من يفهم المجتمع الامريكي لا يتعجب من وصول شخص مثل ترامب، او بوش الابن قبله، الى حكم القوة الاولى في العالم. فكما هو معروف ان السطحية والقضايا الداخلية هي ما يحكم تفكير الغالبية العظمى من الشعب الامريكي، ولهذا لم يكن من الصعب على شخص مغرور وجاهل بالامور السياسية مثل ترامب ان يخدع الناس لكي ينتخبوه، لا بل ان الصفات التي يفترض ان تشكل مثلبة عليه، مثل النظرة العنصرية وتعامله مع كل القضايا باسلوب مادي مقيت، اكسبته تاييدا اكثر. علما بان الانتخابات الامريكية هي بالاساس تحركها رؤوس الاموال الكبيرة التي تنفق عليها وتتبناها، وهذا امر لا يحتاج لتفصيل اكثر.
على كل حال فان ترامب سيصبح قريبا، ورغم كل التوقعات التي قالت عكس ذلك، الرئيس الاول الذي فشل في الحصول على دورة ثانية منذ فشل بوش الاب في انتخابات 1992، على الرغم من انه (ترامب) حصل في هذه الانتخابات على ثلاثة ملايين صوتا اكثر مما حصل عليه عندما انتخب رئيسا في عام 2016.
حقيقة ان هناك ديمقراطية امريكية قد تجلت بصورة واضحة بمشاركة اكثر من 158 مليون شخص فيها. ولكن من يتمعن في النظام الانتخابي يجد ان هذه الديمقراطية تنتهي عند ادلاء الناخب بصوته الذي يذهب ليس للشخص المنتخب وانما للمجمعات الانتخابي ( electoral colleges )، وهذه المجمعات هي التي تنتخب الرئيس. وعدد هذه المجمعات يختلف من ولاية الى اخرى، ( تتراوح بين 55 مجمعا لكاليفونيا بينما تنخفض في ولايات اخرى الى 3 فقط). المفارقة الاخرى ان هذه المجمعات لا تتجزأ، بمعنى اذا كانت الاصوات المشاركة في الانتخابات في احدى الولايات قد انقسمت بالتساوي بين المرشحين الاثنين فان عدد المجمعات جميعا يحتسب لصالح المرشح الذي قد يفوز على الاخر ولو باصوات بسيطة. وهذا ماحدث مع جورج بوش الابن الذي كان قد اعترف بهزيمته في انتخابات 2000, ثم ظهر انه تفوق على ال غور ب 537 صوتا فقط في ولاية فلوريدا، فحصد كل اصوات المجمع الانتخابي (29 مجمعا انتخابيا) لتلك الولاية وفاز برئاسة الولايات المتحدة بهذا الفارق الضئيل.
المفارقة الاخرى في الانتخابات الامريكية وبموجب نظام المجمعات الانتخابية هي ليس من الضروري ان يكون الفائز هو المرشح الذي يحصل على الاصوات الاعلى، وانما على من يحصل على 270 مجمعا او اكثر، وهكذا فان بوش الابن فاز على الرغم من حصول منافسه على عدد من الاصوات اكبر، وكذلك مع ترامب الذي فاز على هيلاري كلنتون على الرغم من ان الاخيرة حصدت ما يقارب ثلاثة ملايين صوتا اكثر منه.
من ناحية اخرى فان نتائج هذه الانتخابات قد تحمل مفاجاءة اخرى. هناك اراء تقول ان من الصعوبة ان يصوت الناخب الامريكي لصالح امراءة لتشغل منصب رئاسة الجمهورية في الولايات المتحدة، وهذه الفكرة راجت بعد فشل هلاري كلنتون، ولكن يبدو ان النظام الانتخابي الامريكي هذا يمكن ان يحقق ما رفض الجمهور الانتخابي التصويت عليه قبل اربعة سنوات. فكما هو معلوم ان السيد بايدن اختار السيدة كمالا هاريس، وهي اميركية ملونة، لتكون نائبة له. وبموجب الدستور فانه في حالة وفاة الرئيس او عجزه يتولى نائبه الحكم للفترة المتبقية من حكمه بدلا عنه. ونظرا لتقدم سن بايدن، ولظهور بوادر الشيخوخة عليه خلال المناظرات والجولات الانتخابية، فربما لن يتمكن من اكمال فترة رئاسته، وفي احسن الاحوال فانه سيكون من الصعب عليه ان يُقنِع الناس بانتخابه لفترة ثانية وهو قد تجاوز الثمانين من العمر، بعد اربع سنوات. ولهذا فان هناك فرصة كبيرة ان تنجح سيدة في الحصول على المنصب لاول مرة اما بصورة غير مباشرة في حالة شَغَرَ منصب الرئيس، او في الانتخابات القادمة اذا ما احسنت القيام بمهامها. وبالمناسبة ان هذا النظام هو نفسه الذي اوصل في عام 1974 الرئيس جيرالد فورد الى منصب رئيس الحمهورية ليكون اول رئيس غير منتخب لهذا المنصب. فبعد ان تورط الرئيس نيكسون في فضيحة وترغيت الشهيرة، (وهي بالاساس فضيحة استُغِلَت بل وأُثيرَت من قبل اللوبي الصهيوني لعزل نيكسون الفائز لتوه بفترة ثانية خشية ان يمارس ضغوطا اكبر على اسرائيل)، تم تخيير نيكسون بين الاستقالة او الخضوع لمحاكمة قد تدينه وتُدخِلُه السجن. ثم ازدات مشاكله عندما كذب وقال انه لم يكن يعلم بالفضيحة، وهو كان يعلم، واستقال نائبه الذي إنتُخِبَ معه (سبيريو اغنيو) خشية ان يتورط هو الاخر بنتائج الفضيحة. في تلك الايام العصيبة تفتق ذهن نيكسون عن فكرة تصورها ذكية مبنية على اساس اختيار شخص ضعيف وغير معروف ليحل محل النائب المستقبل، ظنا منه ان الكونكرس سيفكر اكثر من مرة قبل ان يُجبره على الاستقالة، خاصة اذا كان البديل ضعيفا، ولكن الكونكرس اصر على موقفه واضطر نيكسون ان يستقيل ليصبح جيرالد فورد رئيسا غير منتخبا في ظل نظام ديمقراطي عريق تشوبه الكثير من المثالب.
واخيرا وليس اخرا، ومهما كانت نتائج الانتخابات الحالية فان ما حصل خلالها احدث شروخا كبيرة في النظام الديمقراطي الامريكي، وكذلك المجتمع ككل. وتمثل الشرخ الاول، الطعن ولاول مرة في تاريخ الانتخابات الامريكية، في نزاهة الانتخابات واجراءاتها وطريقة فرز الاصوات. والثاني هو لجوء احد المرشحين (ترامب) الى تحريض مؤيديه للنزول الى الشارع والتعبير عن رفضهم وبالعنف احيانا، لنتائج الانتخابات المرتقبة، والثالث هو محاولة نفس المرشح اجبار القضاء على الحكم لصالحه على الرغم من ان ادعاءاته لم تكن مرفقة بادلة واضحة على حدوث خروقات. كل هذه الامور ستتطلب من الرئيس الديمقراطي المنتخب، ان يبذل جهودا استثنائية لرأب هذا الصدع. خاصة وان هناك من لا يزال يحرض ترامب على الاستمرار في التشكيك او في حثه على الاعداد لترشيح نفسه مرة ثانية بعد اربع سنوات، حيث سيكون هو بعمر بايدن الان، مما سيدفعه الى الاستمرار في خلق المشاكل في الداخل الامريكي للرئيس الذي هزمه.
عربيا يجب ان لا تُفرِحْ هذه النتائج العرب، لسبب بسيط ان السياسة الامريكية لم ولن تتغير تجاههم. بل ان هذه السياسة منذ احتلال وتدمير العراق قد وضعت العرب وقضاياهم على الرف. وآخر دليل على ذلك ان المناظرات الاخيرة بين المرشحين الاثنين قبل الانتخابات لم تتطرق الى العرب والقضايا العربية ولو بكلمة بسيطة. اضف الى ذلك ما بدا يترشح من افكار امريكية عن ضرورة الاعتماد على مراكز قوى اقليمية غير عربية مثل تركيا واثيوبيا وحتى ايران، بالاضافة طبعا الى اسرائيل، فهل سينتبه الحكام العرب لذلك، ام ان سياستهم المبنية على الانبطاح للقوة الامريكية لن تتغير؟ وريما يتوجب على العراقيين ان يكونوا اكثر قلقا لأن الرئيس المنتخب السيد بايدن كان اول من تحدث علانية عن فكرة تقسيم العراق الى ثلاث كيانات منفصلة ايام كان نائبا للرئيس. وفي ظل حالة الفوضى التي تعم العراق لا يوجد ما يمنعه من طرح الفكرة مرة ثانية.
1874 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع