احمد الحاج
ما أجملك ياعصر البازة وما آمنك يا عصر الزنبور!
ارتبطت البيجاما المخيطة من قماش البازة الصيني المخطط - لا أعلم يقينا لماذا كانت جميعها مقلمة كالحمار الوحشي- في ذاكرتي بصور رائعة، ففي عصر البيجاما (أو "المنامة" كما يحلو للغويين تسميتها) كان العراق يمتلك خامس أقوى جيش في الشرق الأوسط ، في عصر البازة كانت الخطوط الجوية العراقية تمتلك خيرة الطائرات والطيارين ،في عصر البازة كان في العراق آلاف بل مئات الآلاف من الأطباء والمهندسين والصيادلة والمحامين والتشكيليين والمسرحيين والسينمائيين ممن يشار اليهم بالبنان بعد أن درسوا في أرقى الجامعات البريطانية والفرنسية والأميركية والروسية والبلغارية والهنغارية والبولندية والرومانية .
في عصر البازة كنت تسير وحدك بعد منتصف الليل غير آبه من دون أن يعترض طريقك أحد ويسألك "وين رايح؟ منين جاي؟" ، في عصر البازة كنت تترك سيارتك كما فعلت يوما مفتوحة الأبواب في ساحة التحرير حتى اليوم التالي لتجدها على حالها كما هي من دون أن تفقد منها شيئا ، كنت تترك باب الدار مفتوحا من دون أن تخشى من غريب ملثم يقتحم عليك دارك وغرفة نومك عند الفجر ليكتم انفاسك..في عصر البازة كان الجار للجار، الصديق للصديق، الشقيق للشقيق، القريب للقريب !
في عصر البازة لم تكن بحاجة الى هوية ثانية للمرور في أحياء من بغداد قد تفقد فيها عنقك لأنك من غير ملتها ، في عصر البازة كانت سيارة شرطة واحدة تضبط الأمن ابتداء من جامع الفرقان في منطقة الصليخ وحتى جامع العاني في الوزيرية، حيث لا حواجز ولا نقاط تفتيش ولا جدران كونكريتية ولا داعش ولا ماعش ، في عصر البازة كان المدرس العراقي يحرم بيع الأسئلة للطلبة مهما كان الثمن،كان القاضي يأنف من تقاضي الرشى ولو تعرض الى أشد المحن ،كان الموظف يستحي من "التسخيت" مهما كثر العمل وامتد الوقت وطال الزمن ووو.. الله عليك يا أيام البازة التي انقرضت كما الديناصورات في العصر الجليدي، في عصر البازة لم تسمع بمسجد أو مدرسة أو وزارة أو مصنع واحد، واحد فقط،أحرق او دمر أو نسف أو سرق كما يحدث اليوم جهارا نهارا، عيانا بيانا مع الاكتفاء بفتح تحقيق بالحادث ستعلن نتائجه - بالمشمش - ولو بعد عمر طويل !
اليَّ ببازة مقلمة مضحكة واحدة كالحمار الوحشي واليكم ببدلات العصر"الدم قراطي" الأنيقة ورجالاته ممن يتسنمون المناصب حفاة، عراة، غرلا ويخرجون منها من أصحاب الملايين، وكانوا في وعودهم التي قطعوها للناخبين من الكاذبين ،بيجاما بازة مقلمة واحدة وخذوا كل سياسيي العراق بعيدا عنا !
واذا كان عصر البازة جميلا فما أمنه عصر الزنبور ولا شك ، قبل أيام سمعت صراخا في بيت الجيران،هرعت مسرعا وأنا اذرع المسافة بين مطبخنا وباب الجيران حافي القدمين ظنا مني بأن عصابة اجرامية مسلحة تتحرك وسط بغداد بكل – حرية ونزاهة وشفافية – كتلك التي تختطف الناشطين في تظاهرات ساحة التحريروبقية الميادين وبشكل دوري وتقتادهم الى جهات مجهولة ليبدأ بعدها مسلسل المفاوضات على قيمة الفدية ومكان التسليم والاستلام والوساطات بين عصابة وأخرى وبيع الضحايا من واحدة الى ثانية كما يحدث في المقاولات الرســـــــمية وليتم الأفراج عنهم لإخافة بقية النشطاء وقبض الثمن أو قتلهم أو اختفائهم كما حدث مع الكثيرين وليظهر مطلقو السراح ابطالا لايشق لهم غبار يستحقون نظم قصائد المديح والثناء صباح مساء – بكل اريحية وديمقراطية – مع الحرص على إلقاء علب مشروبات كحولية فارغة بعيد الاختطاف لأبعاد الشبهات عن اية ميليشيات راديكالية يمينية، وان كان الترياق والافيون والحبوب المخدرة والحشيش التي يتناولها اليمينيــــــون ويتاجرون بها ويصنعونها ويزرعــــونها ويهربونها في العراق اليوم أشد فتكا من – البيرة – الملقاة على جانب الرصيف والتي عادة ما يعاقرها اليســــاريون – لتدويخ الجمجمة الثورية واراحتها قليلا من أعباء النضال الثوري من اجل الوطن ،وكلاهما في الهوا سوا، المهم اقتحمت منزل الجار وسحبت “سركي” باب قديم احتفظ به للطوارئ لإيهام اللصوص بأنني اسحب اقسام كلاشينكوف وهي خدعة – أعتك من الباميا – يستخدمها المسالمون في عصر الخيبة وبالفعل - جججق - مصحوبة بسلم نفسك أحسن لك ،المنزل كله محاصر، كما في فيلم اللص والكلاب ولكن الصراخ مازال مستمرا واذا بالجارة تبكي وتولول هاربة من المنزل وهي تصرخ بأعلى صوتها " زنبووور...أحمر !" .
وبمجرد أن سمعت بأسمه الموسيقي - زنبووور- حتى تحولت الى مخلوق ملائكي مسالم وبدأت هالات الكهربائية الاستاتيكية تظهر فوق رأسي تباعا كما في الصور المنسوبة الى القديسين – في افلام الكارتون – وتذكرت كيف كنا في عصر الزنابير الحمراء والصفراء التي انقرضت منذ زمن بعيد نذهب الى المدرسة مرتدين ملابس وأحذية - باتا - وقمصان من صناعتنا الوطنية حصرا " من منتجات معمل الخياطة في الوزيرية ، شركة ولدي في الموصل ، شركة ار ام سي للملابس الجاهزة في المحمودية وغيرها" وبعد تناول الفطور وكل اصنافه من منتجات مصانعنا المحلية وفي مقدمتها " البان ابو غريب ،ومربيات تعليب كربلاء ومنتجات بيت بنية،ومعمل بسكولاته، ومنتجات الزيوت النباتية " لنصعد وبكل أمان وسلام في الباص الاحمر ذي الطابقين أو الاصفر– سكول باص – ذي الطابق الواحد بعد ان نصحو على صياح الديك وزقزقة العصافير وهديل الحمام ونحن نردد تناغما معها – كوكو ختي ، وين اختي ...- لنودع بدعوات الجدات والامهات والجارات والعمات والخالات – الكل كان يدعو لنا بالحفظ والموفقية والنجاح والسلامة حتى زوجة ابو خالد العطار الحسودة وعمة صديقي منير الحقودة !
كانت الفراشات تحوم من حولنا في كل مكان لتبعث في نفوسنا الدفء والسكينة، كنا نحمل حقائبنا المدرسية على ظهورنا ونحن نتغنى بالبلبل الفتّان الذي يطير في البستان ، ويغنّى على الأغصان بأعذب الألحان” وسط عالم ملئ بالدعاسيق والمغزل دادا وفرس النبي والشعر بنات، ولكنه خال من الميليشيات المسلحة والعصابات الاجرامية والمخدرات الفكرية والرقمية والصناعية ،عراق خال من الانتحار والسطو المسلح وقطع الطرق وسرقة المال العام والتزوير والاختلاس، صديقي جودت كان تركمانيا ،صديقي سردار كان كرديا ، صديقي دانيال كان مسيحيا ، صديقي عمر كان سنيا ، صديقي كرار كان شيعيا ، صديقي فيصل كان صابئيا ،كنا نحب بعضنا بعضا ولم نكن نعلم ، بل ولم نكن نريد ولا اهلنا ان نعلم بأن الحواجز والخنادق والاسلاك الشائكة القومية وحقول الالغام الطائفية وخطابات الكراهية ،ستفرق بيننا عنوة ذات يوم بغياب الزنبور وظهور المحذور، كيف لا ولهيبة الزنبور حضور وأن كره اللسع أو خاف هيبته وطلته بعضهم ،حتى بتنا نردد :
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم …ولا سراة إذا جُهّالهم سادوا
اودعناكم اغاتي
2986 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع