د. سعد ناجي جواد
قضاة اعرق حضارة وضعت اول القوانين البشرية يقفون متفرجين على قضاة الغرب وهم يطبقون ما سطرته حضارة اجدادهم في وادي الرافدين
الحديث عن الفساد في العراق اصبح حديثا مملا ومكررا وسقيما وبدون اي فائدة. والسبب ليس في تفشي هذه الظاهرة او لكونها لا علاج لها، وانما بسبب الاستمرار في الاعتماد الكبير على الفاسدين وعدم اتخاذ إجراء واحد لمحاسبة رأس من رؤوس الفساد. وفي كل يوم تظهر حقائق جديدة واساليب مبتكرة في سرقة اموال العراق، يقف القضاء العراقي منها موقف المتفرج. قبل ايام نشرت صحيفة النيويورك تايمز الامريكية المعروفة بحثاً مطولاً وعميقاً وجديراً بالقراءة اكثر من مرة عن (دولة اللصوص) في العراق، وفي الوقت الذي اذهلت الحقائق التي وردت في هذه الدراسة كل من قراءَها والاساليب المبتكرة والمفضوحة في نهب ثروات العراق، وصلتني مقالة باللغة العربية تتحدث عن صفقة فساد كبيرة جداً تم تمريرها، يؤكد كاتبها ان هذه الصفقة لم تكن لتمر لولا موافقة الرئاسات الثلاثة عليها (الجمهورية والوزراء والنواب)، ولولا اقرارها من مجلس النواب وعدد غير قليل من الوزراء والمدراء العامين في الدولة.
ما يهم في الامر ان ماورد في مقالة النيويورك تايمز، يجب ان يعتبر بالعرف القضائي والقانوني بمثابة بلاغا للنائب العام ومجلس القضاء الاعلى العراقي، لكي يقوما بدورهما بالتحقيق في ما ورد فيه من حقائق واثباتات. ولكن كما حدث في السنين السابقة ومنذ الاحتلال البغيض فإن القضاء لم يُحرك ساكناً في هذا المجال.
لا اريد ان اتهم القضاء العراقي باية اتهامات، لا بل اعترف بأن قلمي لا يقوَّ ولا يجرؤ على الطعن به من شدة تقديري واحترامي للقضاء والقضاة العراقيين الذين عاصرتهم او زاملتهم من خلال عملي الجامعي، او من خلال مراجعة ابداعات قضاة كبار وتميزهم في استنباط الاحكام التي كثيراً ما اصبحت تدرس في كليات واقسام القانون في العراق وفي الخارج. ولكني مع ذلك اسمح لنفسي ان اعاتب هذا الجهاز العريق قليلاً واقول لقادته أليس من المعيب ان يقوم قضاة اجانب لا يمتلكون الجنسية العراقية باصدار عقوبات بالسجن والغرامة على فاسدين عراقيين وغير عراقيين دمروا ولا يزالون، الاقتصاد والمجتمع العراقي؟ ألا يحز في نفوس القائمين على القضاء العراقي الشريف والاعرق، والذي سن اول القوانين، ان ينأوا بانفسهم بعيدا عن اتخاذ اي اجراء يذكر في هذا المجال؟ بل واسمح لنفسي ان ازيد بالقول اليس من موجبات الحفاظ على الكرامة والسمعة الشخصية والعائلية والوطنية والحفاظ على التاريخ المشرف لاي قاضي ان لا يقف متفرجاً على تفشي الفساد، وان عجز فعليه ان لا يستمر في وظيفته وفي ممارسة عمله وهو لا يفعل شيئا للتخفيف من معاناة الغالبية العظمى، او بسبب عدم قدرته على فضح ولو بعض جوانب هذه الآفة المستشرية؟
ان ما يدفعني لكي اقول ذلك ما صدر موخراً عن محكمة بريطانية من احكام بشان مالكين وموظفين في شركة نفطية دولية قاموا بدفع رشاوي وشراء ذمم لوزراء نفط ومسؤولين عراقيين من اجل الحصول على عقود نفطية مضرة بالاقتصاد العراقي. ان هذه الاحكام لا بد وان تدفع الكثيرين للقول: اليس من المعيب، والمؤلم في الوقت نفسه، ان اجراء كهذا متعلق بالعراق تقوم باتخاذه محاكم اجنبية ولا يقوم به القضاء العراقي؟ وان مثل هذا الاجراء الذي استغرقت فيه محاكم دولية مرموقة سنين، معتمدة على جهات وموسسات تقصي حقائق كثيرة، لا يقابله اجراء مشابه تجاه المتورطين بنفس هذه القضايا من حملة الجنسية العراقية؟ الا تحز في نفس المسؤولين عن القضاء العراقيين رؤية قسم غير قليل ممن تسببوا بافقار العراقيين وهم يحتلون مناصب رفيعة في الدولة في حين يبقى القضاء عاجزا عن محاسبتهم؟
طبعا هذه الحادثة لم تكن الاولى او الوحيدة. ففي حادثة مؤلمة اخرى اتيحت لي الفرصة فيها لكي اتواصل مع احد المراسلين الذين كشفوا وفضحوا الصفقة الفاسدة المتعلقة بتزويد العراق بما عرف باجهزة كشف المتفجرات، هذه القضية التي اصدرت المحكمة البريطانية فيها حكماً بسجن احد مالكي الشركة، (بعد ان تطوع شريكه والمالك الثاني للشركة بفضح الصفقة لان اخلاقه وضميره، وهو الاجنبي وغير المسلم، لم يسمحا له بالمشاركة فيها رغم مردوداتها المليونية). واردت ان اعرف بعض التفاصيل او بعض الاجوبة، حيث تسربت معلومات من المحاكمة تقول ان هناك اطرافا عديدة من وزارة الداخلية العراقية والكيانات الحاكمة متورطة في هذه القضية، وان مالك الشركة الذي صدر بحقه حكما بالسجن وسجن بالفعل، قام بفتح حوالي عشرين حسابا لمسؤولين عراقيين مشاركين في العملية في احد البنوك في عاصمة عربية لايداع حصصهم من هذه الصفقة الفاسدة. الا ان همزة الوصل اخبرني بان المالك الثاني يرفض اعطاء معلومات جانبية لانه زود المحكمة بكل المعلومات التي لديه، والاهم ان الحكومة العراقية ارسلت مندوبا عنها الى لندن زودته المحكمة بكل التحقيقات والمعلومات التي اعتمدتها المحكمة في اصدار احكامها بشان الصفقة والمتورطين بها. ثم عاد هذا المندوب الى العراق ولم يتم اتخاذ اي اجراء من قبل القضاء العراقي، وتسترت الداخلية العراقية في حينها على القضية بعد ان اتهمت شخصا واحدا على اساس انه المسؤول الوحيد عنها، ثم لمح لي المصدر بطريقة ساخرة ان المندوب الذي ارسلته الحكومة كان من ضمن الذين تم فتح حساب لهم في العاصمة العربية. ولا يزال جميع المتورطين في هذه الصفقة يحتلون مناصب عليا او قيادين في كتل حاكمة، والادهى من ذلك ان بعضهم، شانهم شان وزراء ومسؤولين كبار سابقين عديدين، لازالوا يطلون علينا يوميا من على شاشات الفضائيات لكي يحدثوننا عن النزاهة والشرف وضرورة محاربة الفساد في العراق!!
اما القضية او الفضيحة الثالثة التي وقف القضاء العراقي متفرجا عليها، في الوقت الذي فضحها نواب في مجلس النواب الاردني، (وليس مجلس نواب العراق)، وسمّى المشتركين فيها، فكانت قضية تمرير صفقة كبيرة من بسكويت الاطفال المغذي التي توزع على طلاب المدارس الابتدائية العراقية ضمن برنامج ترعاه الامم المتحدة، والتي اكتشفت صحفية شجاعة ان الشحنة الكبيرة، التي كان يفترض ان تغطي مدارس العراق من اقصاه الى اقصاه، كانت منتهية الصلاحية، وقام الفاسدون بتأجير عمال لكي يبدلوا الاغلفة بأغلفة جديدة تحمل تاريخاً مزورا للصلاحية. وفي الوقت الذي قامت به الامم المتحدة بمعاقبة المسؤولين عن هذا البرنامج وتكريم الصحفية الاردنية بوسام تستحقه لم يتخذ القضاء العراقي اي اجراء تجاه المسؤولين في وزارة التربية العراقية الذين تواطؤوا في مثل هذه الجريمة. علما ان شحنات كثيرة من هذه الصفقة الفاسدة قدم تم توزيعها من قبل وزارة التربية العراقية على طلاب مدارس كثيرة، وهي تعلم بحقيقتها.
من جملة ما حباني الله العلي القدير به من نعم انه خلقني ابنا لاب رائع بكل ما تحتوي الكلمة من معاني، ويحمل كل صفات الخلق العالي، ويمتلك شبكة كبيرة من الاصدقاء والمحبين الذين يشاركونه الخصال الحميدة التي يمتلكها، والذين تشرفت بمعرفتهم، ومنهم كان المرحوم الاستاذ حسين جميل، المحامي والسياسي الوطني والوزير والسفير السابق، والذي ربطتني به علاقة الابن بالوالد منذ ان التقيته عند اعداد رسالتي للدكتوراة مستفيدا من تجاربه وذكرياته السياسية. ان اداء هذا الرجل، شانه شان الكثيرين من من بنوا العراق الحديث قبل الاحتلال، يشكل نموذجا لما يجب ان يتحلى به اي مسؤول حريص على سمعته. فعندما كان الرجل وزيرا للعدل في العهد الملكي، وفي اثناء قيامه في جولة في احدى المحاكم لاحظ ان احد القضاة قام بوضع لوحة صغيرة خلفه كتب عليها الاية الكريمة (ادفع بالتي هي احسن) مختصرا باقي الاية الكريمة ذات المدلول العظيم، فما كان منه الا ان اعفى القاضي من منصبه معتبرا عمله مطالبة غير مباشرة بالرشوة. وبما ان الشيء بالشيء يذكر، فان المرحوم حسين جميل استقال من منصبه كوزير للارشاد (الثقافة) في العهد الجمهوري بعد يومين فقط من تسنمه للمنصب وذلك عندما اقدم على غلق صحيفة الحزب الشيوعي انذاك لانها هاجمت وانتقدت بقسوة الوزراء الذين استقالوا من حكومة عبد الكريم قاسم اعتراضا على سياسته، معتبرا ان هذا النقد لا ينسجم مع الاسلوب الديمقراطي الذي يمنح كل انسان الحق في اتخاذ القرار الذي يناسب تفكيره، بعد ان لم يطبق قراره بسبب نفوذ الحزب انذاك لدى رئيس الوزراء انذاك، ليعطي بذلك نموذجاً اخر في احترام النفس والتاريخ والسمعة الوطنية والاجتماعية.
خلاصة القول ان الاصلاح لا يمكن ان يتم الا على يد القضاة العدول ومن خلال القضاء النزيه والشريف. وان البلد الذي سطر اول مدونة قانونية في تاريخ البشرية لابد وان يكون قضاته ومؤسساته القضائية على مستوى هذا التاريخ المشرف. ولقد قالوا قديما ان الساكت عن الحق شيطان اخرس والناطق بالباطل شيطان ناطق. ويبقى الامر متروك لكل قاضي لكي يختار الطريق المناسب له، والاهم نوع السمعة التي يريد ان يتركها لاولاده واحفاده من بعده.
3322 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع