د. سعد ناجي جواد
الى متى يستمر سيل الدماء في العراق؟ ومن سيحاسب مرتكبي هذه الجرائم ومتى؟
مرة اخرى تمتد يد الغدر لتنال من عالم وباحث عراقي كبير ومقتدر هو الشهيد الدكتور هاشم الهاشمي، الذي راح ضحية فكره المتنور والمعتدل والعميق، ليلتحق بقائمة طويلة من العلماء وشهداء الفكر والراي في العراق، الذين فقدوا حياتهم بسب علمهم ورجاحة تفكيرهم. وربما من اغتاله واغتال اقرانه من العلماء والعقول الكبيرة المتنورة اشخاص لا يمتلكون حتى الشهادة الابتدائية، ولا يفهمون معنى ان يكون الانسان عالما ولا كم بذل من الجهد المضني لكي يصل الى هذه المكانة. لم اتشرف بالتعرف عليه شخصيا، الا انني كنت اتابع كتاباته ومقابلاته واشتركت معه في بعضها، واستطيع ان اؤكد من خلال اطلاعي على ما كان يقول ويكتب، ان العراق والدارسين في الجماعات المتطرفة والارهابية ومراكز البحوث العالمية فقدوا موسوعة نادرة وقامة علمية من الصعب تعويضها. والاكثر ايلاما انه قتل بسبب افكاره المتوازنة ودعمه للمتظاهرين المطالبين بالاصلاح ودعواته لانهاء الانتشار المريع للسلاح المنفلت وللكواتم التي اصبحت سمة من سمات المجتمع العراقي بعد الاحتلال البغيض، هذا الاحتلال الذي دمر كل اسس الدولة العراقية منذ عام 2003. ولم يشفع له دماثة خلقه واسلوبه الهاديء في طرح افكاره في تجنب هذا المصير المأساوي. علما بان الجهة التي اغتالته غدرا كانت قد هددته بشكل صريح ومثبت، وان مجريات الجريمة جرى توثيقها عن طريق كاميرات مراقبة، ومع ذلك لم يتم القاء القبض على اي من الجناة لحد هذه اللحظة.
هذه الحادثة أثارت مرة اخرى بين العراقيين السؤال القديم الجديد الذي مفاده (هل كُتِبَ علينا ان نعيش حياتنا كلها وسط هذه الدوامة المشبعة بالدم؟) والسؤال المحير الاخر الذي يقول (الى متى تستمر هذه الظاهرة المأساوية التي لم تعد تفرق بين عالم جليل ومتظاهر بسيط يطالب بحقوقه او شخص ينتقد ممارسات خاطئة؟) وما اصاب منتفظي تشرين خير دليل على الاصرار على تصفية كل من يعترض او يطالب باصلاح.
في حديث لي مع صديق اعلامي عربي بارز قبل مدة اخبرني عن حوار جرى أمامه بين اثنين من السياسيين العراقيين السابقين، التقيا بعد فراق وبدءا باستذكار ذكرياتهما القديمة واصدقائهما ورفاقهما في العمل السياسي. ويقول الصديق انه ذهل وهو يتابع الحوار بينهما. فلم يذكروا اسما الا وظهر انه قُتِلَ من قبل خصوم سياسين او اعدم من قبل حكومة او صفي نتيجة لصراعات حزبية او من قبل طرف خارجي. وكان جوابي له ان هذه حقيقة مؤلمة لا يمكن انكارها، وما يؤلم اكثر ان كل الاحزاب السياسية العراقية، عربية كانت ام كردية، دينية كانت ام علمانية، وحتى بعض الاجهزة الرسمية في العراق الحديث، لم تتورع عن اللجوء الى اسلوب التصفية الجسدية مع من يختلف معها في الراي حتى وان كان لا يمثل خطرا على وجودها او مصالحها.
ولكن رغم هذا التاريخ الطويل من التصفيات الجسدية، الا ان ماحدث بعد عام 2003 ولا يزال يحدث، يمثل انفلاتا امنيا لم يشهده العراق من قبل، وان الاحتلال ساهم بشكل كبير في انتشار هذه الظاهرة من خلال اجراءات كثيرة ربما من اهمها كان حل الجيش والاجهزة الامنية وفكرة الفوضى الخلاقة واضفاء صفة رسمية على المليشيات المسلحة..الخ. نعم ظهرت في السابق احزاب وعصابات لجاءت الى قتل منافسيها او معارضيها وفي فترات مختلفة، ولكن ان تتعدد الجهات التي تمارس هذا الاسلوب بصورة علنية، وتتكاثر وتنتشر بالطريقة الرهيبة التي نشهدها اليوم، وان يتباهى قادتها بتحديهم للدولة وبتهديدهم لكل من يختلف معهم وعلنا، فان هذه حالة لم يشهدها العراق من قبل حتى في اوج حملات التطهير. وعندما تعجز الحكومات المتعاقبة منذ بداية الاحتلال ولحد هذه اللحظة (اكثر من سبعة عشر عاما) في القاء القبض ولو على مجرم او مشتبه به واحد من مرتكبي هذه الجرائم فان هذا يمثل كارثة بكل المعايير. والكارثة الاكبر التي تحز في النفس تتمثل في وجود اشخاص وجهات لا زالوا يدافعون عن هذا الاسلوب ويجدون له تبريرا ويقبلون به ولا يجدون فيه مسألة تثير الغثيان. في السابق قيل لنا ان الاحزاب العلمانية، سواء تلك التي بنيت على النموذج الغربي او تلك التي شكلت على النموذج الشرقي الاشتراكي، لم تجد غضاضة في القتل بسبب عدم وجود رادع ديني واخلاقي وانساني في افكارها يمنعها من ارتكاب مثل هذه الجرائم. ثم ظهر ان الاحزاب الدينية عندما هيمنت على السلطة لم يمنعها فكرها ولا ادعائها التمسك بالدين وبالرموز الدينية الشريفة من اعتماد اسلوب القتل وجمع السحت الحرام وبدون اي تردد، وهذه الحقيقة مأساة بحد ذاتها. والمصيبة ان هذه الاحزاب والجهات المنفذة لهذه الجرائم اصبحت تصورها بانها الاسلوب الامثل للحفاظ على الحكم او (الدفاع عن الامن الوطني). اما الطامة الكبرى فتتمثل في غياب اية سلطة رسمية قادرة على فرض الامن والقانون وردع المجرمين عن ارتكاب جرائمهم.
بالتأكيد لن تكون هذه الجريمة اخر الجرائم، وبالطبع فان الانفلات الامني وغياب القانون والعقاب والفشل في القاء القبض على مرتكبي هذه الجرائم والتي اصبحت لا تعد ولا تحصى، والتي تتعارض مع كل القيم الاخلاقية والدينية والانسانية سوف يشجع على استمرار مسلسل الاغتيالات والتصفيات الجسدية الاعتباطية. وحتى تنجح الدولة في فرض الامن والقانون، وهو امر يبدو انه بعيد المنال، سوف يستمر نهر الدم بالجريان في العراق البلد الذي نُكِبَ بحركات واحزاب وقيادات لا تستطيع ان تتقبل الراي الاخر، وغير قادرة على التحاور مع من يختلف معها، لا بل تؤمن بان صاحب كل راي مخالف يجب ان يمحى من على وجه الارض.
1967 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع