إعداد: بدري نوئيل يوسف
الغجر والموسيقى (الكاولية والموسيقى في العراق) ـ الجزء الثاني
وبالرغم من أن العراقي ينظر الى هذه الفئة بعين الغمز فانه لا يستطيع أن يتخلى عن دورها، واستطاع الفن الغجري أن يكسب اهتمام العراقيين، ودخل الفن الغجري الإذاعة والتلفزيون، بسبب الاهتمام الشعبي الكبير به، وعلى وجه الخصوص في مناطق الريف العراقي، وكان العراقيون قبل ظهور التلفزيون يدعون الغجر لإحياء حفلات الزفاف، أو مناسبات الختان على الهواء الطلق، حيث تقدمن الغجريات (الكاوليات) الرقص والغناء لقاء مبلغ معين.
ومع ترحال الغجر فإنهم لا يتمسكون بشيء إلا الموسيقى، فالآلة الموسيقية بالنسبة للغجري بمثابة قلبه، لا تفارقه ولا يستغني عنها، فهي امتداد لكل العذابات والأفراح التي يلاقيها، أثناء مواصلته للحياة ومخالطته لكل أجناس البشر في حلوله وترحاله، لم يكن الغجريين مبدعين لكنهم أخذوا موسيقاهم من البلاد التي طافوا بها، فاقتبسوا منها ما يوافق شخصياتهم وطباعهم، ومزجوها ببعض إبداعهم، فورث الغجري التراث الموسيقي القديم بالجيتار والكمان، وفي القرن الثامن عشر كان للغجري سيطرة على الموسيقى وأصبح الكمان أعلى الآلات منزلة. والموسيقى بالنسبة للغجري كديانته، تتأثر إلى حد كبير بما يعتقده الشعب الذي يعيش وسطه، وأنه ليس للغجري لغة موسيقية مشتركة، فهو يحفظ الأغنيات والموسيقى المحلية للشعوب، التي خالطها وشاركها الحياة، ثم يضيف لها طابعه الخاص.
ومنذ القرن الثامن عشر أصبح للغجري هيمنته الواضحة على الموسيقى، وأصبحت مهنته التي يتكسّب منها قوته اليومي، وكانت العائلات الغجرية تمارس عملها كفرق فنية جوالة، لكن الغجري لم يعرف فكرة التدوين الموسيقي أو النوتة الموسيقية، حيث إن أول إطلالة موسيقية غجرية على العالم، خرجت من الهند عبر الموسيقيين الذين أرسلهم الملك شانكال إلى ملك فارس بهرام جور، وكانوا من أشهر عازفي آلة السيتار،
وهي آلة موسيقية هندية شبيهة بالعود، يرقى تاريخها إلى القرون الوسطى، ويستخدم السِّيتار في الموسيقى الهندوستانية ومجمل الموسيقى الكلاسيكية الهندية، تعود هذه الآلة أصولها إلى آلة الفينا القديمة، وتم تعديلها خلال فترة حكم المغول للهند بحيث تصبح أقرب إلى الآلة الفارسية سه تار. وتعني لفظة سه تار بالفارسية الأوتار الثلاثة.
اشتهر الغجر بإحياء الحفلات الموسيقية، التي كانت تقام في قصور كبار الإقطاعيين، منذ مطلع القرن السابع عشر، وطلبت العديد من الدول الفرق الموسيقية الغجرية للسير أمام الجيوش المتجهة نحو جبهات القتال، وتم استخدام موسيقاهم في مراكز التطوع لتحريك روح الحماس في روح الجنود، خاصة في حروب الدول العثمانية في البلقان مطلع القرن التاسع عشر ميلاديا، ويعتبر هذا القرن العصر الذهبي للموسيقى الغجرية، بعد انصهارها مع الموسيقى الفلكلورية والشعبية للبلد المضيف، وأسست العائلات الغجرية فرق موسيقية خاصة بها، وطافت القرى والمدن، لتعزف الموسيقى الغجرية التي كانت أقرب لصيغة الموسيقى الشرقية.
وكما يشار الى عدم اكتفاء الغجري بالعزف على آلة اللوت رغم براعته في استخدامها، وهذه الألة تشبه بصوتها وبتصميمها إلى حدّ كبير آلة العود، ولاقت اهتمام الكثير من المؤلفين الذين لم يترددوا في تخصيص أعمال منفردة أو مرافقة من الأوركسترا لهذه الآلة. وكذلك الغجري عزف على الدف والطبلة والكمان، استخدم الغجر في موسيقاهم آلات النفخ الهوائية كالناي والمطبك والمزمار والكلارنيت، والآلات الوترية كالكمان والبُزُق والربابة والجيتار، والعود أحيانًا، أما آلات الإيقاع تنوعت ما بين الطبلة والرق والدف، والأكورديون الذي يمثل ركنًا مهمًا في موسيقاهم.
في عام 1919 تهيأت البلاد للثورة، فزادت الأنشطة الثقافية والفنية التي تناضل ضد جرائم الاحتلال الإنجليزي وقتها، فشارك عدد كبير من الفنانين الغجر في الريف والمدن في تلك الأغاني. بالإضافة إلى غنائهم في الأفراح بالقرى، وفي مواسم جني المحاصيل الزراعية.
المرأة الغجرية التي تمتهن الرقص والغناء كنزًا ثمينًا، فيلجأ الرجل دومًا للحفاظ على بناته ليجني من وراءهن الربح، ويتنافس الشباب الغجر على الزواج من المغنيات والراقصات الغجريات.
أما في العراق فالغناء الغجري انحصر في دائرة الغناء فقط، من خلال الأفراح التي يحييها الغجر، أو في الحفلات التي تقام في أماكن إقامتهم التي تكون في مداخل المدن الكبيرة، ويُسمى الغناء الغجري هناك بـ "الكاولية".
وظهرت بعض فرق الغناء الغجرية في العراق، وحققت شهرة واسعة، كفرقة الفنانة حمدية صالح فهي مطربة ريفية عراقية بدأت مشواراها الفني منذ ستينات القرن الماضي، قدمت العديد من الأغاني العاطفية، ذات الطابع الرومانسي والعاطفي الريفي العراقي، وكذلك أدت اللون البدوي، ولأن حمدية صالح تنتمي الى فئة الغجر العراقيون أو الكاولية وفي صوتها نكهة غجرية مميزة لدى العراقيون.
وفرقة شكرية خليل شياع، وفرقة ريم محمد سوادي، وفرقة ساجدة عبيد، وهي صاحبة صوت طربي رائع يحمل كل معاني الأنوثة، تغني منذ أن كانت بعمر 12 عاما، وتغني المواويل والأغاني التراثية والطربية القديمة بأسلوب خاص وعصري. إلى أن ظهرت المطربات المنفردات مثل سورية حسين، وصبحية ذياب، وغزلان وغيرهن.
إن الرقص والغناء يلازمان الفنانات الغجريات منذ نعومة أظافرهن، في فترة الطفولة توجههن الأسرة، وذلك لبناء جسد مرن، ولتكيفهن اجتماعيًا قبل دخولهن، إلى عالم الرقص والغناء المليء بالمشكلات، وتجري حفلات الغجر عادة داخل مستوطناتهم، ومخيماتهم، وفي الأحياء الشعبية الموجودة بالمدن الكبيرة، تلبية لدعوات الحفلات الأسرية لإحياء الأعراس، وبعض الفرق الغجرية الأخرى تمارس المهنة في الملاهي الليلية.
الفن الغجري العراقي وصل الإذاعة أولًا، ثم إلى التلفزيون، حتى احتل الاهتمام الأول في البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي يتابعها سكان الريف، وسمي بالغناء الريفي، وأطلق على النساء اللاتي يمارسنه بنات الريف.
ثم جاءت فترة السبعينيات وانطلقت هذه الفرق خارج حدود العراق، وأحييت الحفلات في البحرين والإمارات وقطر وسوريا، وفي التسعينيات دخل الغناء الغجري لخشبة المسرح العراقي، وشاركت بعض الفنانات الغجريات ضمن فقرات غنائية أو راقصة، في العروض المسرحية.
كان الظهور الأول للمطربة سورية حسين من راديو بغداد في بداية صيف 1936 باسم مستعار (بنت الريف) لتغني أغنية "بسكوت أون بسكوت" وذاع صيت الأغنية لدى الجمهور، وأعادت الإذاعة بثها مرارًا وتكرارًا طوال اليوم، وكان أول من قدمها الموسيقار الراحل جميل بشير، وسجل لها مجموعة من الأغنيات منها "أنا وياك" و"عالشوملي" و"يا ماخذات".
وساعدت سورية حسين الغناء الغجري بالانتشار على مستوى الإذاعة والتلفزيون، وطُلبت لإحياء حفلات الزواج والمناسبات الخاصة في بغداد، ورافقها الراقصات الغجريات.
وفي نهاية التسعينيات كان الملحن صباح زيارة يقدم برنامجًا تلفزيونيًا لتلفزيون العراق، وبحث عن سورية حسين في النهروان (مدينة جنوب شرق بغداد)، ووجدها تعيش في بيت فقير، وكبُر سنها وتبيع السجائر في الطرقات، وروى أنه طلب منها الذهاب لوزارة الثقافة العراقية، لكن مسؤولة الاستعلامات طردتها في البداية لأن ملابسها رثة فظنتها متسولة، وبعد أن عرفت أنها الفنانة سورية حسين، بكت واعتذرت لها، واستقبلها موظفو الوزارة وأدرج اسمها بين قوائم الفنانين للحصول على راتب شهري، لكنها رحلت.
وأهم الرقصات لديهم (الحسجة) والتي تؤديها النساء، ويشترط فيها هزّ الرأس ذو الشعر الطويل الأسود، والصدر والرقبة مع الرقصات الرشيقة، وكذلك رقصة (الباكورة)، وعادة ما تكون مشتركة بين الرجال والنساء، وهي تدل على الشجاعة.
أقترن الفن الغجري بمواويل العشق والحزن، وكأنهم يبكون دائما على مفقود، أو يبحثون عن وطن تائه، وسط زمن سرمدي، لابد من اعتبار الفلكلور الغجري جزءا من التراث العراقي، لأنهم رفدوا الفن العراقي بالكثير من الأصوات الجميلة والألحان العذبة، ويجب أن يطور هذا الفن ويرفد بأسلوب أكاديمي بما له من مردودات كثيرة على الفن والثقافة العراقية.
يحتل شعر الدارمي مكانا رحبا في صدر البستة الغجرية، وتكاد لا تخلو منه اغلب بستاتهم، كونه شعر قصير ومطاوع في إيقاعه وتلحينه وغنائه ومؤثر في مضامينه وعميق في معانيه.
وقد تعرضت مفردات بعض البستات، التي وقعت على لسان الغجري الى التواءات لفظية لبعض حروفها، باتجاه لهجتهم المحلية، بسبب أن الغجر يلفظون حروف المفردة العربية، بنطق يختلف عما ينطقها العربي، هذا وقد أدى غياب الميكروفونات في اغلب حفلاتهم التي يؤدونها، الى تضخيم بعض حروف المفردات العربية والمبالغة في إدائها، وخاصة حروف المد ونطقها بفم ممتلئ مفتوح، ربما يؤدي بعض التشويه للمفردة بعد أن يمنحها القوة والسعة لإيصالها الى ابعد مكان ممكن مسترسلة مع خيوط الليل ليستقبلها ابن الريف الذي إصابة الوجد وعصف به الهوى، ومع مرور الزمن اكتسبت البستات الشرعية الغجرية، وتناقلتها أجيالهم كونها صنيعة فكر عفوي فطري، لا تتعدى الجنس في مساحة بنيتها النغمية، المنبثق من ولادتها وارتباطها الوثيق بالطور الذي يسبق غنائها، وتكاد لا تخلو أيضا حفلات الغجر من غناء ورقصة الهجع، إذ يقتصر أداؤها على النساء دون الرجال، ولها مساحة واسعة في حومة رقصهن، وتكون مصحوبة بأصوات الراقصات المرددات لتلك الأبيات الشعرية ،المختومة بلفظة(هجع)، وهن يؤدين حركات الرقص والتي تعتبر أكثر إثارة للحضور ،حيث تؤدي الراقصة من خلالها حركات الأرداف، والأكتاف، والرقبة، وحركة الشعر مع حركة ثني القدمين، واندفاع الصدر للأمام ، تصحبه حركات سريعة مغرية والى ذلك من حركات مثيرة إعجاب المتفرجين.
تضم الجوقة الغجرية أربع الى خمس راقصات على الغالب، يرقصن بأبهى الحلل والملابس، على أن تكون من بينهن مطربة ذي صوت جميل مؤثر قوي، (تسمى الفرقة باسمها)، تحسن في غناءها ما هو مطلوب، وما يدور في أجواء الحفلة كالابوذية، والنايل، والسويحلي، وأغاني الدبكات.
والبستات التي يشاركها في أداؤها بعض الراقصات والعازفين، ومن هم بجوارهم من شلتهم، ولا تصاحب المطربة زميلاتها الراقصات في تجوالهن بين الحضور، إذ تقف أمام عازف الربابة لتشكل ثنائيا معه، تناغمه ويستجيب لها، وتتعافى الفرقة وتكون أكثر حظا في كسب المال من خلال الطلب إليها، تلك التي تتأهل بمطربة ذي صوت ريفي جميل وراقصات جميلات يمتلكن خفة الدم والحركة.
أما الجوقة الموسيقية الغجرية، فقد يغلب الطابع الإيقاعي على أجوائها، بل يكون قلبها النابض، حيث يحتل الإيقاع موقع الصدارة، بين محرك ومحاور لحركات الرقص، التي تتناصف مع إداء الغناء في تلك الأجواء. وتتكون الجوقة من عازف الربابة، مع أربعة عازفين على آلات إيقاعية متنوعة منسجمة بأدائها، إذ يحتضن العازف الأول منهم ويسمى (اللازوم)، أكبر طبلة في الفرقة تصنع عادة من الفخار، ويكسى احدى طرفيها بالجلد الذي يسحب بنسبة قليلة، للحصول على صوت رخيم عريض، يكون قاعدة وأساس للإيقاعات الأخرى. وقد يقوم العازف بإداء الإيقاع بتجرد دون إضافة أي زخرفة عليه وهو الذي يبدا الحفلة وفواصلها ويحدد سرعة إيقاع غناؤها، أما العازف الثاني والذي يحتضن هو الأخر طبلة أصغر حجماً من التي قبلها ومصنوعة بنفس مواصفاتها ولكنها أكثر شدة في سحب جلدها، فأن عازفها يعزف بطريقة مضاعفة القيم
الأمنية لإيقاع اللازوم مع المحافظة على السرعة التي يؤديها اللازوم ويسمى هذا العازف (الصاكول).
المصدر
الغجر في ذاكرة الأسفار وسيرة العذاب ـ جمال حيدر.
جماعات الغجر نبيل صبحي حنا
مهدي الحسيني في مقالٍ بمجلة الهلال2003.
الغجر والقرج في العراق طه حمادي الحديثي
للراغبين الأطلاع على الجزء الأول:
https://algardenia.com/maqalat/44720-2020-06-09-19-20-29.html
2199 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع