في وداع الدكتور واثق الهاشمي

                                               

                         د. سعد ناجي جواد

في وداع الدكتور واثق الهاشمي

هناك عبارة أتذكرها بين الآونة والأخرى، وخاصة عند فقدان شخص عزيز، تقول ان الموت ذوّاق ويحرص على اختيار الأفضل دائما، او انه كعروس لا تنتقي الا اجمل وأفضل الفرسان، ولعمري فان هذا القول ينطبق تماما على الاخ والصديق الشهم والنادر الدكتور واثق الهاشمي (ابو سالم) الذي أختُطِف من بيننا منذ أيام بعد ان خسر معركته القصيرة مع المرض الخبيث. لقد حاول بكل ما يمتلك من تفاؤل وعزيمة وإرادة وشجاعة ان يقاوم السرطان الذي داهمه على حين غفلة، ولكن القدر والمرض كانا أقوى منه فاستسلم تاركًا عائلته ومحبيه،وهم كثر جدا، في ذهول وبين مصدق ومكذب.

عرفت المرحوم الدكتور واثق منذ أربعة عقود تقريبا، حيث كان، وزوجته الفاضلة، من ضمن طلبة الدورة الأولى التي قمت بتدريسها عندما التحقت بجامعة بغداد عام ١٩٧٨. كان كتلة من نشاط تسترعي انتباه كل من درسه، باسم الوجه وظريف وطيب ومجتهد، وفوق كل ذلك كان على جانب كبير من الخلق. كما كان كتلة من نشاط وحيوية وعضوا فاعلا في اغلب أنشطة الطلبة، وفي نهاية العام الدراسي شارك في مسرحية ظريفة رصد فيها كل تصرفات أعضاء الهيئة التدريسية وبصورة مؤدبة لم تغضب أيا منهم. بعد تخرجه التحق بدورة ضباط الاحتياط ومنح بعدها رتبة ملازم ثان احتياط في الجيش العراقي، وزارني في الكلية ليخبرني بانه نُسِبَ الى دائرة الإذاعة والتلفزيون. ثم انقطعت أخباره بعد ان اندلعت الحرب العراقية الإيرانية.
قبل الاحتلال ببضع سنين بعت سيارة كنت امتلكها وسلمت المشتري اوراقها وهويتي الشخصية والرسمية لكي يجري عملية نقل الملكية. وعندما اكمل المعاملة ابلغني انه فقد هويتي بصورة غير مقصودة. سلمت امري الى الله وبدات افكر بالتعقيدات التي تصاحب إجراءات إصدار بدل فاقد لمثل هذه الوثائق، والتي تتطلب اعلانا في الصحف المحلية وربما مقابلة للتأكد من سبب فقدانها، وغير ذلك من الأمور المعقدة، نتيجة ظروف الحرب والحصار وخشية ان يستغل احدهم الهوية للتهرب من الخدمة العسكرية. وتفاجأت بعد يومين وانا ادخل متجر المرحوم والدي ان بادرني احد العاملين فيه بقوله (دكتور هذه هويتك المفقودة وجدها احد طلابك القدامى على الأرض في دائرة المرور وجلبها بنفسه)، وكان هذا الطالب هو واثق، ولم يترك لي أي رقم هاتف كي اتصل به كي اشكره. ثم التقيته مرة أخرى في السنين الأخيرة للحصار وأنا ادخل الكلية حين تفاجأت بطالبي القديم واثق يتوجه علي ويعانقني باشتياق كبير.
أخذته إلى غرفتي كي اسمع أخباره، فسرد لي معاناته اثناء الحرب العراقية-الإيرانية وكيف انه نقل الى الجبهة بعد اندلاعها ووصل إلى رتبة نقيب احتياط في الجيش، ثم القي القبض عليه وأودع السجن في الاستخبارات العسكرية، وهو سجن لا يمكن لاحد ان يعرف أي شيء عن القابعين فيه، وذلك بسبب قيام احد السيئين أو عملاء الأمن بتسجيل محضر لجلسة اجتمع فيها عدد من الضباط في نادي الوحدة العسكرية جرى فيها حديث نقدي للنظام، وكان صوت واثق من ضمن الأصوات التي ظهرت في التسجيل. حاول المسكين بكل ما اوتي من قوة ان يثبت بانه لم يكن من ضمن الحاضرين وإنما مر بهم وألقى عليهم السلام فقط ولم يجلس معهم، بدليل انهم لم يبادروه بالعبارة العراقية المعروفة والمحببة (الله بالخير، وهي مختصر لعبارة صبحك أو مساك الله بالخير) التي يقولونها لمن ينضم إلى المجلس. ومع تأكد المحكمة من قوله الا ان ذلك لم يمنعها من حكمه بالسجن لمدة اكثر من سنة وطرده من الخدمة العسكرية.
وكيف انه اصبح بدون عمل، وأنه جاهد لكي يعيل عائلته التي أصبحت مكونة من ثلاث بنات وولد. وتنقل بين مهن عجيبة لتوفير لقمة العيش لهذه العائلة الصغيرة، من بائع أدوات احتياطية للسيارات إلى صاحب محل بسيط لبيع الوجبات السريعة، ومن ثم استخدام سيارته الخاصة كسيارة اجرة حتى تهالكت ولم تعد تصلح لهذه المهنة. وكيف ان الحصار افقره كما افقر كل العراقيين وخاصة الكسبة والموظفين منهم والذين يشكلون الغالبية العظمى من المجتمع العراقي. وآخر ما تبقى له هو ان يعين زوجته في مهنة التعليم الابتدائي ودون مستوى مؤهلها لكي يضمن حصولها على مرتب يعيل العائلة، وان سبب قدومه للكلية هو لأخذ وثيقة تثبت انها خريجة كلية، وان قسم التسجيل يرفض ذلك بناءا على تعليمات صادرة عن الوزارة.
ذهبت معه إلى قسم التسجيل واستطعنا أنا ومدير القسم من ايجاد طريقة لتزويده بكتاب رسمي يثبت ذلك. الشيء الأهم الذي لاحظته فيه انه رغم كل هذه المعاناة الا انه لم يفقد تفاؤله أو روحه المرحة أو أي خصلة من خصاله الطيبة التي تُحببهُ لمن يتحدث اليه. والأهم كل تلك الظروف الصعبة لم تخلق في نفسه شعورا بالمرارة تجاه بلده وشعبه. واثبت ذلك بصورة اكبر بعد الاحتلال عندما لم يتاجر بمعاناته لكي يحصل على منصب او مكاسب مادية، كما فعل الكثيرون الذين لم يقاسوا ما قاساه.
بعد الاحتلال جائني مرة ثانية ليخبرني ان معاناته زادت بسبب زيادة متطلبات أولاده الذين اصبح قسما منهم في الكليات. وأخبرته ان احد الأصدقاء من رجال الأعمال العرب طلب مني مساعدته في تأسيس شركة له في العراق، واني أوكلت ذلك لصديق مختص وسأطلب منه ان يعينك فيها على الرغم من ان مجال عمل الشركة بعيد كل البعد عن اختصاصك فوافق لصعوبة ظروفه. وأخبرت مدير الشركة ان يوكل اليه مهمة متابعة قضايا الشركة في الدوائر الرسمية لانه شاب نشيط ويتمتع بأسلوب لطيف في التعامل مع الآخرين. وبالفعل التحق بهذه الوظيفة وأصبحت التقيه بصورة شبه يومية. في مدة وجيزة استطاع ابو سالم ان يصبح محور الشركة ولولبها.
في هذه الأثناء ومن خلال أحاديثي معه اكتشفت انه يمتلك خزينًا كبيرا من المعلومات السياسية عن العراق وعن المنطقة وان اهتمامه بالأمور السياسية ظل عاليًا، وان تجربته في الجيش زادت من خبرته في الشؤون السياسية والعسكرية.
في احد الأيام طلبت مني احدى الفضائيات العراقية ان اجري مقابلة معها، واقترحت على مراسلها ان يتحدث بالموضوع مع السيد واثق الذي وصفته بانه بحكم تجربته العسكرية السابقة فانه يمتلك خبرة اكثر مني في هذا المجال. وظهرت منذ تلك اللحظة مواهب جديدة للرجل أهمها الجرأة على طرح الافكار الحساسة بأسلوب لا يستفز احد والتحليل المتوازن وعدم الانحياز لأية جهة وقول الحق وتساميه على الطرح الطائفي المقيت، حتى اصبح من اكثر من يمثلون الاعتدال بين المعلقين والمحللين للأحداث.
وبسبب دماثة خلقه كانت حتى الجهات التي ينتقدها تتقبل آراءه لانه كان يطرحها بصدق ووطنية وبدون أي بحث عن مصلحة. هذه المواقف والحكمة التي كان يتصرف بها منحته شعبية كبيرة وجعلت القيادات السياسية الأعلى في البلد تبحث عن استشارته ورأيه في القضايا المعقدة، وكان لا يبخل بذلك، حتى عندما كان يشعر بان رأيه سوف لن يؤخذ به. وامتدت سمعته إلى خارج العراق حيث اصبح سفراء الدول الأجنبية في بغداد يحرصون على لقاءه لمعرفة حقيقة ما يجري في البلاد. وكان اغلبهم يرتب له محاضرات في مراكز البحوث المرموقة في عواصمهم لكي يتحدث عن العراق، وكانت بعض هذه المحاضرات تترجم وتنشر في الصحف والمجلات العلمية المهمة لتلك البلدان. وفي تلك الفترة حرص أيضا على تطوير مستواه العلمي والأكاديمي فحصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه في العلوم السياسية من احدى الجامعات الأهلية في العراق. وأزداد عدد من يترقبون احاديثه، وأصبح ظهوره في الإعلام شبه يومي، حتى أني كنت في بعض الأحيان اخشى عليه من اصحاب الأفكار الضيقة والمتعصبة، وما أكثرهم في عراق اليوم.
الا انه كان يطمئنني بان علاقاته طيبة مع الجميع وأنهم اكتشفوا بعد كل هذه السنين انه ليس لديه أي غرض سوى تقديم النصح والمشورة، وأنه لا يطمح لمزاحمة احد على منصب او مغنم. واكتشفت انا بنفسي هذه المكانة عندما زرت العراق قبل حوالي ثلاثة سنين، زيارة قصيرة لازمني فيها كظلي. ولهذا لم أفاجأ عندما رشحه السيد رئيس الجمهورية لشغل منصب وزير الثقافة في وزارة المرشح السيد محمد توفيق علاوي التي لم تمرر بسبب الصراعات بين الكتل السياسية. علمًا بان هذا الترشيح استقبل برضى جماهيري واسع.
الا ان كل هذه العلاقات الواسعة لم تشفع له اثناء مرضه والذي كان يتطلب مصاريف هائلة وعلاج في الخارج، ولم تتخذ أيا من الجهات الرسمية التي تحرص على أخذ مشورته قرارا بإرساله إلى الخارج للعلاج على حساب الدولة، هذه الدولة التي تكفلت منذ الاحتلال بدفع مصاريف هائلة على مسؤولين كبار وصغار وعوائلهم لتغطية تكاليف علاجات يقع قسم منها في خانة (الترفيات). وظل يعتمد على مدخراته وعلى مساعدة عائلته وبعض الأصدقاء الذين أحبوه.
لقد فقد العراق بفقدان الدكتور واثق الهاشمي صوتا وطنيا نادرا، واحد اهم أصوات الاعتدال وسط هذا التشرذم الكبير، وحكمة وخبرة كبيرة لا تعوض. وفقدت عائلته أبًا حنينا لم يشعرها في يوم من الأيام بانها في حاجة الى احد غريب. وفقد أحباءه صديقًا مخلصًا ودودًا، وحتى الغرباء عنه والذين لم تربطهم به اية علاقة، والذين كانوا يلجأون اليه وقت الشدائد، فانهم فقدوا من كان لا يبخل عليهم بالمساعدة، وكان آخرها قبل أيام من وفاته عندما ذهب على الكرسي المتحرك الى احدى الدوائر لحل مشكلة شخص لا يعرفه لجا اليه طالبا مساعدته. أما أنا فلقد فقدت بفقدانه الأخ الحبيب والصديق الشهم وصاحب الوفاء النادر، الذي لم اشعر منذ ان اصبح قريبا مني باني في حاجة لأي إنسان اخر، وظل يرعى مصالحي في العراق حتى اخر أيام حياته. وكنت في بعض الأوقات أتفاجأ بانه انجز عملا يخصني ودون ان اطلب منه ذلك. ومن شدة أدبه وسمو اخلاقه كان يحاول ان يمنعني من مرافقته في رحلات علاجه من بلد الى اخر، (هذا الواجب الذي اعتبرته أنا اقل ما يمكن ان أقدمه لشخص نبيل مثله)، بدعوى ان السفر قد يتعبني.
ان كل ما كتبته وساكتبه لن يفيك حقك أيها الأخ الغالي. رحمك الله وجعل مثواك الجنة وحشرك مع الأنبياء والصديقين والأولياء الصالحين لان مكانك حقًا معهم وبصحبتهم ولانك دائما اقتيدت بأخلاقهم ومُثلِهم العالية. وصبرنا الله على فراقك الأليم. وإنا لله وإنا اليه راجعون.

   

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

808 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع