أ.د. ضياء نافع
العراقيون بجامعة موسكو في الستينيات ومصائرهم (٣)
نستمر في هذه الحلقة بالحديث عن طلبة كلية الجيولوجيا في جامعة موسكو. الاسم الذي اريد ان اتوقف عنده قليلا هو المرحوم غريب رياح . كنّا نناديه باسمه واسم ابيه دائما – غريب رياح , ربما (لغرابة!) هذين الاسمين معا , وربما لطرافة غريب نفسه ورشاقته الروحية وخفّة دمه وابتسامته الدائمة واستجابته للتعاون والتعاطف مع الجميع .
لقد كان منسجما مع جميع المحيطين به من عراقيين وروس . ذهبت اليه مرّة , وقلت له , ان الكليّة دعتنا – نحن العراقيين – للمشاركة في حفلتها , ونحن لسنا مستعديّن , فقال لي رأسا , انه يعرف اغنية روسيّة يغنيّها الشباب الروس في سفراتهم ويحبونها جدا , وانه يمكن لنا – نحن العراقيين - ان نحفظها ونغنيّها بسرعة , واذا ما قدمناها امامهم في الحفلة , فستكون مشاركة ناجحة وطريفة .
وافقنا جميعا على هذه الفكرة ( الغريبية الرياحية !), وامسك غريب بيده غيتارا ( وهو لا يعرف بتاتا العزف عليه) وبدأ وكأنه يعزف , وبدأنا نحن حوله نتدرب على غناء تلك الاغنية الروسية حسب الكلمات التي علّمنا اياها , وهي كلمات رقيقة وبسيطة تتحدث عن انطباعات الناس وهم ينظرون الى الجنود الذين يمرّون امامهم و يدكّون الشوارع باحذيتهم العسكرية . حفظنا الاغنية – بحماس الشباب ومرحه - خلال اقل من ساعة , واتفقنا ان نكون هناك في الوقت المحدد . حضرنا طبعا , واخبرت مسؤول الحفلة , اننا سنقدّم اغنية روسيّة .
فرح المسؤول الروسي واندهش من قرارنا , ووافق رأسا على هذه ( المشاركة العراقية الجميلة ! ) دون ان يسألنا عن تلك الاغنية , وهكذا ظهرنا على خشبة المسرح و قدمّنا تلك الاغنية وغريب رياح يتوسطنا وهو يمسك بالغيتار وكأنه يعزف عليه . استقبلنا الحضور الكبير( وهم طلبة روس طبعا ) بحرارة وحماس هائل و مرح وابتسامات وضحك وهم يستمعون الينا , وصفقوا لنا تصفيقا حادا جدا أدهشنا عندما انتهينا من الغناء , وما ان انسحبنا من خشبة المسرح ونحن سعداء بهذا النجاح الرائع , فاذا بالمسؤول عن الحفلة يركض نحونا وهو يصرخ قائلا , ماذا عملتم , وكيف تقدمون اغنية ممنوعة في الاتحاد السوفيتي على خشبة مسرح بجامعة موسكو !! .
فوجئنا نحن طبعا بردة الفعل هذه , وقلنا له , اننا لا نعرف انها ممنوعة , ولكننا سمعناها من الشباب الروس انفسهم وهم يغنونها. حاولنا طبعا ان نخفف من ردود فعله , ونحن نعتذر ونتعثّر بالكلام معه ونتحدث عن مضمون تلك الاغنية البسيط جدا, وانسحبنا – بعدئذ - رأسا بهدوء وبسرعة من تلك الحفلة . لقد تبين لنا ( بعد فترة طويلة طبعا ) , ان هذه الاغنية من تأليف وتلحين وغناء الشاعر بولات أكودجافا , وهو من اوائل الشعراء السوفيت الذين بدأوا بالقاء قصائدهم مغناة امام الجمهور وهم يعزفون على الغيتار , وقد تقبّله الجمهور السوفيتي بحماس منقطع النظير, لأن أشعاره كانت بسيطة ورقيقة وذات مضامين انسانية بحتة , وخالية بتاتا من الشعارات والكلمات الطنانة والرنانة , التي كانت تسود في تلك الايام الخوالي . والشاعر أكودجافا من أب جورجي تمّ اعدامه زمن ستالين بتهمة ( عدو الشعب !! ) وامّ ارمنية تمّ سجنها ونفيها لنفس تلك الاسباب السياسية الواهية والرهيبة في ذلك الزمن المتجهم (انظر مقالتنا بعنوان – الشاعر بولات أكودجافا ..تعريف وقصائد) .
كان الشباب السوفيتي يتابع اغانيه سرّا وعن طريق اشرطة التسجيل التي يسربوها من يد الى يد , وان الدولة السوفيتية آنذاك قد منعت رسميّا نتاجاته كليا من التداول في وسائل الاعلام السوفيتية, ولكن الممنوع مرغوب كما يقول المثل , ولهذا كان الشباب يغنون تلك الاغاني بحب وحماس اثناء سفراتهم , وكان الجميع طبعا يعرفون تلك الاغاني , ولكن لا احد يجرأ ان يقدمها في الحفلات الرسمية او يتحدث عنها علانية, ولهذا السبب بالذات استقبلتنا القاعة آنذاك بذلك الحماس والتصفيق , لانهم ظنوا , اننا قررنا تأييدهم وتقديم الاغنية من على خشبة المسرح بغض النظر عن منعها من قبل السلطات السوفيتية , وذلك لكوننا أجانب , وان السلطات لا تستطيع ان تحاسبنا مثلهم .
ضحكنا كثيرا – بعد انسحابنا من الحفلة بعد هذا العرض - ونحن نقول لغريب رياح انك ورطّتنا , رغم اننا جميعا كنّا لا نعرف طبعا تلك التفصيلات عن الرقابة السوفيتية ومفاهيمها وتعليماتها الصارمة واجهزتها, و الحمد لله , ان المسألة انتهت آنذاك بسلام .
عاد غريب رياح الى العراق بعد التخرّج , ولم يحاول التشبث بالبقاء للحصول على الدكتوراه كما فعل بعض الخريجين آنذاك , وسمعت انه شغل منصبا محترما في احدى المحافظات , وسمعت ايضا بوفاته مع الاسف , ولا اعرف سبب رحيله المبكر.
الرحمة والسكينة لروحك يا صديقنا وزميلنا الرائع غريب رياح .
690 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع