جولة في القسم الداخلي لجامعة موسكو

                                          

                         أ.د. ضياء نافع

جولة في القسم الداخلي لجامعة موسكو

سنحت لي فرصة زيارة جامعة موسكو قبل فترة قصيرة , وقررت طبعا ان اتجول في القسم الداخلي , حيث كنّا نسكن هناك عندما كنّا طلبة في تلك الجامعة . ذهبت رأسا الى غرفتي,وطرقت الباب , فخرجت فتاة روسيّة فاتنة ( زي القمر! ) بعمر احفادي , وقالت لي – نعم جدو ماذا تريد ؟ فقلت لها , اعذريني , فانا كنت اسكن في هذه الغرفة قبل اكثر من نصف قرن مضى , واريد الان ان ( اسلّم عليها!) فقط ليس الا , و(اتلمس جدرانها!) .ابتسمت تلك الفتاة الجميلة برقّة وعذوبة وقالت – (تفضل تفضل ) , وشعرت ان كلماتها كانت صادقة جدا و تنطلق من اعماق قلبها .

دخلت الى ( غرفتي!) , ونظرت بامعان الى كل مافيها , وتذكرت وتذكرت وتذكرت و فهمت بعمق احاسيس الشاعر العربي قيس بن الملوح الذي كان ( يقبّل ذا الجدار وذا الجدارا).

     

اما الفتاة الروسية المسكينة فقد احتارت بكيفية التعبير والترحيب ب ( المقيم القديم هذا من العراق !), و ارادت ان تقدم لي الشاي والمرّبى ( على الطريقة الروسية بشرب الشاي ) , ولكني شكرتها , واعتذرت مرة ثانية على هذه الزيارة الغريبة جدا , وأسرعت بالخروج من ( غرفتي ) , لانني كنت بالكاد أسيطر على دموعي , وقلت لها , ان وقتي محدود جدا , و اني اريد ان أزور غرفا اخرى في القسم الداخلي , كان يسكن فيها آنذاك العراقيون من أصدقائي في جامعة موسكو في تلك الايام الخوالي . 

توجهت رأسا الى غرفة محمد يونس , ولم اطرق الباب , وانما وقفت عندها قليلا , وقلت بيني وبين نفسي لروح المرحوم أ.د. محمد يونس وانا ابتسم – (مرحبا يا صديق تورغينيف) , اذ اني تذكرت كيف كان محمد يحضّر اطروحة الماجستير حول تورغينيف , وكيف كان (غارقا !) في المصادر الروسية عنه ,

    

وتذكرت طبعا , كيف أصدر محمد يونس كتابه عن تورغينيف ضمن سلسلة أعلام الفكر العالمي في بيروت, وتذكرت مقالته التي نشرها في مجلة الاقلام بعنوان – ( تورغينيف والمرأة ) , وقلت لروحه همسا , اني ابحث عن مقالتك الان يا ( ابو جاسم ) , لاني اريد ان انشرها من جديد ضمن سلسلة كتبي – ( دفاتر الادب الروسي ) , التي تصدر عن دار نوّار للنشر , وانني كلفت بعض طلبتنا لايجادها . وتركت باب غرفة محمد يونس وأنا أتذكر الكلمات الطيبة والعطرة , التي قالتها لي الباحثة المصرية الكبيرة أ.د. مكارم الغمري (عندما التقيتها في المؤتمر العالمي لمترجمي الادب الروسي بموسكو في العام الماضي ) عن جارها آنذاك المرحوم محمد يونس وزوجته ام بشار , كلمات مليئة بالاحترام الحقيقي والمحبة الصادقة والتقدير الهائل...
وغير بعيدة كانت غرفة غازي العبادي , ومررت من قربها , و توقفت عندها ايضا, وقلت لطيف المرحوم غازي العبادي – ( مرحبا يا غازي الحبيب !) و صفة (الحبيب ) هذه هي تعبير حقيقي عن مشاعر كل العراقيين الذين كانوا حوله في جامعة موسكو, وتذكرت ابتساماته وطيبته ورومانسيته وبساطته المتناهية والنقيّة , وتذكرت ايضا , انه ( تورغينيفي الاختصاص ) , الا انه كتب عن جانب آخر من ابداع تورغينيف , وكان موضوعه تحليل آراء تورغينيف حول بطلين من ابطال الادب العالمي , وهما - هاملت ودون كيخوت , اي ان غازي تخصص في موضوعة تورغينيف باعتباره ناقدا ادبيا , وهو تخصص فريد جدا بالنسبة لنا جميعا , الا ان المرحوم غازي بتواضعه الجم لم يتحدث عن تخصصه هذا بعد عودته الى العراق لانه كان بعيدا جدا عن التباهي بأي شكل من الاشكال, وتذكرت كيف ان ابنته الدكتورة ضفاف غازي العبادي , التدريسية الان في كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد سألتني مرة عندما كانت تعمل معنا في كلية اللغات , كيف يمكن لها ان تجد اطروحة والدها هذه , اذ انها الابنة البّارة , التي تجمع كل تراثه وتؤرخ نشاطه الابداعي الجميل وتنشر في موقعه الالكتروني( الذي عملته هي ويحمل اسمه وصورته) حتى قصصاصات الورق بخط يده حول الكتب التي كان يستعيرها منه الاصدقاء, ولم استطع مع الاسف ان اساعدها .
تركت الطابق الذي كنّا نسكن فيه و صعدت الى الطابق الاعلى , حيث كان يسكن طلبة كلية الجيولوجيا , وتوقفت قليلا عند غرفة عدنان عاكف , وقلت بيني وبين نفسي , من الضروري جدا جمع مقالات المرحوم د. عدنان عاكف واصدارها بكتاب , خصوصا مقالاته الرائدة والمهمة حول التراث العلمي العربي ( انظر مقالتنا بعنوان – عراقيون مرّوا بموسكو (22) / د. عدنان عاكف ) , وفكرت ان اطرح هذا المقترح على د. صائب خليل , وكم أتمنى الموافقة على هذا المقترح يا اخي د . صائب , وانتظر جوابك ( على أحرّ من الجمر!) . وتوقفت ايضا عند غرفة الشهيد د. حامد الشيباني ( أعدمه النظام البعثي في السبعينات), المبتسم دائما , وقرأت سورة الفاتحة بصمت على روحه الطاهرة , وتذكرت حديثي مع د. ديكران حول اعتقال حامد في شركة النفط الوطنية في بغداد ( انظر مقالتنا بعنوان – مع د. ديكران يوسف كيفوركيان في موسكو ) . بعد غرفة حامد وذكرياتي عنه لم استطع الاستمرار بهذه الجولة , فتوقفت , وخرجت من القسم الداخلي لجامعتي وانا حزين ...

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1200 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع