اليسار العربي ... استشراف المستقبل

                                                


                          د.ضرغام الدباغ

      

دراسات ـ إعلام ـ معلومات

العدد :178
التاريخ : / 2019

اليسار العربي ... استشراف المستقبل

العالم العربي في غليان، وفي علم التاريخ في مرحلة تمفصل، مراحل انتهى استحقاقها وأدت مهماتها وتؤذن بالرحيل، والمرحلة المقبلة تحتاج إلى خصائص جديدة، فكل شيئ مطروح للاحتمالات، البعيدة جداً والقريبة، بدرجة أضحى معها التنبؤ بنتائج العاصفة أمراً يصعب حتى على أبرع المحللين والمفكرين، لماذا ..؟

الأسباب بالطبع عديدة، منها مؤثرات موضوعية خارجية، ومنها مؤثرات ذاتية داخلية، وكلتا المؤثرات من الصنفين متوافرة بدرجة ثقيلة بحيث لابد أن تترك آثارها، وردود أفعال العديد منها خارج السيطرة، وهي الأخطر بطبيعة الحال.

المؤثرات الداخلية هي تلك المؤثرات المتوفرة غالباً في البلدان النامية (المتحررة حديثاً من الاستعمار والهيمنة الأجنبية) وتحمل نكهة المتوارث التاريخي، أضيف فوقها ما خلفته عهود الاستعمار والهيمنة الأجنبية، ومن تلك شيوع ليس أنماط وعلاقات الإنتاج المتخلفة فحسب، بل وسلسلة محكمة الحلقات متوارثة من العلاقات المتخلفة السياسية / الاجتماعية / الثقافية، بحيث تضيف المزيد من العراقيل أمام مناهج عمل قوى اليسار المحلية المتنورة في الغالب بفعل تماسات ثقافية مع قوى اليسار الإقليمية أو العالمية.(1)

في التاريخ العربي الوسيط والحديث، لم يكتب للحركات اليسارية (إن صح اعتبارها كذلك) إنجازات كبيرة، عدا تجربة المعتزلة، التي طالت لعقود، وحكمت كفكر المؤسسة السياسية، (المأمون 813 م ــ المعتصم 833 م ــ الواثق 842 م حتى خلافة المتوكل 847) أي نحو 34 سنة في غضون عصر ثلاثة خلفاء.

ثم حركة الخوارج التي أستطال تاريخها، واستطاعت أن تؤسس كياناهـ) والقرامطةأن الغلو والتطرف الجامح حال دون أن تتحول التجربة إلى توجه سياسي راسخ. التي تأسست عام 655 م ثم بدأت بالتلاشي عام 861 م أي أن وجودها تواصل في العمل السياسي والفكري نحو 206 أعوام (2)

أما الحركتان / الانتفاضتان المسلحتان، الزنج (250 هـ / 270 هـ) والقرامطة (260 هـ / 470 هـ) فكلتاهما لم تتمكنان من الارتقاء إلى شروط الثورة. ولكن من الضروري الانتباه إلى نقطة نجدها مهمة في تحليل الحركات السياسية التاريخية، أن نقيم تحليلنا وفق القاموس السياسي لذلك العصر. وقد توصلنا إلى تشخيص حقيقة علمية من خلال أمالنا في تاريخ الفكر السياسي العربي القديم والوسيط، أن الفكر السياسي وصيغه وأشكاله وأدواته المعبرة، تتراجع وتتخلف بتخلف الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي وصيغه وتراجعه بصفة عامة، وبهذا المعنى نجد أن الحركات السياسية العربية قد تراجعت وتكاد أن تكون خمدت، وليس هناك ما يستحق تسجيله في تلك المراحل المظلمة، إلا إذا استثنينا بعض التحركات في الأرياف التي لم تكن تنطوي على أهداف سياسية مهمة أو عميقة، إذ كانت تعبر في الغالب عن استياء سكان الأرياف من الضرائب ومصادرات المواشي والمحاصيل.

اليسار العربي في العصر الوسيط لم يستطع أن يتحول إلى تيار كبير نقدر بسبب شدة تأثير التيار الديني، وهو تيار بطبيعته لا يميل للتغير، بل للحفاظ على التقاليد والأصول، من جهة، والتطرف الذي أودى بحركتين كادتا أن تتحولان إلى تيار قوي ونعني بهما: الخوارج والمعتزلة.

وفترة السبات المظلمة لم تنقطع فيها الحركة الفكرية والثقافية والعلمية فحسب، بل وأن عطلاَ شديداً أصاب الأجهزة والآليات المولجة بمتابعة التطورات التي كانت تدور في أماكن عديدة من العالم، وبذلك أصبحت بلادنا في عزلة تامة وسادت في معظم الأرجاء العربية الإرادة الأجنبية التي لم تكن تبدي التفهم لإرادة الشعب. ووفق هذه المعطيات، لم يكن ليسار حديث في الوطن العربي أن يظهر قبل ما أستحسن تسميته "عصر النهضة العربي الثاني" والذي أرجح سريانه منذ أواسط القرن التاسع عشر (1850) وفق المؤثرات والمؤشرات التالية :

1. كانت الثورة اللوثرية في الكنيسة (1500)، قد قادت إلى ثورة تحررية، وشيوع الأفكار الليبرالية، ونهاية لعصر المسلمات المقدسة.
2. أفضى عصر النهضة (القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر) إلى عصر التنوير والثورة الفرنسية(1799)، ثم الثورة الصناعية (القرن الثامن عشر)، وبدأت الدول الصناعية الأولى تدشن عصر الاستعمار، فانطلقت الحملات الاستعمارية تجوب أعالي البحار، وليشتد الصراع على المستعمرات، فخلفت حزمة التطورات هذه تداعيات إن في البلدان الصناعية وجيرانها من الأوربيين، في نهاية لتحالف الكنيسة والملوك، أو في بلدان المستعمرات، حيث أدى الاحتلال الأجنبي لها إلى آثار اقتصادية وسياسية بعيدة.
3. في الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تشهد انتقالا بطيئاً من العهد الإقطاعي إلى بدايات التأثر بالأحداث الأوربية، ومن تلك تحديث نظم الدولة، وكان لهذه آثارها في الأقطار العربية باتجاهات سياسية واقتصادية وثقافية عديدة، لتتأجج المسائل الوطنية والقومية.
4. مؤشرات نهوض في مصر أبان حكم محمد علي الكبير (1805 ـ 1848)، والجامعة الأمريكية في بيروت 1866، والجامعة اليسوعية في بيروت 1875.
5. نشاط تعليمي ومعرفي بدأ يتحرك في العراق وسورية وفلسطين، تمثل في افتتاح عدد من المدارس العليا والكليات، بعضها كان نتيجة لنشاط البعثات والكنائس المسيحية، كما بدأت السلطات العثمانية تولي للتعليم أهمية في أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين.
6. كان اشتداد تيارات التحرر في عاصمة الدولة العثمانية، وانتشار الجمعيات الثقافية والاجتماعية ذات الأبعاد السياسية، قد تغلغلت بين العرب المتواجدين في العاصمة للدراسة أو الخدمة في الجيش. فشهدت تلك المرحلة تشكيل العديد من الجمعيات الثقافية والسياسية العربية, سرعان ما انتقلت فروعها إلى الوطن العربي ولا سيما في سوريا والعراق ومصر.
7. ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى في روسيا 1918 ــ انتشار الأفكار الاشتراكية.

وجدير بالملاحظة والتتبع، العلاقة الجدلية التي تربط هذه العناصر بعضها ببعض كعناصر مؤثرة كان لها تفاعلاتها ونتائجها كل في الزمن الذي حدثت به، وإن كانت دوائر تأثيرها تصل ضعيفة خافتة وبطيئة إلى العالم العربي ولكن من الداخل أيضاً(داخل الوطن العربي) كانت هناك عناصر داخلية عديدة تحتدم، فالعهد العثماني نفسه كان يئن ويتداعى تحت وطأة تفاعلات داخلية وخارجية بدا النظام العثماني حيالها عاجزاً عن التطور وعن استيعابها، وكان عليه أن يقدم على قفزة كبيرة إلى الأمام ولكن قواه الذاتية لم تكن تكفيه للقيام بتلك القفزة، مع اشتداد المؤامرات الخارجية عليه في إطار التنافس الاستعماري بين للإمبراطوريات العظمى.

وعصر النهضة العربي سادته هواجس محاكاة الغرب مبهوراَ بالمنجزات الفكرية والعلمية، بل ذهب البعض إلى ضرورة محاكاته إلى درجة التماثل. وقد فات تلك الجهات أن التماثل ونقل التجارب بحذافيرها أمر مستحيل لصعوبات موضوعية قبل أن تكون ذاتية، بالإضافة إلى الحقيقة المؤكدة، وهي أننا لا يمكننا التخلي عن موروثنا الثقافي والحضاري الذي يمتد لبضعة آلاف من السنين، وأن محاولة من هذا القبيل قد تكون نبيلة المقاصد النهائية، إلا أنها محكوم عليها بالفشل، فهي نقل معلب لمنجزات لا تمت لنا ولموروثنا الثقافي والأخلاقي والاجتماعي، والقبول بها كما هي ونقلها بشكل آلي أشبه بزرع جسم غريب في جسد سوف لن يقبله، وأن محاولات إرغامي كهذه أفتقرت للأصالة، فهي أشبه من يطفأ حريقاً شب في منطقة أخرى، ولم تستجب للثارات المحلية لذلك لاقت الفشل في الوطن العربي من خلال تجارب عديدة، في حين توصلت أمة كاليابان مثلاً في المحافظة على القيم والموروث الثقافي وتحقيق تقدم صناعي / علمي / رغم أن موروثنا الثقافي هو أكثر ثراء من الموروثات اليابانية.

اليسار العربي في العصر الحديث جاء مقطوع الجذور عن موروثات مجتمعه، ويحاول أن يكون نسخة مكررة عن اليسار الأجنبي بتنوع نسخه، الأوربي/ الأسيوي/ الأمريكي اللاتيني، وكان رواده في البلاد العربية من الانتلجنسيا الأجانب، ومن مثقفين سنحت لهم الظروف في تعليم استثنائي نادر، أو من خلال علاقات خاصة مع مؤسسات أجنبية. وعند بعض هذه الشخصيات نجدها معادية بضراوة للتوجهات الشعبية كالوحدة العربية (مع أن اليسار في البلدان الأجنبية تناضل من أجل الوحدة الوطنية والقومية)، كما أن الإخلاص المفرط للنصوص أفقدها المرونة حيال الكثير من القضايا الجوهرية. في حين كانت تبدي التفهم التام لسياسات ومناورات الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي وتبررها حتى عندما يكون التبرير صعباً، ولا نعني هنا أن لا يحق للأتحاد السوفيتي أو لغيره أن يناور في السياسة (3)

ومع تطور حجم التجارة الدولية بسبب نتائج الثورة الصناعية، صارت الدول الصناعية تبحث عن متعاونين يمثلون مصالحها الاقتصادية أولاً، ثم السياسية بطبيعة الحال. وهكذا نشأت في العواصم والمدن الكبيرة فئات كومبرادورية (Comprador) أصبحت وسيطة القوى الأجنبية، المتطلعة للتوسع الاستعماري، وتوسيع نفوذها .

الأحزاب اليسارية / العمالية، تعاملت في موضوعات القضايا المحلية الوطنية / القومية بعقل أجنبي، ينظر إلى المشكلات المحلية وبحلول حيادية أحياناً، وتخندقوا وراء هذه المواقف، على أساس الثوابت والمقاييس النظرية، وقد تسبب هذا العجز في التطبيقات الإيديولوجية إلى خسارة نفوذ مهم كانت تتمتع به هذه الأحزاب في العديد من البلدان كالعراق وسوريا وإيران ومصر ..الخ .

وقد تسبب هذا التفسير الخاطئ للمصادر الاشتراكية العلمية إلى العديد من المواقف مناهضة لأمال الأقطار وطموحاتها وحقوقها المشروعة السياسية والاقتصادية.

وقد اتخذت هذه القوى والأحزاب موقفاً لا يلين تجاه أعز تطلعات الجماهير ومن تلك:
1. موقفاً مناهضاً للمشاعر الوطنية والقومية حيال القضية الفلسطينية.
2. موقفاً مناهضاً لمشاعر الأمة في الوحدة العربية.
3. موقفاً مبالغاً في الإلحاد حيال عاطفة شعبية للدين.

أما في المواقف السياسية فقد ارتكبت أخطاء كثيرة في العديد من الأقطار وفي حقب مختلفة، في الجزائر، ومصر، العراق وسورية، وإيران، ومن تلك على سبيل المثال لا الحصر، مواقفهم في حرب التحرير الجزائرية، ومصر حيال ثورة 23 / تموز / 1952، وفي العراق حيال الحكم الوطني، وفي إيران في ثورة مصدق وبعدها، وفي التعاون مع الاحتلال الأمريكي للعراق.

هوامش

1. التماس الفكري شأن حدث ويكثر حدوثه في إطار التبادل الفكري والثقافي بين الشعوب، والأفكار تنتقل عبر وسائط عديدة، تعددت أساليبه في القرون الحديثة مع شيوع استخدام الراديو، واللاسلكي، والطباعة، وأضافت لها الوسائل الالكترونية كنتيجة للثورة المعلوماتية أبعاداً لم تعد معها نقطة واحدة بعيدة عن تحقيق الاتصال الفكري والثقافي معها.
2. تأسست حركة الخوارج في عهد الخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب (رض)، (655 م ـ 35 هج/ 661 م ـ 40 هج)، وتواصلت في العصر الأموي والعباسي، حتى تلاشت تدريجياً في العصر العباسي الوسيط (833 م ـ 218هج / 861 م ـ 247هج )، ولكن دائماً مع بقاء شرائح من فئات الخوارج تحت مسميات شتى في شبه الجزيرة العربية، وشمال أفريقيا. وسموا بالخوارج رغم أنهم أطلقوا على أنفسهم (الجماعة المؤمنة)، بيد أن تسمية الخوارج طغت لدى المؤرخين العرب والمسلمين والأجانب.ويعتبرهم الأستاذ البرت حوراني :" أول حركة احتجاج على التضحية بالمبادئ في سبيل الغايات "
3. ناور الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي سياسياً وقدم كثير من التنازلات وبعضها خطير، والأحزاب اليسارية وقف موقفاً متشدداً حيال أبسط منها في أقطارنا.

• صلح برست، أقدمت عليه السلطة السوفيتية الفتية لإنهاء الحرب العالمية الأولى، وخسرت بموجبه الكثير من أراضي السيادة الوطنية، استعادتها في بعد بعد الحرب العالمية الثانية..
• عصيان كرونشتاد، أنتفاضة البحارة في قاعدة كرونشتاد البحرية العسكرية وكان البحارة من أهم مواقع الثورة الاشتراكية / أكتوبر، ولكن طلبات البحارة قمعت بقسوة دموية.
• قضية هونغ كونغ : صبرت الصين الشعبية 48 سنة لتستعيد سيادتها على هونغ كونغ سلماً، مع أن كان بإمكانها استعادتها بالوسائل العسكرية، ولكن قيادة الصين فضلت الحكمة على القوة.
• قضية تايوان. تايوان جزيرة منشقة عن الصين بنظام حكم موالي للإمبريالية، تأمل القيادة الصينية أن تستعيدها ذات يوم بالوسائل السلمية.
• الشيوعيين والكفاح المسلح في أميركا اللاتينية (بوليفيا مثالاً). خاض المناضل القائد ارنستو غيفارا كفاحاً مسلحاً في بوليفيا لتأسيس جمهورية اشتراكية، وأعتبر الشيوعيون هذا النضال (رومانسية ثورية) وحجبوا عنه المساعدات، فلاقت مصيرها الثورة بالإبادة.
• قضية القاعدة العسكرية الأمريكية في غوانتنامو. تحتل الولايات المتحدة قاعدة عسكرية تقيمها على أراض جمهورية كوبا الاشتراكية منذ إقامة النظام الجمهوري الثوري وإلى حد الآن، بل وأقامت فيها الولايات المتحدة معتقلها سيئ الصيت.
• مرونة البلدان الاشتراكية بيع أراض، تنازلت بعض الدول الاشتراكية عن أراض وطنية لدول غربية لتحسين وضع الحدود وباعتها مقابل أموال.
• ألبانيا، ويوغسلافيا وهنغاريا ورومانيا : القيادات الشيوعية في هذه البلدان، تمردت على النمط السوفيتي في الهيمنة، وبعضها أبتعد عن النمط السوفيتي
• مكاو المستعمرة البرتغالية حتى 20 ديسمبر 1999، (الآن منطقة إدارية خاصة تابعة لجمهورية الصين الشعبية).

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

828 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع