القس لوسيان جميل
كيف نتكلم عن الروح القدس
مما لا شك فيه هو ان الكلام عن الروح القدس لا يأتي في هذا المقال فقط، ولا هو يأتي فقط في الكتاب الموسوم: قواعد انثروبولوجية لظهور الروح وحركته وارتقائه، والذي يحتوي على هذا المقال، بل لابد ان نجد كلاما عن الروح القدس او الروح المقدس حيث نجد كلاما عن الله وعن كل ما يتعلق به. فقد سبق ان تكلمنا، من منطلق ومن منظور الأنثروبولوجيا عن الآب وعن الابن، والآن جاء دور الكلام عن الروح القدس من منظور ومنطلق الأنثروبولوجيا ايضا، مما يشكل اهمية هذا المقال، والمقالات التي سبقته جميعها. فمن هو، او ما هو، الروح القدس، من المنظور المذكور؟
في الحقبة الوثنية: اذا لاحظنا الحقبة الوثنية من وجهة نظر انثروبولوجية علمية، لا نرى بوضوح اي ذكر وثني لما يسمى روح الله. طبعا هناك ذكر الله، لكن لا يوجد ذكر لروح الله او الروح المقدس. اما نحن المعاصرين، فقد نرى الروح حتى في الأوثان، ولكن ما نراه، نحن المعاصرين، هو شيء آخر لا يدخل في هذا المقال، كما لا تدخل في اعتباراتنا حالة الأديان في شرق آسيا. فلماذا لا يوجد ذكر الروح القدس في الأديان الوثنية اذن؟
في تحليلنا الأنثروبولوجي: في تحليلنا الأنثروبولوجي نعزو سبب عدم وجود ذكرى الروح القدس في الأديان الوثنية الى ان الوثنيين كانوا يرون آلهتهم في المادة امامهم: في الحجارة المنحوتة، وفي مادة النجوم والقمر وفي اليم العظيم وفي الغابات الكثيفة ذات المساحات الشاسعة، وفي بعض قمم الجبال وغير ذلك. لقد كانت الآلهة متموضعة امامهم Localisés في المواد المختلفة ولم يكونوا بحاجة الى روح الله ليدلهم على وجود وطبيعة الههم. اما الكلام الدارج عن روح الغابة وروح البحر وغير ذلك، فلا علاقة له بالروح المقدس الذي نتكلم عنه الأن.
في حضارة بني اسرائيل: اذا درسنا حضارة بني اسرائيل، من خلال كتاب العهد القديم نجد الروح القدس في طول هذا الكتاب وعرضه. لا بل نجد بني اسرائيل في حالتين اساسيتين هما:حالة الطاعة لروح الله، وحالة العصيان على هذا الروح، عند عصيانهم على الأنبياء الملهمين من قبل هذا الروح، حيث اننا نجد تلك الطاعة وذلك العصيان في كتبنا المقدسة بعهديها. فإنجيل متى غالبا ما يظهر طاعة الجمهور ليسوع وعصيان ومقاومة رؤساء اليهود لبشارته، هو الذي بدأ رسالته تحت ارشاد الروح الذي ظهر له على شكل حمامة وأيد رسالته، في مشهد عماذه، ومشهد نزول الروح عليه بشكل حمامة سواء كان هذا المشهد تاريخيا ام مجرد رمز قصصي يخبرنا عن عمل الروح مع المبشرين بالحقيقة المخلصة والمحررة.
دور واسع للروح: فلماذا نشهد دورا واسعا للروح في العهد القديم؟ اننا نشهد دورا واسعا للروح في العهد القديم، لأن اله العهد القديم كان عهدا جديدا لبني اسرائيل، بخلاف العهد الوثني متعدد الآلهة. فقد كان اله بني اسرائيل الها يتصف بالوحدة وبمغايرة العالم المادي، وعليه فبحسب رؤية بني اسرائيل قد ترك الله الموضع المادي الذي كان قد احتله في زمن الحضارة الوثنية المادية المرتبطة بالمادة بشكل اساسي ودخل مرحلة قيادة بني اسرائيل قيادة روحية، غير مرتبطة بمكان مادي، سواء اطاع بنو اسرائيل الههم ام لم يطيعوه.
اله في السماء: ف/ بنو اسرائيل كانوا قد وضعوا الههم الواحد في مكان، او بالأحرى، في لا مكان، اسمـوه " السماء " فوق الأرض والقمر والنجوم وكل ما يرى وما لا يرى، كما نتلوا ذلك في قانون ايماننا المسيحي، او هكذا يسمى، حتى الآن، منذ عهد تحكم العقيدة باللاهوت المسيحي. هذا، ونستنتج من مجريات انثروبولوجية ان اله بني اسرائيل نفسه كان الها غيبيا الى اقصى الحدود، ولا يستطيع بنو اسرائيل ان يعرفوا عنه شيئا لولا وجود روح الله في كل مفاصل الحياة. ولذلك نفهم ايضا لماذا تكلم بنو اسرائيل عن الروح كثيرا، ولماذا بقي التعامل والكلام عن الروح في المسيحية ساريا حتى الآن ايضا، على الرغم من ان المسيحية رأت في يسوع حضور الله المتجسد في الانسان يسوع، حتى من قبل تكوين العقائد المسيحية، ومنذ زمن الأناجيل والكتابات المقدسة الأخرى.
هذا، وفي الحقيقة كل ذلك يحدث بكون المسيحية ( الكنيسة ) الوريث الشرعي والجدلي لظهور الروح في العالم وفي الأمم. وهنا بالحقيقة نقترب من الأب تيار ده شاردن، من حيث يكلمنا عن مسيرة العالم والحياة باستمرار وبلا توقف، مسيرة ليست بالتأكيد عشوائية، لكنها تتبع نظاما وقواعد موضوعة في الكون منذ انشاء العالم وتكوين الكون على اثر ما يسمى الانفجـار العظيم Bing Bang الكـوني. اما من ناحية اخرى فإننا نجد عند الأب تيار دي شاردن Teilhard de Chardin قولا مفاده ان الروح هو بعد من ابعاد المادة، فإذا زادت المادة في اية بنية او مؤسسة نقص الروح، وإذا قلت المادة (وهي متوحشة) زاد الروح وزادت الحرية ونقص الاستعباد في حياة الأشخاص وفي المجتمعات. ومن هنا يمكننا ان نقول ان المادة الجيدة القوية هي التي تقرر جودة الروح وحسن ادائه وعدم خموله وارتخائه. غير اننا من الناحية الاجتماعية نكون قريبين ايضا من عالم الاجتماع الانجليزي توينبي Toynbee الذي يكلمنا في احد كتبه عن نشوء وسقوط الحضارات. اذن هنا ايضا يمكننا ان نجد اصبع الله والروح القدس الذي يجدد وجه الأرض حقبة حضارية جدلية بعد حقبة. هذا، مع العلم ان هذا الكلام عن الروح وعن روح الله، يأتي هنا من منظور تقليدي مبسط، سوف نصححه ونوضحه فيما يلي من هذا المقال.
ماذا يطال هذا التجديد: اما تجديد وجه الأرض فمرتبط بصحة المادة وقدرتها على التعامل الجيد مع الروح وعمله المجدد، وإلا فسوف تحصل شيخوخة الانسان وشيخوخة العالم وموته. وهنا قد يقول البعض ان انساننا وعالمنا سائران نحو فراغ او موت الروح، لكننا نجيب هؤلاء بأن الروح موجود دائما في مادة الطبيعة وفي مادة الانسان وهو لا يفنى ابدا ما دامت المادة الطبيعية والمادة البشرية موجودة حية ترزق. لكننا مع ذلك يمكننا نحن ايضا ان نتكلم عن ضعف الروح وشلله المؤقت، ذلك ان المادة تحسن وتصلح من نفسها بدون توقف، كلما استطاعت الى ذلك سبيلا، ومهما يكن فان من طبيعة المادة ان : لا تفنى ولا تستحدث لكنها تتحول من صورة الى اخرى، بحسب القاعدة التي تعلمناها من العالم لافوازيه Lavoisier
وبما ان المادة تصلح نفسها باستمرار، او تتحسن جراء عمل الانسان، فان الروح يتحسن ايضا، لأن الروح هو بعد من ابعاد المادة الانسانية خاصة. فاذا تحسن الروح يؤثر هو الآخر تأثيرا حسنا على المادة ويساعدها على الترقي، بقدر تحلي المادة بمحاسن تجاوزها لمقاومتها الطبيعية لعمل الروح. اما تبادل التأثير بين المادة والروح فيأتي استنادا الى الرابطة التي تربط البنى التحتية بالبنى الفوقية، كما يقال في الفلسفة البنيوية. هذا، وبناء على الفلسفة البنيوية نفسها نرى ان " الانسان " هو الذي يتحمل مسؤولية مادته البيولوجية ومسؤولية ابعاد مادة الجسد الروحية. علما ان قاعدة تبادل التأثير بين المادة والروح نجدها عند الأب تيار ده شاردن الذي يقول بهذا التبادل وبقواعده. هذا، مع تنبيهنا الى ان الكلام عن الروح القدس يتبع القاعدة نفسها، عندما يكون موضوع الروح المقصود حاجة انثروبولوجية مطلقة ومقدسة، بحسب ما تعلمنا الظاهرة الأنثروبولوجية وعلم النفس الأنثروبولوجي.
وهنا اود ان ابوح للقارئ الكريم بأن الانسان، مادة وروحا، هو المسؤول عن تحسين مادته الانسانية الشخصية والاجتماعية لكي يصلح ذاته ويساهم في اصلاح مجتمعه، بدون اتكالية مفرطة على الاله وعلى يسوع والقديسين، الا اذا كان ذلك من باب كونهم نماذج فقط وليس بكونهم يعملون لنا العمل عوضا عنا. ومن هنا كنت دائما انتقد المنشدين في الكنيسة اثناء القداس الذين كانوا ينشدون مناجين يسوع بقولهم: انزل روحك ايها المسيح فيتجدد وجه الأرض، وينسون ان الروح لا ينزل من عل على احد، لأن الروح موجود في كل واحدة وواحد منا ومن المنشدات والمنشدين انفسهم، حيث عليهم ان يفعلوا ( من فعل يفعل ) عمل الروح في ذواتهم، فيحسنوا هذا الروح لكي تتحسن المادة التي هو بعد فيها، كما يحاولوا ان يحسنوا مادتهم الشخصية ومادة العالم الاجتماعية والحضارية، لكي يتقوى الروح في الشخص المتطلع الى حياة افضل ويتقوى الروح في المجتمع لكي يتغلب هذا المجتمع على وحشية مادته الانسانية. لذلك نقول للمنشدات وللمنشدين ان يكفوا عن اتكاليتهم ولا ينتظروا نزول الروح من السماء عليهم. هذه هي روحانيتنا التي من شأنها ان تبعدنا عن الاتكالية وتساعدنا على ان نعمل شيئا حسنا في حياتنا لأشخاصنا ولمجتمعنا ولإخوتنا البشر. ففي الحقيقة علينا ان نفهم بان عملية اصلاح مادتنا من اجل اصلاح روحنا، لا تأتي من المادة نفسها او من الروح كبعد في الانسان، لكنها تأتي من الانسان كبنية متكاملة القوى والامكانيات وموحدة من حيث مادتها وبناها الروحية، كل بنية بحسب طبيعتها الخاصة وبحسب تخصصها. هذا من جهة، ومن جهة اخرى، علينا ان نفهم ايضا، ان المادة تبقى مادة كثيفة ومتوحشة بطبيعتها الأصلية. كما يعود التوحش الى المادة الانسانية في خضم عمل هذه المادة على الارتقاء الى مرحلة اعلى من مرحلتها الحضارية الراهنة. اما الفرد فهو معرض الى الهبوط كلما اهمل نفسه وتوقف عن الصعود. اما في هذه الحالة فحسن النية لا يكفي والبدء بإصلاح المادة وفق قواعد مدروسة واجب انساني وروحي لا يمكن اهماله اذا اراد الانسان ان يرتقي بمادته وروحه نحو مرحلة مادية حضارية وروحية افضل، واذا اراد ان يحصل على تجاوب افضل مع قدسية الروح القدس، والتي لا تأتي من السماء بل من الانسان نفسه.
القس لوسيان جميل
2017
356 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع