اسماعيل مصطفى
الانسان الكامل
لوحتان رائعتان للانسان الكامل رسم احداهما الامام علي بن ابي طالب، والثانية رسمها صاحبه عدي بن حاتم الطائي عندما وصف عليا. فاللوحتان في الحقيقة يظهر فيهما الامام، مرة واصفا، وأخرى موصوفا.
اللوحة الاولى:
قال علي (عليه السلام): (كان لي فيما مضى أخ في الله، وكان يُعظمه في عيني صِغرُ الدنيا في عينه، وكان خارجاً من سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، وكان أكثر دهره صامتاً، فإن قال بذّ القائلين ونقع غليل السائلين، وكان ضعيفاً مستضعفاً، فإن جاءَ الجِدّ فهو ليثُ غابٍ وصِلُّ وادٍ، لا يدلي بحجّة حتّى يأتي قاضياً، وكان لا يلومُ أحداً على ما يجد العذر في مثله حتّى يسمع اعتذارَه، وكان لا يشكو وجعاً إلاّ عند برئه، وكان يفعل ما يقول ولا يقول ما لا يفعل، وكان إذا غُلب على الكلام لم يغلب على السكوت، وكان على ما يسمع أحرص منه على أن يتكلّم، وكان إذا بدهه أمران نظر أيّهما أقرب إلى الهوى فخالفه، فعليكم بهذه الأخلاق فالزموها وتنافسُوا فيها، فإن لم تستطيعوها فاعلموا أنّ أخذ القليل خيرٌ من ترك الكثير).
فهذه اللوحة الجميلة تبين لنا صفات الانسان الكامل، ومواقفه ونهجه القويم للعيش بعزة وكرامة في الدنيا والفوز بالجنة ورضوان الله تعإلى في الآخرة.
واذا تتبعت هذه الموعظة تجد أن كل كلمة فيها لها دلالات عظيمة وآفاق رحبة تمد الانسان بالقوة والنشاط والبهجة والسؤدد في كل آن وأوان كي يعيش في هذه الدنيا عفيف النفس غنياً مترفعا، لا يبالي أوَقَع على الموت أو وقع الموت عليه.
وعندما يبدأ الامام قوله بـ " كان لي فيما مضى أخ في الله " فهو يعني ما يقول، لأن الاخوة في الله هي أعظم وأجمل وأنقى وأصفى أنواع الاخوة؛ بل هي جامعة لكل معاني الاخوة الحقيقية التي تتجاوز في مراميها هذه الدنيا الدنية الزائلة لترتقي بالانسان إلى أعلى درجات الرفعة والكمال.
وهكذا الحال في بقية عبارات الموعظة وهي جميعا من السهل الممتنع كما هو واضح.. فتأمل كي ترتقي درجات هذا السلم الذي لن يوصلك إلّا لكل غال ونفيس في الدنيا والآخرة.
والمشار إليه بـ (كان لي فيما مضى أخ في الله) عثمان بن مظعون على أحد الأقوال. ويدلّ على أن المراد بالأخ هنا عثمان بن مظعون ما ورد من وصف علي لعثمان بالأخ، كقوله في وجه تسمية ولده بعثمان: (إنّما سمّيته باسم أخي عثمان بن مظعون).
أمّا اللوحة الاخرى فهي المروية عن عدي بن حاتم الطائي عندما دخل على معاوية بن أبي سفيان، فقال: يا عدي! أين الطرفات؟ يعني بنيه: طريفا وطارفة وطرفة قال: قتلوا يوم صفين بين يدي علي بن أبي طالب، فقال: ما أنصفك ابن أبي طالب إذ قدم بنيك وأخّر بنيه، قال: بل ما أنصفت أنا علياً إذ قتل وبقيت، قال: صف لي عليا، فقال: إن رأيت أن تعفيني، قال: لا أعفيك. قال: (كان والله، بعيد المدى، شديد القوى، يقول عدلا، ويحكم فصلا، تتفجر الحكمة من جوانبه والعلم من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته، وكان والله، غزير الدمعة، طويل الفكرة، يحاسب نفسه إذا خلا، ويقلب كفيه على ما مضى، يعجبه من اللباس القصير، ومن المعاش الخشن، وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويدنينا إذا أتيناه، ونحن مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه لهيبته، ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته، فإن تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويتحبب إلى المساكين، لا يخاف القوي ظلمه، و لا ييأس الضعيف من عدله. فأقسم لقد رأيته ليلة وقد مثل في محرابه، وأرخى الليل سدوله وغارت نجومه، ودموعه تحادر على لحيته، وهو يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني الآن أسمعه وهو يقول: يا دنيا أَ بِي تعرضت، أم إليَّ أقبلت؟ غرّي غيري لا حان حينك، قد طلقتك ثلاثاً لارجعة لي فيك، فعيشك حقير، وخطرك يسير، آه من قلّة الزاد، وبُعد السفر، وقلّة الأنيس).
قال عدي: فوَكَفتْ (دمعت) عينا معاوية، وجعل يُنشفهما بكُمّهِ ثم قال: رحم الله أبا الحسن، كان كذلك، فكيف صبرك عنه؟ قال عدي: كصبر من ذُبح ولدُها في حجرها فهي لا ترقأ دمعتها، ولا تسكن عبرتها. قال: فكيف ذكرك له؟ قال: وهل يتركني الدهر أن أنساه؟
فهل تجد لوحة أجمل من هذه للانسان الكامل المتصف بكل معاني الكمال والجمال.
وإن أردتُ أن أضيف شيئا؛ فما عساني أن أضيف، وهل يحتاج المقال إلى بيان، أم أن ما في المقال من بيان يغني عن السؤال، والحمد لله على ألطافِهِ ونعمه التي لا تعد ولا تحصى. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1685 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع