القس لوسيان جميل
عن صفات الالوهية وصفات القدسية
A propos des attributs divins
Et des attributs sacrés
المقدمة: القارئ الكريم! ربما لستَ متعودا على قراءة مثل هذا المقال الذي فيه شيء من الفلسفة، وفيه شيء من اللاهوت، وربما فيه كثير من علوم الانسان. والمقال سوف يتطلب لمعرفته، علاوة على ما ذكرناه، شيئا من التحليل البنيوي ومن التحليل الجدلي، وسيتطلب ايضا شيئا من المعرفة بما يسمى الفكر الانطولوجي الفلسفي، وشيئا من الفكر الأنثروبولوجي، وهكذا سوف يستطيع القارئ ان يعمل مقارنة وتفهما لما هو الهي ولما هو مقدس، كما سنرى لاحقا.
علاوة على ذلك كله:هذا،وعلاوة على ذلك كله، سيعرف القارئ، كم يقترب الفكر الانطولوجي من الفكر الأنثروبولوجي،في بعض اوجهه وأبعاده،وكم تبتعد هاتان الصفتان احداهما عن الأخرى.غير ان القارئ سيعرف،فضلا عما ذكرناه،اين يمكن ان يلتقي او يلامس الفكر الأنثروبولوجي شبيهه الفكر الانطولوجي، لقاء هو من جانب واحد فقط، هو جانب الانسان،او فلنقل ان هذا اللقاء هو في كنهه لقاء وهميا فقط، او يمكن ان يكون لقاء فلسفيا،بفلسفة هي اقرب الى الأيديولوجيا والنظرة الاعتقادية،منها الى علوم الانسان،او الفلسفة القريبة من العلوم المذكورة.
من اين نبدأ؟ على هذا السؤال نجيب ونقول، اننا نبدأ بمعالجة الصفة الالهية التي ينسبها البشر الى الله،غير ان ما سوف نعمله، في المرحلة الراهنة، اي في هذه المرحلة التي نرجع بها الى الانسان الراشد Homo Sapiens او ما بعده بزمن ليس بالقليل، هو اننا سنرى حقيقة النظرة الالهية الى الله والى منشئ هذه النظرة. ففي الحقيقة نحن لا يمكننا ان نعود الى الانسان الراشد او ما يشبهه ليخبرنا عن حقيقة نظرته الى الله، لآن الانسان في تلك المرحلة لم يكن بعد قد كون فكرة واضحة عن الاله. ولذلك نرى ان ننتظر فترة غير قليلة حتى يكون الانسان قد تطور اكثر جسديا وذهنيا، لكي تصير عنده فكرة عن الاله الذي يشرف على حياته، من عل، كما كان يظن ذلك الانسان. وعليه يكون علينا ان نتصور ان الزمن المطلوب للانسان الراشد لكي تكون له فكرة اوضح عن الله، يجب ان يكون زمنا غير قليل، لأن سرعة التقدم والتطور، في ذلك الزمن، كانت بطيئة جدا، وذلك حسب قاعدة معروفة تقول، كلما زاد التقدم الحضاري، كلما نقص الزمن المطلوب من الانسان الجسمي والذهني، لكي يصل الانسان الى الحضارة التالية الافتراضية.
العودة الى العلماء:اما من جانبنا فإننا نرى انفسنا مضطرين الى العودة، وان كانت سريعة،الى اكتشافات العلماء في مجال تطور الانسان الحضاري.ولاسيما اكتشافات الأب تيار ده شاردن،عالم الاحاثة Paléontologue الكبير.اما علم الاحاثة هذا،فيعرف بأنه دراسة المتحجرات من بقايا عظام الأحياء او شيء منها، والتي ماتت منذ عصور قديمة جدا.كما يقول لنا قاموس فرنسي على نافذة الكومبيوتر.غير ان الأب تيار ده شاردن Teilhard de Chardin ليس عالما في علم الاحاثة فقط، لكنه فيلسوف ولاهوتي كبير، اشتهر بوضع اسس لفلسفات وكتابات لاهوتية،مبنية على نتائج العلوم المذكورة. هذا وفي مقدمة نتائج العلوم هذه، قول الأب شاردن:ان الروح هو بُعد من أبعاد المادة، بمعنى ان النفس،او الروح، ليست كينونة خاصة تبقى بعد فناء الجسد،او بعد انفصالها المزعوم عن الجسد، بمدة غير محددة. علما بأن هذا الاستنتاج العلمي الذي يقول به الأب تيار ده شاردن، يجر وراءه استنتاجات اخرى كثيرة،على مستوى الحياة الانسانية الروحية واللاهوتية،لسنا بصددها الآن.
من اين نبدأ: مما نراه ان هناك فارقا لا بأس به، بين ان نقول اننا نبدأ من حيث بدأ تطور الانسان،هذا التطور الذي،ربما لا يزال مجهولا في بداياته. ولذلك لن نحاول ان نعمق حتى الجذور، لكي نصل الى الكائنات الحية ونعرف حقيقتها،ومنها الانسان طبعا. فمع الانسان يكفينا ان نبدأ مع ما يسمى الانسان الراشد Homo Sapiens،بحسب التعبير الغربي اللاتيني المستخدم في علم المستحثات.ولكن علينا ايضا ان نفهم، بأن علماء الاستحاثة،لم يفهموا بعد بكفاية،الى اية درجة كان الإنسان الراشد قد تطور فهمه وانفصل بشكل كاف عن الحيوانات جميعها.علما هناك اكتشاف حديث لكائن بشري بدائي، عرف عنه انه كان يقتات بوحيد القرن، وبلحاء الأشجار، وكان يتداوى بلحاء الأشجار كذلك. ويقال ايضا تخمينا، انه كان يملك فكرا بدائيا جدا،ولكن كان فكرا متقدا.غير اننا لا يمكننا بعد ان نستنتج معلومات كافية، لا من اي انسان قديم عرف حتى الآن.كما لا يجوز لنا ان نتكلم عن موضوعنا بناء على التخمين.ولذلك،وكي نستطيع الكلام عن فكر الانسان،لأي سبب كان،علينا ان نجد بعض البراهين التي تعرفنا بالإنسان، ليس في بداية اية مرحلة بدائية ولكن في وسطها، حينما يكون هذا الانسان قد اكمل شيئا من تطوره، وتنبه الى وجود قوة نسميها نحن بالاله.
وهكذا، نبدأ نحن بالكلام عن الصفة الالهية مع الانسان البدائي المتحضر قليلا.اما بدايتنا نحن بالكلام عن الصفة الالهية فتأتي بكوننا نرى ان البشر ابتدءوا بما هو اسهل في معرفة الصفة الالهية، اي انهم ابتدؤوا من الأنثروبولوجيا.علما بأن الأنثروبولوجيا كلمة مركبة من كلمتين يونانيتين هما الأنثروبوس اي من الانسان بما هو انسان، واللغوغوس اي الكلمة التي نراها في اللغات الغربية وتعني الكلمة والعلم والكلام عن. كما تعني الخطاب بكل انواعه، وما شابهَ ذلك.وهكذا تكون الأنثروبولوجيا علم الخصائص التي تُعرف الانسان،بصفته انسانا،وتميزه عن كل ما ليس انسانا:اي تميزه عن الحيوان مثلا.هذا،ويمكننا ان نقول عن ارسطو انه يقدم فلسفته من منظور انثروبولوجي شامل،لأنه لا يؤمن بثنائية افلاطون،اي انه لا يؤمن بـ/ ماهيات موجودة في عالم علوي، وتشير نوعا ما الى العالم الالهي، الأمر الذي جعل الفكر المسيحي وبعض آباء الكنيسة القدماء يميلون الى فكر افلاطون.
عودة الى ارسطو:اما الآن فنعود الى ارسطو وفلسفته الأنثروبولوجية الموضوعية:فلسفة الأشياء و ماهياتها. فأرسطـو بالحقيقة يؤمن هو الآخــر بـ/ ماهية الأشياء، لكنه يرى ان هذه الماهية توجد في عالمنا وليست في عالم علوي، يسمى عالم المثل، اي ليست في عالم علوي يحوي الماهيات والنماذج.
فلسفة فيثاغورس:كما يقدم لنا الفيلسوف فيثاغورس، ما يشبه او بالأحرى يماثل الفيلسوف افلاطون،حيث تأتي كثرة الأشياء والأحياء،بما فيها الانسان من المونادة الخلاقة،اي من الكينونة الواحدة التي هي كينونة فكرية، بهذا الفكر الذي تشترك فيه وتأخذ منه جميع الكائنات على ارضنا، حيث تأتي الكثرة من الواحد،كما يحدث مع المثل الأفلاطونية.وبذا تكون فلسفة فيثاغورس فلسفة انطولوجية بامتياز،حالها حال الفلسفة الأفلاطونية. اما معنى هذا القول فهو ان هذه الفلسفات يمكن ان تتكلم عن الله وعن الالهيات، بشكل اعتيادي، لا تعيقه اية مشكلة.هذا، وان من درس الفلسفة لابد انه يعرف ان فلسفة فيثاغورس تسمى عادة فلسفة الروح، التي تَنظم اليها صفة فلسفة الرياضيات ايضا.
فلسفة سقراط:على الرغم من ان فلسفة سقراط فلسفة اخلاقية، فإنها مبنية على رؤية تقول ان النفس عندما جاءت الى عالمنا من عالمها العلوي، فانها تفترض وجود هذا العالم العلوي الالهي فلسفيا وافتراضيا وذهنيا، ووجود مثله( نماذجه )، وربما الهه ايضا، كما في فلسفة افلاطون.
فلسفة ارسطو: اما ارسطو فلا يؤمن بعالم المثل،او عالم الماهيات السماوية، استنادا الى وجود الأشياء والفكر،لكنه يرى ان الماهيات او الفكر ( جمع فكرة ) هي في االأشياء المادية نفسها. لكن ارسطو، ومن بعده توما الاكويني ( القرن الثالث عشر الميلادي ) يؤمن هو الآخر انه بمقدور الانسان ان يعرف الاله السماوي ويعرف حتى شيئا من طبيعته بخمس طرق، ومنها الطريقة الآتية:
من معرفة الأشياء الى معرفة الخالق:لكي نفهم فلسفة ارسطو وطريقة معرفة الهه،يمكننا ان نلجأ الى الطريق الأول وهو طريق الحركة الذي يقول،بان لكل متحرك محرك.فارسطو يرى انه بتتبع حركة الأشياء يلاحظ ان اي شيء يتحرك لابد ان يكون له محرك. لكن ارسطو يرى ايضا، بداية ان المحرك المباشر الذي يحرك الأشياء هو محرك يعود الى العلة الثانية، وليس الى العلة الأولى. فبتتبع هذه الحركة من محرك مادي الى آخر، يرى ان جميع هذه المحركات ليست لها قوة ذاتية تحركها،او قوة تحرك جميع الأشياء وهي لا تتحرك.اما هذه القوة فيسميها ارسطو ومثله مار توما الله، ظانا ان هذه القوة هي التي تحركنا لكنها لا تتحرك ولا يمكن ان تكون موجودة الا في عالم علوي وليس في العالم المادي الأرضي.
مقل القطار وعرباته: عند تدريسي هذه المادة الفلسفية كنت دائما الجأ الى مثل القطار وعرباته، مع انه توجد امثلة كثيرة تؤدي الغرض عينه. مثل مثل الجرار وعربته ومثل الكاتب وقلمه وغير ذلك. ففي مثل القطار وعرباته المتعددة نقول:اذا وقف احدنا بجانب ماكنة القطار وتحرك القطار سوف يعرف ان الماكنة تجر العربة ما بعدها وان ما بعدها تحر ما بعدها وهكذا الى آخر عربة. لكنه سيفهم خاصة ان الماكنة تسحب العربات كلها الواحدة بعد الأخرى،فتكون الماكنة العلة الأولى لحركة جميع العربات، وتكون كل عربة العلة الثانية لحركة ما بعدها حتى نهاية جميع العربات، مع ان كل مثل يعرج،كما يقول الفرنسيون.اما اذا طبقنا هذا المثل على الله فسوف نشاهد المادة في عالمنا تحرك واحدتها الأخرى ضمن تحرك العلة الثانية، لكننا سنفهم بالتالي ان مصدر الحركة لكل ما يتحرك ويحرك الأشياء كلها في عالمنا وهو لا يتحرك،هو العلة الأولى،او ما يسمى الله.علما بأن مثل العربات وماكنتها هو مجرد مثل توضيحي،ولا ينطبق بشكل كامل على الاله السماوي،لأن الماكنة والعربات منظورة في عالمنا بينما الاله السماوي غير منظور وغير معروف بشكل مطلق.وهنا يكمن ضعف فلسفة ارسطو ومار توما، حتى بدأنا نقول ان الفلسفات جميعها عاجزة عن الكلام عن الله بشكل مطابق للحقيقة Adéquat.فالله يجب ان يكون ثابتا وكائنا اولا لكي يستطيع ان يحرك العلل الثانوية.
اما ارسطو فيمثل شكلا فلسفيا متطورا من الواقعية التي تعني معرفة كل الأشياء والأحياء الموضوعية من خلال ماهيات الأشياء والأحياء التي نراها في عالمنا، بما فيها الانسان. بحيث يكون اي شيء وأي انسان يملك طبيعته الخاصة به ( ماهيته )،التي تسمى بالغة الفرنسية Essence. امـا مصطلح الجوهر Substanceفيعني الماهية نفسها،ككينونة واقعية تملك كل اعراضها،اي كل تفاصيل وجودها الثانوية التي لا تنفصل عنها، فتكون الكائن، كشيء معين او كانسان معين. اما معرفة الباري ( الاله السماوي الخالق من العدم ) فتتم بحسب فلسفة ارسطو – مار توما عن طريق نسب كل الايجابيات التي يراها الفيلسوف في المخلوقات الى الهه،بعد ان يرفع هذه الايجابيات الى مرتبة اللامتناهي.وهكذا،وكما يلاحظ القارئ، نحن نبتعد من الأنثروبولوجيا كثيرا وندخل عالم الأونطولوجيا اي عالم الوجود بما هو موجود، او بالأحرى ندخل عالم الكينونة وعالم الكائن الواحد الثابت المتحلي بكل الصفات الانسانية المرفوعة الى مقام ال لا متناهي L'infini
مشكلة الفلسفات السابقة كلها:واذن، فان مشكلة الفلسفات السابقة كلها، وليس فقط مشكلة الفلسفة الأرسطية والتوماوية ومشكلة الفلسفة الأفلاطونية والأفلاطونية الجديدة وفلسفات اخرى حديثة ومعاصرة مثل فلسفة هيجل المشهورة، هي انها فلسفات عقلانية، سواء كان ذلك في بداية التفلسف البدائي او التفلسف المحدث والمعاصر.وبما ان هذه الفلسفات تعود الى عقل الانسان المتأمل،فان ذلك يعني انها فلسفات تعود الى طبيعة الانسان الحسية الموضوعية، ولا تستطيع الخروج منها،هذه الطبيعة التي قال عنها مؤخرا المطران يوسف توما انها اسيرة الحقيقة،وما معناه انها اسيرة الطبيعة الانسانية ايضا،وهي لا تستطيع بالمطلق ان تتجاوز هذه الطبيعة،لاسيما ونحن نعرف ان مصطلح الميتافيزيقا او ما وراء الطبيعة لا يعني الخروج من الطبيعة الانسانية وتجاوزها والعبور الى معرفة اخرى غير الطبيعة الانسانية،مثل الطبيعة الالهية.وهكذا فان مطلح ال/ ما وراء الطبيعة Métaphysique يختلف كليا عن مصطلح ما فوق الطبيعة Surnaturel،على الرغم من بعض القصور في المصطلحين. فمصطلح ما وراء الطبيعة الأرسطوي يبقى حقيقة معرفية ضمن بعض ابعاد الطبيعة المعرفية الروحية،وهي ابعاد بسبب طبيعتها الروحية نسميها ايضا ابعادا ما فوق الملموس،في حين بدأنا نعرف ان طبيعة البشر ليست كلها ملموسة،وان كانت كلها انسانية مادية.
علما اننا نقول ذلك اقتباسا من عالم الاحاثة الكبير والفيلسوف الذي يبني فلسفته على علوم الانسان،الذي يقول عنها البعض انها فلسفات،ونقول نحن عنها انها علوم حقيقية، وان كان فيها شيء مما هو غير ملموس. فهذا الفيلسوف يقول قولا بنيويا مفاده ان الروح هو بعد من ابعاد المادة وهو ملازم لمادته ولا يستطيع الانفكاك عنها،وان كان بامكانه ان يتجاوز المادة في تأثيره ويتجاوز نسبية الزمن او ما يسمى الزمكانية.علما اني قمت بتدريس هذه المادة الفلسفية خلال خمسة وعشرين سنة مع مادة اخرى سميتها منهجية انثروبولوجية لاهوتية معاصرة وعلمية.
غير اننا في نهاية فقرتنا الكبرى عن الالوهية،علينا ان نضيف الآن ونقول بأن علوم الانسان نفسها، وبما انها علوم انسان، ليس بقدورها ان تعرفنا بالعزة الالهية،لأن الاله هو من طبيعة اخرى غير طبيعتنا البشرية، ولكوننا لا نستطيع نحن البشر ان نتلقى من الباري او من الاله السماوي اي بلاغ كان واية معرفة كانت. وبما اننا قلنا ان الله هو من غير طبيعتنا، فيمكننا ان نجزم ونقول بان الاله السماوي لن يحاول ان يغير الطبيعة المادية التي خلقها من العدم،والتي تبقى طبيعة مادية لا تفنى ولا تستحدث، وانما تتغير من حالة الى اخرى ومن صورة الى اخرى.هذا، وبناء على ما جاء في الأسطر اعلاه لزاما ان يعود تغيير المادة من صورة الى اخرى، عن طريق العلة الثانية اي عن طريق الكون والقوانين المتكاملة التي نجد بعضها فيه،في حين لا زال البعض الآخر رهن الاكتشاف المستقبلي القريب او البعيد.ومن ذلك جميع القوانين التي تخص الانسان كفرد وكجماعة. هذا، وبناء على ما جاء اعلاه، علينا ان نفهم القول الذي يقول بأن الله لا يتدخل في حياة الانسان ايجابيا او سلبيا،وان الله لا يصنع المعجزات،ولا يقاصص احدا ولا يكافئ احدا،ولا ينتقم من احد، ولا يزج احدا في نار جهنم او يصعد احدا الى جنة الخلود،لآن كل هذه الأمور تفوق طبيعة الانسان،وان القول بها يأتي ضمن ما يسمى المشابهة،التي تعني تشبيه الله بالانسان وتشبيه عالم الآخرة بعالم الانسان،العملية التي تدعى بالفرنسية وفي لغات غربية اخرى بــ Anthropomorphisme اي تشبيه الله بالانسان،حيث اننا نحن البشر ليست لنا وسيلة للكلام عن الاله السماوي الا طريقة التشبيه هذه.ولكن، ترى هل ان منهجية تنشبيه الله بالاتسان توصل الانسان الى معرفة كنه حقيقة الاله السماوي؟ لا اعتقد.
حقيقة معرفة الاله السماوي:وبما ان الاله السماوي يتصف بالغيبية التي نراها من خلال هذا المقال،والتي يراها كل منا من خلال حدسه Intuition الخاص، فكيف تتجرأ السلفية وتتكلم عنه وكأنها تعرفه حق المعرفة وننسب اليه اعمالا تدل على انه يتصل بالانسان بشتى الاتصالات؟ان الجواب على التساؤل اعلاه معقد حقا.غير اننا نقولها من الآن بأننا سوف نغض النظر عن الاله الذي يتكلم بالأنبياء او بالكتب المقدسة،وحتى بيسوع،بسبب تعقيد هذا الادعاء،لكننا سنتكلم في نهاية تحليلنا العلمي عن هذه المسألة مكتفين بالكلام عن كتبنا المقدسة بشكل منطقي وعلمي، ومن دون ثوابت مسبقة،كما كنا نفعل من زمن طويل. علما أن هذا الشرط نفرضه على كل مسيحي مثقف ومؤدلج بأيديولوجية سلفية، ومن كل مسيحي غير مثقف ثقافة دينية وعلمية كافية، ونرجوهم ان يبتعدوا عن اسلوب التكفيرالغوغائي الذي لا يستند الى اي معطى،غير ما قد تعلمه في صغره، او ما يتعمد الاحتفاظ به بسبب ادلجة سياسية ومنفعة شخصية، تطلب منه البقاء في تقاليده الجامدة بعيدا عن العلمية المخلصة للانسان من الجمود الفكري والايماني.
لنسأل الأنثروبولوجيا: فاذا اردنا ان نكتشف سر كلام الانسان القديم، ومن ذلك الانسان الوثني ومتعدد الآلهة وانسان العهد القديم، وحتى انسان العهد الجديد منذ بدايته،والى يوم دخول العالم في الحضارة الجديدة،سوف نعرف ان سر التمسك بالاله السماوي يعود الى جهل الانسان بطبيعته الانسانية وجهله،للسبب نفسه، بالطبيعة الالهية.اما الآن،وكما يشيرعنوان فقرتنا الصغيرة،فقد بدأنا نعرف هذا السر،ونعزو سبب تمسك البشر في زمن ما قبل العلم بالههم السماوي، لأن مثل هذا الاله كان اسهل على الناس ان يفهموه، او بالأحرى، اسهل على المؤسسة الدينية ان تفهمه للناس بسبب غيبيته، مما يضطر البسطاء وغير البسطاء ايضا ان يصدقوا ما تقوله لهم المؤسسة الدينية عن الله. فما كانت المؤسسة الدينية تقوله في الزمن الغابر لعامة الناس، وما تقوله اليوم المؤسسة الدينية للبسطاء خاصة وللمنتمين اليها بلا تساؤل، يشبه من يقول للآخرين: اذا كنتم لا تصدقون ما اقوله عن عدد النجوم فاذهبوا انتم وعدوها. ولهذا، نرى العهد القيم يتكلم عن الهه، بما لا يصدقه العقل، ويجعل منه الها ليس له غير شعب العهد القيم ليرعاه ويعطي له الحرية والآمان والكرامة وحقوق الشعب والأشخاص. وهكذا نرى الكنيسة في المسيحية،ومنذ اقد العصور،تجعل من الله كائنا سماويا يرعى المسيحية ويرسل لها ابنه الوحيد ليموت على االصليب لكي يرضى هذا الاله ويغفر بواسطة يسوع خطيئة آدم وحواء، وسائر خطايا الشعب الأخرى، مقابل ايمان المسيحيي بيسوع وبالهه وبكنيسته.كما جعلت الكنيسة الهها الواحد،وبشكل اعتباطي،ثلاثة اقانيم باله واحد.كما جعلت يسوع الأقنوم الثاني الذي نزل من السماء وتجسد من مريم العذراء وولد منها هي التي لم تعرف رجلا،كما اجابت هي الملاك حينما بشرها بمولد يسوع.وهكذا نرى ان كل عقائدنا الواحدة اغرب من الأخرى، وكلها عقائد لا تخص الايمان لأنها عقائد تخص العقل وحده ولا يجوز ان يبت بصحتها غير العقل.هذا، مع العلم ان من لا يؤمن بعقائد الكنيسة الاسطورية بحسب ظاهرها، يعتبر محروما من الشركة الايمانية.علما ان هذه العقائد التي يقبلها البسطاء بسذاجة ومن دون تساؤل، باسم الايمان، او بالأحرى باسم الانتماء، تشوه حقيقة يسوع الانسانية وتشوه حقيقة موته دفاعا عن وتبشيرا بعالم لا يكون الله اله شعب واحد فقط، بل اله جميع الشعوب، يعطي الكرامة الانسانية والعدل لجميعهم، كما يعطيهم ابوته لكي يكون جميع المؤمنين، لا بل جميع البشر اخوة حقيقيين لاله واحد.علما ان البنوة لله كانت في حقيقتها بنوة انتماء روحي، ولم تكن بنوة لله بالطبيعة، حتى بنوة يسوع. كما لم تكن حتى بنوة بالتبني.
وعليه، نحن نرى ان ما يحدث لكل العقائد المسماة بالعقائد الايمانية، وخاصة لعقيدة التجسد،هي مجرد لغو كنسي لا معنى له Blabla ومجرد تسفيط كلام لا يفهمه احد حتى ولا رجال الكنيسة انفسهم،ومن بينهم اساقفة وبطاركة وباباوات،في الشرق والغرب. لذا نراهم جميعا يطلبون الايمان من رعاياهم وحتى من علمانييهم ومن لاهوتييهم، بشكل اعمى، كما يطلبون من مثقفيهم ان يكفروا بعقولهم لكي يصدقوا ما يقوله لهم رجال دينهم، معتمدين على تحويل وهمي، مستخدمين مقولات بشرية وحضارية بدائية واسطورية معتمة لا تفيد احدا،ولا يفهما احد، حتى من رجال الدين انفسهم.
التفسير المبسط للعقيدة:اما التفسير المبسط للعقائد او لنصوص الكتاب المقدس،فهو هرطقة اخرى. فقد تكون هناك صحة لما يقوله بعض الوعاظ حول الأخوة البشرية وحقوق الانسان والعدل والمحبة والتسامح، لكن ما يقولونه لا يمكن ان تسنده العقيدة ابدا،بل يمكن ان يستند الى نصوص مجتزأة من الكتاب المقدس،ومن متطلبات بعض الفضائل الانسانية الطبيعية،ومن مقتضيات حضارتنا الجديدة، وزمننا الراهن. ولذلك نقول ان رسالة يسوع كل واحد لا يمكن تجزئته ولا يجوز الانتقاء بين الأبعاد التي تحملها هذه البشارة.
التوجه البشري نحو السماء: بعد ان عرفنا ان الجهل بأسباب كثير من احداث الحياة هو الذي جعل الانسان يتوجه تلقائيا الى السماء، يبقى ان نعرف بوجود نزعة انثروبولوجية عند الانسان،وربما يشترك فيها الحيوان بصورة مصغرة جدا ايضا.هذه النزعة تسمى السببية. فالانسان عندما تأتيه حجرة مثلا،او رصاصة طائشة نراه يفتش عن مصدر هذه الرصاصة، او مصدر بقعة النفط التي تطوف على جدول او نهر. ثم للسبب نفسه كان الانسان منذ اقدم العصور يفتش عن مصدر وجود الشمس والقمر والحياة بكافة اشكالها، وعن سبب وجودها.
وعليه، فاذا طبقنا هذه النزعة الأنثروبولوجية على الأمور الكبيرة جدا، مثل سبب وجود الشمس والقمر والزلازل والقمم الجبلية العالية وهطول الأمطار وسقوط الثلوج وتفشي الأمراض الوبائية، وغير ذلك الكثير، وعجز الانسان في زمن وحضارة غير علمية عن ايجاد سبب هذه الظواهر في عالمنا الأرضي حينئذ لا يبقى امامه سوى ان يجد السبب في العالم العلوي، وعالم الله، مما يسبب نشوء افكار غيبية واساطير وفلسفات بدائية عن الاله السماوي وعن وجوده العلوي وعن علاقته بعالمنا الأرضي وبالكون كله.
علما بأن فلاسفة ذلك الزمان غالبا ما كانوا رجال دين منظمين ام غير منظمين، مما كان يسبب نشوء الأديان البدائية خاصة. هذا في حين ان نشوء الأديان الكبيرة المنظمة كان يعود الى سبب آخر هو سبب انثروبولوجي ايضا،لآنه كان سببا حضاريا وسببا جدليا بحيث كانت حضارة معينة تزيح حضارة ما قبلها بشكل جدلي ( ديالكتيكي ) مما كان يسبب ايضا ازاحة وجه اله الحضارة المنتهية الصلاحية لكي يظهر وجه اله جديد عوضا عن الوجه الالهي القديم، بحسب فلسفة ذلك الزمان التي كانت تعتقد ان تغييرا يحدث في عالمنا،في اي حدث،ولاسيما في الحدث الحضاري، ينسب الى الاله السماوي مباشرة،او ينسب الى الآلهة السماوية الاسطورية، ولا يستبعد ان ينسج الناس اسطورة تبين كيف ان الاله او الآلهة السماوية جاءت بحدث معين غير معروف لدى الناس.اما الشعوب الأكثر تحضرا، مثل الشعب العبري،وتاليا مثل الجماعات المسيحية الأولى،لم يسنسجوا اسطورة ليظهروا من خلالها سبب ايمانهم الجديد،لكنهم الفوا قصصا ذات مغزى خفي، في حين كانت تلك القصص في ظاهرها القصصي غير واقعية وغير تاريخية وشبيهة بالتاريخ فقط Para historiques،وكان علينا، نحن المعاصرين، ان نفهم تلك القصص ليس من خلال ظاهرها القصص،وانما من خلال معاني تلك القصص الباطنية، الأمر الذي يسمى بالتأويل Interprétation او يسمى التأوين، اي فهم النص القديم على ضوء زمننا المعاصر وحضارتنا العلمية. علما بأن بعض اللاهوتيين، مثل اللاهوتي كارل بارث سموا هذه العملية التأويلية بعملية ازاله الاسطورة من المعتقدات،وكان المفروض ان يقال:ازالة الاسطورة من ظاهر النص الاسطوري او القصصي، من اجل ان يستطيع الباحث ان يصل الى المعنى الحقيقي للنص العقائدي او حتى الاسطوري في زمن الأساطير،وذلك لآننا نعرف اليوم بأنه حتى الأساطير الحقيقية لها معنى انساني داخلي.ففي كل اسطورة او قصة دينية نجد النص الخارجي كما نجد مضمون ومعنى ذلك النص الداخلي الذي يجب البحث عنه، عوضا عن قراءة النص قراءة سطحية فقط.
بناؤنا الديني واساسه: واذن عزيوي القارئ يمكننا ان نستنتج من كل ما جااء حتى الآن في هذا المقال بأن الاله السماوي هو الأساس الوهمي الذي عليه قد بنى اغلب المؤمنين في العالم، ومنهم المسيحيون الذين نتكلم عنهم الآن بشكل خاص،حياتهم الشخصية وحياتهم الاجتماعية وحياتهم التعبدية وعلاقتهم الشخصية والاجتماعية بالاله كشخص الهي يسكن عالمه الخاص يسمى السماء او العالم الأعلى، حيث لا يراه احد ولا يعرفه احد، وان كان من الممكن فلسفيا ان نعرف فقط انه موجود،وانه بالتالي قد ترك امر تحريك العالم ومن ذلك العالم الانساني للعلة الثانية او الخليقة التي نجد فيها بشكل فلسفي وحتى علمي كل القوانين التي تسير عالمنا الانساني كما تسير كوننا اللامتناهي تقريبا، حتى امكننا ان نقول في كتابنا:كيف نتكلم عن الانسان اليوم ان الانفجار العظيم او ال Bigbang لم يحققه الباري نفسه بل حققته القوانين الفيزيائية والكيميائية الموجود في الكون Le Cosmos قبل الانفجار العظيم الذي اطلق انفجاره كل مكونات الكون الدقيقة التي كانت وكأنها مسجونة تحت ضغط لا يمكن وصفه.ولذلك فان هذا الانطلاق اطلق الحركة والزمن والحرارة والمساحة او القدرات الزمكانية كما يقال الآن. وماذا نقول هل هو اطلق الروح الذي كان حبيسا هو الآخر ايضا في الكون الكثيف او في المادة الأولى؟ نقول مع الأب تيار ده شاردن،نعم ان الروح هو الآخر انطلق مع انطلاق جميع القدرات الكونية والعالمية الأخرى، ومنها قدرات الانسان، حيث يتجلى الروح كبعد مرافق للمادة،بأجلى مظاهره،هذا الروح الذي رافق عملية التطور باتجاه ما هو اكمل واكثر انسانية، بشكل متدرج وبطيء جدا، ولا زال يكمل تصاعده واكتماله في مجال الانسان الشخصي والاجتماعي والحضاري، الى يومنا هذا، والى ما شاء الله.
واذن،هل نكتشف اليوم بأن من يحرك العالم ويرافق مسيرة تطور الانسان الحضارية،ليس الاله السماوي،بل هذا الروح الساكن فينا والمولود Inné مع طبيعتنا من خلال التطور، والذي يوجه حياتنا وكأنه يتكلم معنا من داخل طبيعتنا المعرفية ومن داخل ضميرنا بشكل ذاتي وغير موضوعي معتمدا على المشاعر الذاتية الداخلية؟نقول نعم هو كذلك،الأمر الذي سنتكلم عنه باختصار ايضا،فيما يلي من فقرات، وربما فيما يلي من صفحات. ولكن علينا في هذه الحالة ان ننتقل الى الأنثروبولوجيا والتحليل النفسي المعرفي لكي نصل الى حقيقة ما نكتبه الآن في هذه الأسطر الأخيرة من الفقرات اعلاه.
الأنثروبولوجيا علم ام فلسفة:وعليه،وبناء على التحليل اعلاه،ننتقل الى الأنثروبولوجيا من اجل الوصول الى ما يسمى مقدسنا الذي سيكون لنا بديلا نسبيا للاله السماوي،حيث سنرى وبوضوح، مع قليل من معرفة علمية يجب ان تكون موجودة فينا، لكي نفهم كيف توصلنا الأنثروبولوجيا الى المقدس الذي يوجه حياتنا الشخصية والاجتماعية والحضارية الى ما هو اكمل، وما هو متفق مع نتائج حركة الحياة الشاملة كلها نحو الأفضل. فما هي الأنثروبوولوجيا وكيف تقود البشر من خلال قوانين الحياة نحو الأفضل؟
نقول ان الأنثروبولوجيا هي علم يبحث عما هو من خصائص الانسان فينا كأنسان،حيث يفترض ان كل كائن حي يملك الخصائص الخاصة به والتي تنظم حياته كلها وتجعلها حياة ناجحة كحيوان معين. اما الانسان فيتبع هذه القاعدة نفسها،حيث يملك كل فرد من البشر خصائص بشرية بيولوجية موجودة عند كل من بني البشر،تجعل من هذا الفرد انسانا سويا لا يختلف عن البشر الآخرين،لا بل تجعل من اي مجتمع مماثلا لكل المجتمعات الأخرى، اذا ما تساوت عندهم شروط الحياة الواحدة، حيث ان اي اختلاف بين انسان وانسان وبين مجتمع وأخر لا يعود الى تفاوت في انسانية البشر بل الى تفاوت وتنوع بيئة كل فرد وكل مجتمع.علما اننا من الباب اللغوي، ومن باب المصطلحات يمكننا احيانا ان نتكلم عن الأدمية عوضا عن مصطلح الأنثروبولوجيا.اما اذا ما تساءلنا حول طبيعة الأنثروبولوجيا اذا ما هي فلسفة ام هي علم من علوم الانسان فاننا نفضل ان نقول فيها بأنها علم من علوم الانسان قابل للتحقق العلمي،حتى وان قلنا ان هذا العلم مشوب ببعض الفلسفة، هذه الفلسفة التي يمكن ان تترك مكانها لعلم حقيقي كامل، مع اكتمال الاكتشافات المعمقة حول طبيعة الانسان.
الى ماذا تقودنا الأنثروبوزلوجيا اذن:ان من يأخذ طريق الأنثروبولوجيا للوصول الى علوم الانسان الأخرى،بدلا من الفلسفات الوضعية الواضحة والأكثر سطحية،فانه يوصله تحليله الأنثروبولوجي الى نتائج كثيرة في امور كثيرة جدا،قد تبدأ فيما يخص ما يسمى الشعور العام Sens commun ثم تصل الى مناطق اللاشعور ومناطق المعرفة بكل اشكالها،ولاسيما المعرفة المرتبطة بالمشاعر وغير ذلك. اما من جانبنا فان الأنثروبولوجيا يمكن ان تقودنا الى شعور داخلي،ربما هو مرتبط بالشعور العام،وظيفته هي اشعارنا بحاجات تقع في قمة سلم ماسلو، والتي ربما لا يتكلم ماسلو عن هذه الحاجات بوضوح،او لا يتكلم عنها بتاتا،ظانا انه لا يجوز ان يتكلم عن الحاجات الالهية الغيبية في منهجيته.
غير اننا، نحن الذين نتكلم الآن عن ماسلو لسنا ماسلو ولا من مدرسته ولا من زمنه. فما كان ماسلو يعده غيبيا،وهو الاله السماوي،نحن ايضا نعده غيبيا،ولا نتكلم عنه الا لنقول،ان هذا الاله السماوي الذي نقبل ان يكون الباري او الخالق من العدم، نرى انه لا يستطيع ان يتصل مع عالمنا بأي نوع من الاتصال، اللهم الا عن طريق العلة الثانية (الكون) وما فيها من قوانين في شتى المجالات. ولذلك نتوجه نحو قوة اخرى روحية ذات الأصل الحياتي Biologiqueوالانساني،لكي نعرف حقيقة القوة التي تسير حياتنا وتشرف على تطلعاتنا وأمالنا.اما هذه القوة فلا نسميها الاله لكننا نسميها القوة (جمعها قوى) او القدرة الانسانية (جمعها قدرات ).
اما هذه القوة Faculté التي تقع فيما يسمى البنى العليا Superstructure للانسان، والتي هي بنى روحية دون ان تكون الهية فهي كثيرة، لكننا نعتقد ان جميعها، وبمقادير متفاوتة تخدم الحس الذي الذي يشعر بتدني وضعف وتهافت الحضارة القديمة،كما يشعر بضرورة الانتقال انتقالا جدليا الى حضارة جديدة، جريا وراء حاجة ( ماسلو )جديدة روحية ومطلقة في زمان ظهورها،بحث يشعر الانسان انه بدون الوصول الى هذه الحاجة ينقصه شيء انساني مهم واساسي.وانه بسبب ذلك يشعر بالاستلاب Aliénation وضياع الانسانية.وفي الحقيقة يقول علم النفس الأنثروبولوجي ان كل حاجة من حاجات الانسان تكون محبوبة على قدر اهميتها،اما الحاجة الى المزيد من الانسانية والكرامة فهي لا تكون محبوبة فقط ولكنها تكون مقدسة ايضا.اما القدرة التي تشعر بمطلقية الحاجات الروحية الانسانية، مثل الحاجة الى مزيد العدالة والى مزيد من الأخوة البشرية والتضامن الانساني، والى مزيد من الكرامة البشرية،والى التحرر من كابوس الأمم الدينية المستلبة للبشر، والتحرر من خوف عدوان الأقوياء وسطوتهم،والخوف من الآلهة او الاله،والتحرر من الشرور الانسانية الكثيرة المرتبطة بالحالات الحضارية القديمة وغير ذلك الكثير،ان هذه الحاجة المطلقة تصبح مقدسة،كما ان القدرة Faculté المشرفة على الحاجات الحضارية الروحية تصبح هي خاصة رمزا مقدسا،لجميع الحاجات المذكورة.
طبيعة الحاجات المقدسة:غير انه من طبيعة الحاجات المقدسة التي ذكرنا هي انها تدخل وجدان الأشخاص ببطء شديد، مع وجود مقاومة شرسة لمن تظهر عنده اقل نية في الاعلان عن الحاجة الى التغيير في موضوع معين وبأي قدر من الحاجات الانسانية المذكورة.لكن التجربة التاريخية تقول بأن لا توجد قوة مهما كانت شريرة او تدعي القدسية والدعم الالهي، يمكنها ان تقف بوجه زحف مشيئة التغيير في جميع القضايا، ومنها قضية التغيير نحو الأمور المطلقة في اهميتها. غير ان الرغبة في التغيير لا تبقى الى ما لا نهاية تسير ببطء شديد، ولكن يأتي يوم وتتحول تلك الرغبة الى ثورة، سلمية كانت ام عنيفة، فيبرز وجه حضارة جديدة وفكر جديد، كما يبرز وجه مقدس جديد بشكل علني وواضح، فيزيح الوجه الحضاري والروحي القديم ويحل محله الوجه الحضاري الجديد من دون منافس. وهكذا نرى ان من يحرك ويسير عالمنا الانساني: ليس هو الاله السماوي بل الرمز المقدس الأنثروبولوجي العظيم،هذا الرمز الذي يتكون داخل البنى العليا للانسان ثم ينتشر من انسان الى أخر على الرغم من كل الصعوبات التي يلاقيها، حتى يعم المجتمع في اغلبه. كل ذلك لأن الرمز المقدس ليس كينونة مستقلة لكنه بعد روحي داخل الكينونة التي تسمى الانسان، حيث ان هذا البعد الروحي الذي هو خدمة للفرد وخدمة للمجتمع الانساني يستطيع ان ينتقل من انسان الى انسان ومن مجتمع الى مجتمع آخر حتى يؤدي وظيفة تقدم الجنس البشري من حضارة الى حضارة اكثر انسنة من الحضارة الأولى.
فوائد الرمز الأنثروبولوجي:عندما نكتب هنا عن فوائد الرمز الأنثروبولوجي فان ما نكتبه هنا هو لمقارنته بفكرة الاله السماوي وما يعود الى عمل هذا الاله وما لا يعود اليه.
1- من اول الفوائد هي اننا نستطيع، بمساعدة التحليل الأنثروبولوجي العلمي ان نعرف ما يجري على يدنا ومن هو وراء حركتنا نحن البشر عكس فكرة الاله السماوي التي نجد معها كل الطرق مسدودة امامنا للوصول العلمي الى هذا الاله السماوي والى عمله الحقيقي، مما يتيح للبشر وخاصة من رجال الدين، وباسم الايمان، ان يتكلموا باسم الله ويعرضوا لنا مشيئته وحتى طبيعته الالهية بشكل اعتباطي. هذا، في حين، وفي احسن الأحوال والظروف الاجتماعية، لا يتكلم رجال الدين باسم الله السماوي، ولكنهم يتكلمون بشكل غير معلن، باسم الرمز الأنثروبولوجي الذي تكلمنا عنه، هذا الرمز الذى يصل عمله الى رجال الدين بطريقة لا شعورية، مثل المثري النبيل في مسرحية موليير والذي كان يعمل نثرا وهو لا يعرف انه يتكلم، او يكتب نثرا.
2- ان المعرفة الأنثروبولوجية العلمية يمكن ان توحد بين المؤمنين وبين غير المؤمنين وتضع هكذا السلام بين الشعوب. فالمؤمن وغير المؤمن،بحسب تحليلنا الأنثروبولوجي ومنهجيتنا العلمية انما يعملون عملهم الانساني سواسية وبعين الهمة والهدف،وهو تأدية واجب اجتماعي.الأمر الذي لا يمنع المؤمن من ان يتوجه الى الباري ويناجيه بعواطف المحبة وعرفان الجميل على القوانين التي وضعها في خلائقه والتي تسير عالمنا في الوقت الذي قد يكون غير المؤمن محروما من هذه العواطف وهذا النوع من المناجات شبه الصوفية Mystique.
3- قد يستطيع المؤمن الواعي ان يضع في عمله مسحة روحانية وهو يضع عمله تحت انظار الهه، سواء سمعه هذا الاله ام لم يسمعه. وسواء يسمع الله مناجاة المؤمن ام لا، فهناك صفة انسانية انثروبولوجية مفادها ان اية مناجاة في نهاية الأمر تتحول الى تأمل ذاتي بقوة هي اعلى من الانسان تدير العالم بحكمة عظيمة، حيث تتحول مناجاة الانسان لربه الى مناجاة لذاته الخيرة فيه، هذه المناجاه التي تفيد الانسان كثيرا، اكثر مما كان يعرف ان الله يسمعه. وفي الحقيقة هناك لاهوتي انكليزي قديم هو اللاهوتي شيبن، يقول ان علاقتنا بالله ( صلاتنا ومناجاتنا ) غايتها وهدفها ان نكون وليس ان نأخذ. اي ان مناجاتنا هي من اجل ان نتحول نحن الى حالة افضل نسعد بها ذاتيا مما يتيح لنا نشره ومشاركة الآخرين بهذا الفرح. بلغته الانكليزية يقول شيبن ان علاقتنا هي: To Be not to have. اما معنى ذلك فان مناجاتنا لالهنا وللقوة المسيرة لحياتنا يمكنها ان تجعل من حياتنا جنة روحية، تستحق ان تكون هدفا لحياة اكثر من اله سماوي لا نعرف شيئا عنه، ولا نعرف لماذا يجب ان نحبه، اذ كيف يمكننا ان نحب الها مجهولا لدينا بشكل مطلق، تقدمه لنا غالبا شلة من رجال الدين التي تثرثر بما لا تعرفه هي نفسها ولا تظهر فيها مفاعيل الروح الذي تبشر به؟
القس لوسيان جميل
23 آذار 2019
2938 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع