القس لوسيان جميل
ليس الله مسئولا عن فشل الطبيعة والإنسان اي عن الشر في العالم
كان الأقدمون، ولاسيما من ابناء العهد القديم يعتقدون ان كل حركة تحدث في الكون او في عالمنا يقوم بها الله، في حين يبقى الانسان مجرد آلة او وسيلة للتحريك.فالله يميت ويحيي والله ينزل مطره ويشرق شمسه على الصديقين والأشرار. والله يجعل الانسان ينجح في شغله او يفشل، والله يحدد عمر الانسان، والله يعطي الأحياء، ومنها الانسان،كل القوانين التي تخدم حياته. هذا، وإذا راجعنا سفر التكوين نرى ان الله هو الذي خلق الانسان " آدم" من صلصال وهو الذي استل حواء من ضلع آدم لتكون امرأة له. والله هو الذي وضع آدم وحواء في الجنة وأعطاهما واجباتهما الأخلاقية، ومنها ان لا يأكلا من الثمرة المحرمة التي في الجنة. كل ذلك وغيره قد جاء بحسب عقلية الكاتب الحضارية، ولا يجب ان نعطي لنصوص سفر التكوين ولغيره اي معنى تاريخي، بل نكتفي بمعنى واحد هو ان الله هو الباري ( الخالق ) لكل ما يرى وما لا يرى، ومن ذلك الانسان وهو المسئول عن كل ما يعمله الانسان وما يجري له. هذا ونجد الله في سفر التكوين بمعناه الحضاري الخيالي يؤسس له شعبا عن طريق اختيار ابراهيم.اما قصة اختيار موسى ودعوة شعب العهد القديم من مصر وإخراجه بيد قوية، بحسب وصف سفر الخروج الذي يهمنا منه معناه وليس تاريخه، فهي قصة طويلة تبدأ بسفر التكوين مع ابناء يعقوب ومنهم يوسف الصديق وتنتهي بخروج بني اسرائيل ( يعقوب ) من ارض مصر، باتجاه ما سماه العهد القديم بأرض الميعاد، بحسب عقلية ذلك الزمان الحضارية. وهكذا، وباختصار يكون الله، وكما يقول قانون الايمان، خالق كل ما يرى وما لا يرى ومحرك تاريخ الشعوب كلهم، ومنها شعب العهد القديم ثم شعب العهد الجديد، ومحرك انسان العهد القديم وإنسان العهد الجديد. هذا، ويمكننا ان نقول، وبحسب عقلية الأقدمين انه لا يوجد شيء يحدث للانسان الا ويكون بفعل الله وارادته، وذلك على مستوى حياة الانسان الفردية والشخصية وعلى مستوى حياة الانسان الاجتماعية.
لماذا كان البشر يصلون: من هنا اذن نفهم السبب الذي يدعو البشر بشكل عام، وابناء العهد القديم بشكل خاص الى الصلاة والتضرع الى الله لكي يحصل الانسان المصلي من الهه على مبتغاة:الصحة الجيدة والعمر الطويل والأولاد الصالحين والمال الوفير، بحسب عقلية ابناء العهد القديم. كما ان الانسان يصلي من اجل ان يغفر الله خطاياه ولا يحرمه الله من نعمه المادية خاصة بسبب هذه الخطايا. وفي الحقيقة يقول لنا التاريخ البعيد والقريب والذي يمتد الى ايامنا هذه عند الشعوب والأوساط الشعبية المتأخرة حضاريا، بأن الانسان كان يطلب من الله جميع حاجاته من كبيرها الى صغيرها، ويأمل ان يجيب الله الى هذه الطلبات التي كثيرا ما كانت ترفق ببعض النذور.هذا، وضمن العقلية المتأخرة المذكورة نرى بعض الناس يقولون بأن الزلزال الفلاني او سنة القحط الفلانية هي قصاص الله تسببه خطايا البشر. كما يقول ان نجاح فلان يعود الى رضا الله عنه. ولكن هل ان هذه المزاعم هي الحقيقة او ان ما يقال يعود الى وهم حضاري يقول بأن الله سبب اي حركة تحصل للانسان؟
قصة قصيرة: يقال ان احد الفلاحين الصغار في احدى مدن العراق التي كانت معتمدة على الزراعة فيما سلف من الأيام كان قد زرع ارضه الصغيرة بالحنطة الجيدة، مؤملا ان تعطيه ارضه غلة وفيرة يستطيع ان يعيش منها هو وعائلته برفاهية.وتقول القصة ان الفلاح كان يعتني بزرعه كثيرا ويأمل ان تعطيه ارضه غلة وفيرة. ولكن في حين ان الزرع كان قد نضج واقترب يوم حصاده، وإذا بالجو قد تلبد بالغيوم، وما لبثت تلك الغيوم المشئومة ان صبت على اراضي منطقة الفلاح المذكور كميات كثيرة من البرد ( الحالوب ) وأتلفت زروع المنطقة كلها، ومن ضمنها زرع فلاحنا المسكين المذكور. بعد هذا تقول القصة: في تلك الليلة المشئومة كان الفلاحون مجتمعين في بيت احدهم يتسلون مع بعضهم، حين نزل البرد على اراضيهم وتوقعوا انه اتلف زرعهم. فأخذوا يقولون الواحد للآخر: ربما لأننا خطاة عاقبنا الله بهذه النكبة الكبيرة. وقال آخرون من يدري ربما يكون لله مقصد فيما حصل لا نعرفه. انهم كانوا يقولون ذلك بحسب الفكر الدارج الذي كانوا قد سمعوه من منابر رجال الدين مسيحيين ومسلمين. اما فلاحنا المسكين فلشدة المه بقي صامتا لم ينطق بكلمة ولم يشارك في حديث رفاقه.
في اليوم الثاني: غير انه في اليوم الثاني اخذ الفلاح المسكين بندقيته وذهب ليتفقد زرعه، وإذا بالزرع كله قد تكسر ووقع على الأرض بعد انن اتلفه البرد ( الحالوب ). فاستشاط الفلاح غضبا ورفع بندقيته نحو السماء وبدا يخاطب الله قائلا:اين انت يا الله ارني نفسك ولا تختبئ في السماء وتصب علينا كوارثك! ان هذا المزارع، وبحسب العقلية التي كانت سائدة من ان الله هو المسئول عن كل حركة تحدث في عالمنا، لم يستطع ان يبرئ الله عما فعل به وبالمزارعين الآخرين، فأراد ان ينتقم من الله على فعلته. اما غيره فقد يتركون الكنيسة وإلهها ويسوعها بسبب النكبات التي تحل بهم. وهكذا، في تقديرنا تتسلل العلمانية الملحدة الى الشعوب، نتيجة الأجوبة غير الصحيحة وغير الحقيقية التي تعطيها الكنيسة للشعب، لكي يرضخ الشعب على الرغم منه لإرادة الكنيسة بكونها اراده الله نفسه، كما كانت تدعي سابقا كل الكنائس في مواعظها. فالكنيسة كانت تبرئ الله من الشر، لأن البشر كانوا يحسبون ان الله نفسه هو المسئول عما يحدث لهم من مصائب وكوارث، فكانت الكنيسة تنسب الشر الى البشر، فتقول مثلا ان خطايا البشر هي التي سببت الالام والمصائب التي تحدث لهم.
من جانبا:اما من جانب لاهوتنا الأنثروبولوجي العلمي نرى ان القدماء ومن ضمنهم المسيحيون الذين اقتبسوا كثيرا من العهد القديم كانوا يسيرون في لاهوتهم وراء وهم انثروبولوجي وحضاري عندما كانوا ينسبون كل شيء الى الله. هذا في حين ان لاهوتنا، وبالعكس تماما من لاهوت الأقدمين، لا ينسب اي شيء لله، لا الأمور الخيرة ولا الأمور الشريرة، وانما ينسب كل شيء الى العلة الثانية. فالعلة الثانية في تحركها تنتج امورا معينة،هي في اساسها ليست خيرا ولا شرا. فالزلزال مثلا وانقطاع المطر وسقوط الحالوب ( البرد ) وثوران البركان وتغشي الأمراض والأوبئة وغير ذلك ليست خيرا ولا شرا بالنسبة للعلة الثانية لآن ما تعمله العلة الثانية هو انها تتبع ضرورات قوانينها حسب. اما ان يكون بعض ما تعمله الطبيعة من امور طبيعية صالحا ام شريرا فان البشر قد يقبلون الصلاح من يد الله بفرح وبفعل الشكر، كما يواجه الانسان الشرور التي تحل به بموقفين: موقف الاستسلام لمشيئة الله المزعومة وموقف الرفض الثوري الناقد لله ولكنيسته.
الا ان جودة الأمور التي تكلمنا عنها او سوئها لا تهمنا في هذه الورقة. وهنا نقول ربما يهمنا الخير الذي يعمله البشر، او الشر الذي يرتكبونه، لكننا نقول ان هذا الخير او هذا الشر الذي يعمله البشر هو من مسئولية البشرية الخيرة او الشريرة، ولا يأتي من الله بأي حال من الأحوال. نقول ذلك، ليس لتبرئة الله من الشرور التي تنتابنا ولكن فقط من اجل مبدأ لاهوتي علمي ومعاصر وعلماني متحرر من قيود السلفية. فموقفنا الناتج من المنهجية العلمية المعاصرة يقول بأن الله خلق الكون من العدم، ووضع في ذلك الكون كل ما يلزمه من ضوابط وقوانين ونظم تسمح للكون ان يكون مستقلا في حركته وأن يؤدي واجبات طبيعته على اكمل وجه، بحيث لا يحتاج هذا الكون الى اي تدخل جديد من الله، لتسيير الكون وتسيير العالم والجماعات البشرية بحسب طبيعتها والقوانين التي تسيرها، ومنها القانون الذي يجعل من الانسان محركا باسم العلة الثانية لنفسه ولمجتمعه، متمتعا ببعض الحرية في عمله ومسنودا من قبل القوانين الموجودة في العلة الثانية والتي لا تتبدل، بحسب قانون يقول: ان المادة لا تفنى ولا تستحدث وانما تتحول من صورة الى اخرى بحسب قوانين هذا التحول ومشاركة الانسان الفعالة في التحول الذي يطرأ على المادة الفيزيائية والمادة الحياتية والمادة البشرية. ومع هذا الكلام المنهجي لابد ان نذكر بأن الانسان نفسه غير قادر انثروبولوجيا من تسلم اية رسالة من الله وأي تدخل منه. وعليه اذا ما وقع الانسان ضحية شر البشر الأشرار فان الانسان هو مسئول عن هذا الشر فقط وليس الله، وبالتالي فلا يجوز لأحد ان يعاتب الله عن شر هو لا دخل له فيه. كما لا يتوجب على الانسان ان يشكر الله من اجل نعمة لا دخل لله فيها لا من قريب ولا من بعيد، ربما باستثناء كونه العلة الأولى. غير ان الشكر في هذه الحالة لا يأتي بسبب تدخل مباشر لله في امور البشر، بل يمكن ان يأتي لاعتبارات صوفية ترقى الى الحالة التي ترى فيها ان الله وضع في قوانين العالم امكانيات الخير وامكانيات الفشل ايضا. وهنا علينا ان نعرف ان مسئولية الخير والشر تقع علينا فقط، ويحق في هذه الحالة ان نحاسب انفسنا عن اي تقصير ينتج عنه شر للآخرين، ويحق لكل منا، لا بل يجب ان نطالب من له قدرات عمل الخير والشر ان يعمل هذا الخير على قدر استطاعته، ليكون بذلك متفقا مع القوانين التي وضعها الباري في العلة الثانية، وفي الانسان نفسه. كما من حقنا ان نعمل ما باستطاعتنا لنردع الأشرار عن شرهم. وبهذا سوف نشعر بأننا متفقين مع طبيعتنا الانسانية الخيرة، فيحق لنا الفرح بما نعمله، حتى وان اقتضى ما نعمله تحمل بعض الصعوبات، قد تصل عند البعض حد تحمل الصعوبات، وفي حالات معينة، قد يصل عمل الخيرين حد الاستشهاد او حد المعترفين بالنسبة لمن تحمل مسؤولية مكافحة الشرر ولم يمت.
وهنا يحق ان نقول بإيمان ان يسوع كان من هذا النوع الذي جرته طبيعته الانسانية الحساسة والخيرة والشفافة والعميقة في مشاعرها الى محاربة الشر حيث وجد. علما بأن يسوع كانت طبيعته الانسانية، وكما وصفناها، مسئولة مسئولية تامة عن محاربة الأمة الدينية الثيوقراطية لكون يسوع كان قد عرف ان الأمة الثيوقراطية كانت قد صارت امة دينية نافذة الصلاحية وغير قادرة على قيادة شعبها الى حقوقه الانسانية. كما تصدى يسوع بشكل سلمي الى رجال دين تلك الأمة الفاشلة، على الرغم من انه كان يعرف ان مقارعة اولئك الرجال كانت رسالة شاقة يمكن ان تؤدي به الى الموت. فبهذا المعنى نستطيع ان نقول ان يسوع كان ينتمي بشكل كامل الى طبيعتنا البشرية – الانسانية، ولم يكن يحمل طبيعة هجينة انسانية وإلهية. فبطبيعته الانسانية اذن قد استجاب يسوع لمطالب طبيعته بسخاء عظيم، واستجاب بذلك الى حاجة الانسان الذي كان يتوق الى الحرية والانعتاق عن الأمة الدينية وشرائعها التعسفية ورجال دينها المتأخرين فكريا وروحيا. وبهذا المعنى نقول ان يسوع هو المخلص، وليس بأي معنى آخر.
القس لوسيان جميل
3209 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع