د. سعد ناجي جواد
لا يُلدَغُ المؤمن من جُحرٍ مرتين، حديث شريف وحكمة عظيمة، ولكن هل من متعظ: الأحزاب والقيادات الكردية نموذجا
كثر الحديث عن القرار (المفاجيء) الذي اصدره الرئيس الامريكي ترامب القاضي بسحب القوات الامريكية من سوريا. فمنهم من اعتبره قرارا صائبا كان يجب ان يحدث منذ زمن طويل لينهي التدخلات الامريكية التي لم ينتج عنها سوى الدمار وتفريخ الحركات الإرهابية، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، ومنهم من اعتبره قرارا غير حكيم ومتسرع خاصة وان الاٍرهاب مازال ينبض بالحياة ومرشح لان يستعيد انفاسه وبشراسة في اية لحظة. ولسنا بصدد تقييم هذا القرار، ولكن الهدف هو معرفة اثره على المنطقة ، وبالذات على القيادات والأحزاب الكردية في سوريا، التي توكد الاحداث على انهم سيكونون اكثر المتضررين من نتائجه. في كتاباتهم يؤكد كل الباحثين المحايدين في الشأن الكردي والمحبين للأكراد، والعبد الفقير منهم، ان اعتماد الأحزاب والقيادات الكردية على الأطراف الخارجية وسيلة ليس فقط غير مجدية، وإنما مضرة ومؤذية للشعب الكردي عامة. لسبب بسيط ان هذه الأطراف الخارجية قد اثبتت في اكثر من مرة انها لا تعير مشاعر الشعوب المغلوبة اية أهمية. والحوادث التاريخية الدالة على ذلك كثيرة. فمنذ إتفاقية سايكس – بيكو، (1916) حين جلس شخصان، احدهم بريطاني والثاني فرنسي، وهما يحتسيان الخمر وأمامهما خريطة كبيرة لمنطقة المشرق العربي و قاما بتقسيم المنطقة بخطوط وهمية على الورق بين بلديهما، وهما اللذان لم يكونا يعرفان شيئا عن المنطقة. مرورا بمعاهدة سيفر (1920) غير المطبقة التي تضمنت بنودا بخصوص دولة كردية، و إنتهاءا بمعاهدة لوزان (1923) التي أهمَلَت معاهدة سيفر و قسمت المنطقة بالصورة التي نعيشها اليوم. وتم بموجبها تجزاءة المنطقتين العربية و الكردية وبدون اعتبار لمشاعر ابنائهما، ولا للوعود التي أعطتها الدولتان، بريطانيا وفرنسا، لابناء المنطقة الذين حاربوا معهما ضد الدولة العثمانية، والطعنات الغادرة التي توجهها الأطراف الخارجية للأحزاب والقيادات الكردية مستمرة، ومع ذلك لم تتعظ هذه القيادات واستمرت في تسليم مصيرها الى الجهات الأجنبية، والتي اثبتت الوقائع انها تضع مصالحها فوق اي اعتبار.
في العراق مثلا لعبت بريطانيا بالورقة الكردية منذ ان اكملت احتلالها للبلاد في عام 1918، واستخدمتها لاجبار الحكومة الفتية على القبول بالانتداب وتوقيع معاهدات طويلة الامد لتثبيت نفوذها فيه وتهيمن على ثروته النفطية. وفعلت ذلك مع الشيخ محمود الحفيد ، ومع الملا مصطفى البرزاني. والآن تفعل الولايات المتحدة واسرائيل وفرنسا وبعض دول الخليج وإيران وتركيا نفس الشيء مع ابناءه وأحفاده وباقي القيادات الكردية. ونسيت هذه القيادات ما فعله شاه ايران معهم في عام 1975، وكيف حذت اسرائيل والولايات المتحدة حذو الشاه خشية إغضابه وخسران المصالح الكبيرة التي تربطهما معه. وانتهى الامر بالقيادة الكردية الى حياة المنفى. وآخر الطعنات كانت في عام 2017، عندما قامت شخصيات وقيادات متنفذة أمريكية وفرنسية واسرائيلية بتشجيع، بل طرح فكرة الاستفتاء على الاستقلال على القيادات الكردية ، ثم تخلت دول هؤلاء المحرضين عن القيادات الكردية لأن مصلحة هذه الدول كانت تقتضي ذلك. ولم يبق من يشجع الانفصال سوى اسرائيل، ليس حبا بالشعب الكردي وحقوقه، وإنما لهدفين صهيونيين، الاول هو ابقاء العراق ممزقا و غارقا في حروبه الأهلية ونزاعاته الداخلية، لتصل الى الهدف الثاني الاهم وهو اجبار العراق على الاعتراف بإسرائيل وتوقيع معاهدة صلح معها، واذا ماحدث ذلك، لا سامح الله، فستكتشف القيادات الكردية الوجه الحقيقي للسياسية الصهيونية، اذا كان هذا الوجه حقيقة خافيا عنها لحد الان.
و في عام 1946 فعل الاتحاد السوفيتي الشيء ذاته مع أكراد ايران، عندما كان يحتل شمال ايران اثناء الحرب العالمية الثانية، وشجعهم على تأسيس جمهورية مهاباد، على نمط الجمهوريات السوفيتية آنذاك، وزودهم بكل ما يحتاجونه من الأسلحة والملابس العسكرية ومطبعة واستشارات تنظيمية وحماية عسكرية لجمهوريتهم الفتية. ولكن وفِي نهاية نفس العام، وعندما حصلت موسكو على مغانم من شاه ايران أنسحبت القوات السوفيتية، وتركت المقاتلين الاكراد وقيادتهم وحيدين في الميدان امام القوات الإيرانية، المدعومة من بريطانيا، التي احتلت مهاباد واعدمت قادتها وشردت الباقين منهم. وقامت شخصيات وقيادات من وفرنسا معروفة بصهيونيتها، وبأسلوب تحريضي بحت، بتقديم الدعم الإعلامي والمهرجانات لصالح أكراد العراق وسوريا وتركيا وايران، ولأسباب تتعلق بزعزعة الاستقرار في المنطقة ولصالح اسرائيل بالذات، وكانت زوجة الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران على راس هذه الحملة. ثم انتقل التلاعب بالقضية الكردية الى الدول الإقليمية، ايران وتركيا واسرائيل، التي نشطت كثيرا في هذا المجال، ولاتزال، لأسباب لا يمكن ان تكون خافية على اي إنسان حتى وان كان تفكيره محدودا. ثم أصبحت هذه الورقة مفيدة و تستخدم في الصراعات العربية – العربية، و اكتملت عملية الاستغلال بدخول الولايات المتحدة طرفا في استغلال هذه الورقة. طبعا هذه الحالة ليست غريبة في السياسة الدولية، ولا تشكل عيبا على الدول الخارجية التي تحاول ان تستغل اي ظرف لمصلحتها، ولكن العيب هو في الدول والأحزاب و الأطراف والقيادات التي تغمض عيونها عن سلبيات الاعتماد على الخارج رغم كل الكوارث التاريخية التي حلت بابناء المنطقة، وخاصة الاكراد، نتيجة لهذا التدخل و الوعود الكاذبة. وآخر هذه التجارب هو القرار الامريكي للتخلي عن أكراد سوريا و تركهم لمصير مجهول، بعد ان تم تحريضهم وتسليحهم وتدريبهم وتمويلهم. و كذلك فعلت اسرائيل ، كما اعترفت الصحافة الإسرائيلية موخرا. وهكذا يستمر مسلسل توريط الأحزاب والقيادات الكردية في أزمات لا تكسبهم سوى الماسي التي تحل بشعبهم اولا وتزيد من الشروخ بينهم وبين الشعب العربي الذي يعيشوا معه، وشاركوه تاريخا طويلا من النضال المشترك ثانيا . ويبدو ان المشكلة الاساسية تكمن في تفكير اغلب القيادات الكردية التي لم تستوعب لحد الان حقيقة ان دول العالم تحكمها المصالح وان من أولويات هذه الدول هو ان تُقيم علاقات مصالح مشتركة مع الدول الرسمية والمركزية في المنطقة، وأنها اذا ما نجحت في ذلك فسوف لن تعير أهمية الى اي جهة اخرى، و بالمقابل فانها تقوم باستغلال كل نقاط الضعف في تلك الدول، وعلى راس هذه النقاط تذمر القوميات او الأقليات، اذا ما فشلت في تحقيق مصالحها. و لكن وبمجرد ان تحصل على الامتيازات التى تطمح اليها فانها تتخلى عن من كانت تحرّضهم، او عندما تجد ان الحاجة قد انتفت من وراء دعم قومية ما او جهة معارضة. وهذا ماحدث مع أكراد سوريا. فلكي لا تخسر الولايات المتحدة دولة بثقل ومكانة تركيا في المنطقة، و بعد محادثة تلفونية سريعة مع الرئيس اوردوغان، اصدر السيد ترامب اوامره المباشرة، بل وأثناء حديثه مع الرئيس التركي، لمساعديه بالمباشرةً بسحب القوات الامريكية من سوريا، و لم يكلف نفسه حتى مناقشة مستشاريه حول اثر هذا القرار على القيادات والأحزاب والمليشات الكردية، التي كانت بلاده حتى ساعة اتخاذ هذا القرار تقوم بتسليحهم وتمويلهم وتحمي مناطقهم بغطاء جوي. الشيء المؤلم والذي يحز في نفس محبي الشعب الكردي هو ان اغلب القيادات الكردية لاتزال مصرة ومستمرة في سياسة او نهج تصديق الوعود الخارجية والسير ورائها. لا بل ان بعض هذه القيادات تجد متعة في ان تأتمر باوامر الجهات الخارجية في الوقت الذي ترفض فيه التعاون مع الحركات الوطنية في البلدان التي يعيشون فيها.
طبعا الانصاف يقتضي القول ان قيادات وأحزاب عربية لا تختلف في سياستها وتفكيرها ونهجها واستراتيجيتها فيما يخص الخنوع للاطراف الخارجية، عن هذه الاستراتيجية وهذا التفكير، الذي اذا كان ينم عن عدم معرفة بالسياسة الدولية في السابق، او عن طيبة او سذاجة في فترة ما بعد الحرب العالمية الاولى، ثم بعد استلاب فلسطين ومنحها للحركة الصهيونية بعد الحرب العالمية الثانية، فإنها لا يجب، و لا يمكن ان تكون كذلك بعد كل التجارب القاسية التي عانت منها المنطقة وشعوبها من المخططات الغربية والصهيونية. و لكنه و من المؤسف ان كل الدلائل تشير الى ان فكرة الانصياع للأوامر الأجنبية لا تزال مسيطرة على اذهان الكثير من القيادات في المنطقة.
لا احد يمتلك القليل من الانصاف يستطيع ان ينكر ان الاكراد، شانهم شان العرب، قد تم تقسيمهم وتجزاءة ارضهم خلافا لرغباتهم، ولكن ما يجب ان يتذكره الشعب الكردي ان من تسبب في ذلك هم ليس العرب، وإنما الأطراف التي تتعاون اغلب قياداتهم معها، وان الشعبين يعانيان من نفس العدو والاطماع الخارجية، والاهم من ذلك إنهما بنضالهم المشترك والصادق فقط يستطيعان ان يحققا ما يطمحان اليه، لكي يتجنبا اللدغات تلو اللدغات من نفس الجحر.
2993 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع