أ.د. ضياء نافع
غوميليوف ابن أخماتوفا وغوميليوف
غوميليوف - هو الابن الوحيد للشاعرة الروسية آنّا أخماتوفا من زوجها الاول الشاعر والناقد الادبي والمترجم ( اول من ترجم ملحمة جلجامش الى الروسية ) والمنظّر الروسي ( مؤسس مدرسة الاكمايزم في الشعر الروسي) نيقولاي غوميليوف , الذي اعدمته السلطة السوفيتية العام 1921 , واعيد اليه الاعتبار رسميّا في عام 1992 فقط , بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ( انظر مقالتنا بعنوان - الشاعر الروسي المخضرم غوميليوف).
ولد ليف نيقولايفتش غوميليوف في موسكو, عاصمة الامبراطورية الروسية العام 1912 , وعاش طوال حياته في ظل النظام السوفيتي , وتوفي العام 1992 في روسيا الاتحادية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي , اي انه عاصر كل النظم السياسية التي مرّت بها روسيا في القرن العشرين ( الامبراطورية الروسية ثم الاتحاد السوفيتي ثم روسيا الاتحادية ) . وكانت حياته صعبة ورهيبة جدا , اذ تم اعدام والده عندما كان عمره سبع سنوات , وقد انعكس ذلك طبعا على مسيرته اللاحقة و مصيره باعتباره ( ابن عدو الشعب !) كما كانوا يسمونهم آنذاك , خصوصا وان والدته الشاعرة أخماتوفا ايضا ( لم تمجّد الثورة !) , وكانت – كما هو معروف – شبه ممنوعة من النشر في تلك الفترة , وقد تم اعتقاله عندما كان طالبا في كليّة التاريخ بجامعة لينينغراد ( بطرسبورغ حاليا ), الا ان أخماتوفا كتبت رسالة الى ستالين ترجوه فيها ان يطلق سراحه ( انظر مقالتنا بعنوان – رسالتان من آنّا أخماتوفا الى ستالين ) , فأطلقوا سراحه فعلا آنذاك , ومع هذا , فقد دخل السجون السوفيتية مرتين بعد ذلك الاعتقال , الاولى العام 1938 ( لمدة خمس سنوات ), وبعد فترة السجن أرسلوه عام 1944 الى جبهات الحرب العالمية الثانية , وقد شارك بشكل فعّال في المعارك مع الهتلريين الالمان, وبعد اريع سنوات من انتهاء الحرب (1945) , سجنوه مرة اخرى , العام 1949 ( لمدة عشر سنوات ), و لكنه خرج من السجن عام 1956 , اي بعد سبع سنوات فقط , اذ شمله اعفاء السجناء آنذاك , وهي العملية التي أعقبت وفاة ستالين كما هو معروف . ورغم هذه المسيرة الرهيبة والصعبة وغير الاعتيادية والمليئة بالسجون والمعتقلات , فقد عاد غوميليوف الى الدراسة والبحث العلمي باندفاع شديد , وهكذا دخل التاريخ من أوسع أبوابه كما يقال, واصبح عالما وكاتبا وباحثا وشاعرا ومترجما ومستشرقا وجغرافيّا ومؤرخا وفيلسوفا , ويوجد له تمثال الان في قازان عاصمة جمهورية تتارستان ( وهي جزء من روسيا الاتحادية ) , بل توجد جامعة حكومية رسمية في جمهورية كازخستان تحمل اسمه , وهي جامعة غوميليوف الاورو- آسيوية في استانا عاصمة كازخستان , اذ يرتبط اسمه – قبل كل شئ – الان مع مصطلح ( اورو – آسيا) بالنسبة الى روسيا , اذ انه كان يؤكد في العديد من مؤلفاته على هذه النظرية , التي تشير الى ان روسيا هي مزيج مندمج و متآخي ومتوحد من الروس والاتراك والمنغول, وان الروس هم تتار اعتنقوا المسيحية , وان الصفة الاساسية لروسيا كبلد هي ( السمة الاورو- آسيوية) , وان على الروس ان يعوا ويستوعبوا هذه الحقيقة , وانه ( تتوحد عضويا في كينونتهم عناصر الشرق والغرب معا) , اي انهم ( اوربيون وآسيويون في آن واحد ) , ولازالت هذه الآراء مطروحة – وبحيوية – امام المجتمع الروسي بشكل خاص , وامام الباحثين حول علم الاجناس ( الاثنولوجيا ) في العالم بشكل عام , بل ان هناك بعض الباحثين , الذين يربطون ذلك حتى بمسألة الصراع الهائل , الذي كان سائدا في القرن التاسع عشر في اوساط الادب الروسي بين انصار النزعة السلافية وانصار النزعة الغربية , هذا الصراع الذي استغرق اكثر من نصف قرن من النقاشات والتصادمات والمواقف المتضادة في تاريخ الفكر والادب الروسي ابتداءا من بيلينسكي وتشرنيشيفسكي وعبر تورغينيف ودستويفسكي واستروفسكي وبقية الاسماء الادبية اللامعة , و على الرغم من ان غوميليوف لم يكتب بشكل مباشر حول هذه المسألة بالذات, الا ان الباحثين يرون ذلك انطلاقا من تلك الافكار النظرية , التي ثبّتها غوميليوف في مؤلفاته المتنوعة والعديدة .
لقد نشر غوميليوف العشرات من الكتب والبحوث العلمية المهمة في مجالات مختلفة من العلوم الانسانية والبحتة , ولهذا فانه دخل التاريخ الروسي من مختلف ابوابه , بل وحتى ظهرت في روسيا بعد وفاته عدة جمعيات علمية تعنى بجمع تراثه ونشرها على نطاق واسع , وخصوصا في مجالات علم الآثار( الاركيولوجيا) وعلم الاجناس ( الاثنولوجيا) وعلم طبقات الارض ( الجيولوجيا ) , ويدرس الباحثون الان تراثه ويجمعونه , بما فيها قصائده التي كتبها في مرحلة شبابه وهو يحاول ان يحاكي قصائد والده غوميليوف أكثر من قصائد والدته آخماتوفا , وكذلك ترجماته عن اللغة الفارسية الى الروسية , وهي اللغة التي تعلّمها وأتقنها عندما عاش في جمهورية طاجكستان السوفيتية آنذاك , ولا يمكن حصر تلك المجالات المتنوعة لنشاطه العلمي في عدة سطور , الا اننا نود الاشارة في الختام الى بحث علمي متميّز له بعنوان – (هل يمكن للنتاج الادبي ان يكون مصدرا تاريخيا ؟) , نشره عام 1972 في المجلة الاكاديمية المعروفة ( الادب الروسي ) , والذي طرح فيه رأيه بخصوص الملحمة الشعرية الروسية في القرن الثاني عشر ( كلمة حول فوج ايغور ) , والتي تعد واحدة من أوائل النتاجات في تاريخ الادب الروسي , والتي استند عليها الكثير من الباحثين الروس في كتاباتهم التاريخية , و نحن نشير الى هذا البحث المهم ختاما لمقالتنا , اذ اننا نرى فيه امكانية الحديث عن تلك النظرة الموجودة في تراثنا العربي ايضا , اذ غالبا ما نرى انعكاسا لهذا الرأي في بحوث المؤرخين العرب , عندما يستشهدون بمقاطع من النتاجات الادبية التراثية باعتبارها وقائع تاريخية شبه ثابتة في تاريخنا , وهي مسألة تستحق التوقف عندها وتأملها بامعان وحسب مفاهيم علمية دقيقة بلا شك .
غوميليوف – اسم كبير شبه مجهول للقارئ العربي , وهو يستحق ان ندرس تراثه وموقعه في تاريخ الفكر الروسي , وان نقدّم مختارات من نتاجاته للقراء العرب .
1213 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع