ماذا يعطينا الوجود الأول عن ذاته

                                                

                         القس لوسيان جميل

ماذا يعطينا الوجود الأول عن ذاته

وهنا نعيد باختصار ما جاء في المقال السابق اعلاه عن وظيفة الوجود الأول ( العلة للأولى ) من معلومات عن ذاته وعن صفاته المقدسة، والتي نستطيع ان نصل اليها عن طريق الفلسفة، وماذا تعجز الفلسفة عن اعطائنا اياه من معلومات؟ وفي الحقيقة ان الجواب على هذا التساؤل سيحدد جوابنا عن تساؤل آخر يقول: ماذا لا تعطينا اياه العلة الأولى من معلومات عن ذاتها، عن طريق الفلسفة، وأي نوع من العلاقات يمكن ان تقيمها العلة الأولى مع العلة الثانية، وأي نوع من العلاقات، لا تستطيع او لا تريد ان تقوم بها العلة الأولى هذه. كما أننا ومن جهة أخرى، نتساءل ايضا عن نوع العلاقات التي يستطيع الانسان، بصفته ارقى كائنات العلة الثانية، ان يقيمها او لا يقيمها مع العلة الأولى.

ماذا تعطينا العلة الأولى: ويقينا، وبعد كل ما ذكرنا من مبادئ فكرية، يمكننا بثقة ان نقول ان ما تعطينا اياه العلة الأولى من معلومات عن ذاتها وعن عملها بيننا، من خلال المنطق الصوري والفلسفة الارسطية – التوماوية، هو ان هذه العلة كائنة ( موجودة ) وهي التي خلقت او بالأحرى اوجدت العلة الثانية، طالما ان لفظة " بارويا " لفظة تعود بالدرجة الأولى الى كتاب العهد القديم. اما ما عدا ذلك فلا تعطينا العلة الأولى شيئا آخـر، ربمـا باستثناء ان العلة الأولـى تستمر في دعمها لما اوجدته، لكي لا تعود العلة الثانيـة الى الفناء وتستمر في الوجود، محتفظة بكل القوانين التي تسيرها وتنظم مسيرتها الأبدية، مهما تقلبت وتغيرت احوالها عبر الزمن، كما تقول الفلسفة اللاهوتية الارسطية ـ التوماوية.
ما لا تعطينا اياه العلة الأولى: ان ما لا تستطيع، او لا تريد العلة الأولى ان تعطينا اياه، هو التدخل من جديد في الكون، بالضد من قوانينه الأبدية. فالأول الذي اوجد كل شيء بقانون حسن ( رأى الله ان ذلك حسن )، لا يعقل ان يغيره من اجل قضية طارئة. فإذا كانت المادة حسب قول العلماء، لا تفنى ولا تستحدث، كما يقول الفيزيائيون، وتقول به الفلسفات التي تتكلم عن مادة الأشياء وعن صورها Matière et forme، فان هذا يعني ان الله لا يريد او لا يستطيع ان يغير قانون هذه المادة وهذا الكون، سواء كانت هذه المادة من البنى الكبرى Macro structures ام كانت من البنى الصغرى والدقيقة Micro structures،على الرغم من امكانية تغيير صورها باستمرار فيزيائيـا وكيميائيا وحياتيا Biologique، مع بقاء المادة، هي هي لا تزيد ولا تنقص من حيث طبيعتها.
تدخل الله غير طبيعي: اما هذه الحقيقة الفلسفية والعلمية فتعني ان تدخل موجد هذه المادة في شؤونها، بغاية تغييرها وتغيير قوانينها ومسارها الطبيعي، لا يصبح غير طبيعي حسب، لكنه يصبح عملا متناقضا،لا يليق بموجد المادة الأول، ولاسيما ونحن نعرف ان موجد المادة، اي الكون وما فيه، لم يوجد هذا الكون من اجل مصلحة الانسان، ولا من اجل اية مصلحة اخرى، وان الانسان، وحتى الحيوان، عليه ان يكيف نفسه ويكيف بيئته لتصبح صالحة للسكن، ولا يطالب موجد هذا الكون بأن يكيف هذا الكون، حسب ارادة الانسان ومصالحه. من جهة ثانية فنحن نعرف ايضا، ان الانسان وكل الأحياء مزودون بالقوى التي تمكنهم من تحقيق ذاتهم، بحسب كينونتهم الوراثية وتأثير بيئتهم عليهم، فضلا عن المجهود الشخصي الذي يبذله الانسان، لكي يكون بالمستوى الذي يتمناه لنفسه وللآخرين.
سبب آخر: ومن جهة اخرى، فان سبب امتناع العلة الأولى عن القيام بالتدخل بشؤون العلة الثانية يعود الى كمال عملية الخلق وتعقدها، وكمال القوانين التي تسير العلة الثانية هذه، ليس لزمن محدد، وإنمـا الى ازمان لا نهاية لها، ممتنعين هنا عن الدخول في تفاصيل لا علم لنا بها، وليست في احسن احوالنا، حتى اليوم اكثر من مجرد نظريات علماء، احتاروا ماذا يقولون بشأن كوننا هذا.
اسباب معرفية: وفي الواقع نستطيع ان نقول ان الأسباب المعرفية او العرفانية، هي التي تلزمنا ان نعرف حقيقة عدم تدخل العلة الأولى في شؤون العلة الثانية، ومنها ما يعود الى محدودية عقل الانسان، الأمر الذي يجعله غير قادر بكفاءة على التعرف على المادة. وكذلك عجزه امام كل انواع المطلق Absolu، سواء كان هو المطلق الزمني، ام كان مطلقا من حيث تقدير المسافات الشاسعة، كالتي تعد بملايين او بمليارات السنوات الضوئية، او بأقل من ذلك بقليل. يكون من حيث الحجم، ومن حيث الأعداد التي يصبح من الصعب تخيلها عندما تصل الى حدود معينة، تكون عند البشر، ما يمكن ان نسميه الاعياء: اعياء المخيلة وإعياء القوى المسئولة عن معرفة هذه الأمور المطلقة.
في حالة العلة الأولى: اما اذا نظرنا من ناحية العلة الأولى فسنرى ان الانسان عاجز عن معرفة حقيقة هذا الوجود الذي نسميه العلة الأولى، حيث ينتج اعياء العقل عن طبيعة الله الروحية نفسها، حسبما يعرفها الانسان فلسفيا، على الأقل. فالله، او العلة الأولى، ليس مادة لكي يستطيع البشر ان يتخيلوه ويكونوا عنه فكرة تخضع لمعايير الصحيح وغير الصحيح. كما ان العلة الأولى لا تخضع لأية مقاييس زمنية ومكانية، ومختصرها المقاييس الزمكانية. فالله لا يمكن ان يخضع لعامل المكان ولا لعامل الزمن، فهو موجود في كل مكان وفي كل وقت، وذلك لأنه يتفوق على المكان والزمان، الأمر الذي يجعل من هذا الكلام، ان يكون كلاما غير قابل للتخيل، كأي مطلق Absolu لا يمكن ان يكون محددا لا بمكان ولا بزمان. هذه هي الحقيقة، اما ما زاد على ذلك فهو نوع من تشبيه الله ( العلة ) الأولى، بعالم الانسان Anthropomorphisme. علما بأن هذه الحالة هي المعنية عندما نقول باستحالة تعشيق وتركيب بين طبيعتين مختلفتين.
الله لا يستجيب لطلب او لدعاء: فإذا كانت هذه الحقيقة الفلسفية والعلمية مفهومة، فإنها تعني بأن اي دعاء تكون غايته تغيير ارادة الله وتغيير عمله الأول، يكون دعاء غير مستجاب، كما يكون الانتظار لأية مبادرة يقوم بها الله بوعد تغيير قوانين الكون والعالم انتظارا فارغا من المعنى. فالله عمليا لا يسمعننا ولا نسمعه، وان ما يسمع البعض في قرارة وجدانهم يأتي من العلة الثانية، وليس من العلة الأولى، اي يأتي من البنى الانسانية الموجودة في قعر الانسان الفرد والمجتمع، مطالبة بسلوكية انسانية جيدة، يستفيد منها المجتمع، ويستفيد منها صاحبها ايضا، والذي يصير وسيطا بين نداء الخير الذي يسمعه وبين متقبلي هذا النداء الخيّر الذي يحمل سلطته بذاته، ولا يحتاج مشرعا الهيا يدعمه ويفرضه على الآخرين، الا اذا اتى التشريع من العلة الثانية نفسها، من باب المساعدة والتنظيم الجيد للمجتمعات، في حين ان القوانين الوضعية تأتي من السلطات المدنية ولا تأتي من الله، شرط ان لا تبالغ هذه السلطات في فرض قوانين تعسفية على الآخرين، ومن ذلك السلطات الكنسية.
من يفند مزاعم الحرية المطلقة: ولكن، وعلى الرغم مما قلناه في الفقرة اعلاه، فإننا نستطيع ان نجزم بأننا، نحن البشر، وبعكس ما تقوله اكثر من فلسفة وجودية وغير وجودية، فان ظاهرة الأنثروبولوجيا، لا تدع الانسان متروكا لهواه او لحريته المطلقة، حتى وان لم يكن مؤمنا بأي دين، ولا منتميا لأية جهة اخلاقية، تفرض عليه ما يجب عليه ان يلتزم به، وذلك لأن حب الخير بكل انواعه، يأتي الانسان من داخله، وكأنه مولود Inné مع الانسان اذ ان حب الخير هذا الذي يتمثل بالعدل والمحبة والتسامح والتضامن البشري وبالعطاء المجاني، وغير ذلك الكثير، من الأمور الأنثروبولوجية، يصبح قانونا وقاعدة اخلاقية حرة ومحررة للإنسان، كما تشير بذلك فلسفة سقراط العظيم، في حين ان حرية الانسان، لا تتأثر سلبا بهذه الحقيقة، بل بالعكس، تتقوى هذه الحرية وتنتعش وتلقى كل الدعم لمساعدة الانسان في التحرر الحقيقي. هذا هو الانسان حقا، ولكن هل يعي مسئولو الدول والشعوب هذا الكلام؟ مع الأسف انهم لا يعون.
لنسأل علم الحياة: اذن لنسأل علم الحياة La biologie، فهو يعلِمنا بحقيقة الانسان، اكثر من غيره. فماذا يقول لنا هذا العلم يا ترى؟ الجواب ان هذا العلم يقول لنا ان الجينات الوراثية حقيقة حياتية، حيث ان هذه الجينات مسئولة عن كل صفات الانسان الأساسية والثانوية، سواء كانت صفات جسمية او كانت صفات العقل والمشاعر الوجدانية، حتى اننا نرى ان كل الفوارق بين انسان وإنسان تنتج من تباين الصفات الوراثية عند اي انسان، بحيث لا يكون هناك فردان انسانيان متشابهان مع بعضهما، حتى لو كانا توأمين. ويقينا ان ما يسمى بالفضائل الانسانية المشتركة بين كل الناس، تخضع هي الأخرى لعامل الوراثة هذا، هذا العامل الذي يجعل البشر متشابهين، ولكن غير متطابقين في كل شيء. وهكذا اذن يكون شعور البشر بواجب العدل والرحمة ( المحبة ) والتضامن الانساني، ومحبة التنافس والتضحية والمجانية وغيرها، موجودا عند كل الناس، ولكن تكون قوة هذا الشعور بالفضائل المذكورة متفاوتة من انسان الى آخر، بحسب ما تكون الجينات الوراثية قد منحتهم اياه. اما البيئة والاجتهاد الشخصي، فإنها مهمة كثيرا، ولكن هذه البيئة وهذا الاجتهاد الشخصي، ما كان يمكن ان يكونان فعالين، لو لم تكن قاعدتهما تملكان امكانية استقبال تأثير البيئة والاجتهاد الشخصي، مثلما لا يمكن لمعدن ان يستقبل برامج الكومبيوتر، لو ان الكومبيوتر لم يكن مزودا بالأشرطة الممغنطة او القابلة للمغنطة.
الجينات وبرمجة الحياة: وفي الحقيقة نرى ان ظهور قوى الخير وكره الشر عند الانسان الى حيز الواقع بعد ان كانت مجرد امكانات Puissances يعني وجود برمجة في الحياة البشرية لتنقلها باستمرار من منطقة الحياة الحيوانية الى منطقة الحياة الانسانية الرفيعة، الأمر الذي يجعلنا نرى في الأشرار الذين يوصلون بلدان الآخرين وإنسانهم الى التدمير، اناسا يعملون ضد التاريخ الانساني الصاعد نحو مزيد من الحرية والتآخي والصفات البشرية الأخرى. وهكذا يمكننا ان نقول القول عينه عن كل من يساعد الأشرار المعتدين في عمل العدوان والشر، وكل من يساهم فيه. فالعدوان في المجال الاجتماعي والسياسي، هو هبوط نحو الغرائز الحيوانية وابتعاد عن المطالب الانسانية الرفيعة التي تأنسن البشر. كل ذلك تحت خيمة العلة الثانية، والعطاء الأول الذي يعود كله الى العلة الأولى.
ولكن لنسأل ونقول: ترى هل تبقى العلة الأولى غير مسئولة عن اي تغيير؟ نقول نعم ستبقى هذه العلة الأولى غير مسئولة مسؤولية مباشرة عن نجاح وفشل الانسان، حيث ان العلة الأولى جعلت كل شيء يعود الى مفردات العلة الثانية التي لا يمكن احصاؤها. فهكذا يحافظ الله على حرية الانسان وسيادته، كما سبق ان ذكرنا ذلك في موضع آخر، حيث لا يكون عتاب الله عند فشل الانسان في امر ما، وهو فشل كثيرا ما يحدث في عالمنا الارضي الذي نعرفه، وخاصة في المجال الاجتماعي. وعليه نرى ان نبتعد عن الاتكال البغيض على اله لا يوجد لنا اي سبب حقيقي للاتكال على معونته وعونه، الا بشكل مجازي وغير مباشر، وهو شكل ذو قيمة كبيرة للإنسان. ذ
ماذا نقول عن ظاهرة المعجزات: غالبا ما ينسب البشر، بعض احداث الشفاء من المرض، وبعض الأحداث غير الطبيعية الى المعجزة. والمعجزة لفظا، في لغتنا العربية تعني ما يفوق قدرة البشر على فعله. في لغتنا الكنسية السريانية يستخدمون كلمة تدمورثا، وتعني التعجب، اي التعجب من حدث غريب. ولهذا، على ما اعتقد، شاعت في الكنيسة عندنا كلمة " الأعجوبة وجمعها اعاجيب، وأحيانا العجائب، للدلالة على الأحداث التي تعني المعجزة. اما اللغة الفرنسية فتستخدم كلمة ميراكل Miracle القريبة جدا من اللغة اللاتينية Mira فعل التعجب الفرنسي هو Admirer وفي اللغة اللاتينية هو Admirare تلفظ هكذا Admiraré حيث ان كل هذه الألفاظ اللغوية تعني احيانا المعجزة، وأحيانا اخرى تعني التعجب الشديد، عندما تكون ظاهرة معينة باهرة وعميقة وقوية في صفتها السماوية، وجمالها وقوتها وطيبتها وعدالتها وفي صبرها وفي محبتها وفي فيض خيرها وسخائها وعطائها الخ...
اما المعنى الحقيقي للمعجزة، او فلنقل المعنى اللاهوتي Théologique ( علم الالهيات ) فيعني المعجزة عملا خارقا لا يمكن لقوانين العلم ان تفسره، يقوم به الله نفسه، من اجل ان يقدم علامة للبشر، بأن الله قادر على كل شيء وبأنه يخرق قوانين العالم احيانا من اجل فائدة البشر، ومنهم المؤمنون بشكل خاص. ولذلك غالبا ما تربط المعجزة بالإيمان بمعناه الاسطوري.
في هذا السياق لا يمكن ان تنسب المعجزة الا الى الله الكلي القدرة وكلي المحبة، حتى عندما تأتي المعجزة على يد احد القديسين من البشر، حيث ينسب ما يحدث على ايدي القديسين الى الله مباشرة، هذا الاله الذي كان ينظر اليه حتى ايامنا هذه نظرة انطولوجية كيانيه، او الكينونية المختلفة عن النظرة الأنثروبولوجية، والتي نقدمها في هذا الكتاب، والتي نجد في ايامنا، ومنذ الستينيات من القرن المنصرم، شذرات منها، هنا وهناك، ولاسيما في المنهجيات اللاهوتية التي تسمى باللاهوت المعاصر، او تسمى ايضا بالمنهجيات التوفيقية، لأنها تحاول ان توفق بين العقيدة الكلاسيكية الغيبية والمتسمة بروح اسطورية، او بروح الفلسفة الأفلاطونية المفرطة في الغيبية والسمة الأيديولوجية، علما بأن الكنيسة قد ذهبت هذا المذهب، لا بل سارت في هذا الطريق الغيبي، لعدة اسباب فلسفية واجتماعية وحضارية، أي الفكر الحضاري السائد. ( الفكر الحضاري السائد )، كما كانت قراءة الكتب المقدسة المتسمة هي الأخرى بالحرفية والأدلة، مسئولة مسئولية كبيرة ومباشرة عن هذا الاتجاه الغيبي في الكنيسة. طبعا هنا لا نستثني العهد القديم من ذلك. اما الجدال في الكنيسة مع جماعات مختلفة فقد كان حدوث المعجزة احد عناصر هذا الجدال Apologétique، في حين وصلت بعض المناهج الجدالية الى حد السخافة، هذه السخافة التي لا زالت بعض الفئات تستغلها لطعن ايمان الكنيسة بالصميم. حيث نجد منشورات تخرج الى الاوساط الشعبية والتي تعد الناس بأن يصلوا ويستنسخوا الورقة التي تصلهم لعدد معين من المرات ويوزعونه على الاصدقاء، حيث تتحول القضية كلها من الايمـان الى معتقد سحري وخرافي Superstitieux يضر اصحابه كثيرا ويضر الكنيسة في الوقت عينه. مما يدل على ان الكنيسة، ولأسباب لسنا بصددها، ومنهـا اسبـاب لاهوت الكنيسة الجامد، لم تكن كفئا في هذه المسألة، مثل غيرها من المسائل الكثيرة.
في لاهوتنا الأنثروبولوجي: وبما اننا نتبع منهجية لاهوتية علمية، منذ فترة لا بأس بها، ترقى الى فترة الستينيات ـ الثمانينيات من القرن المنصرم، فمن الطبيعي ان تكون لنا فكرة عن المعجزات تختلف عما هو موجود حاليا في الكنيسة، او كان موجودا لديها خلال حياتها الطويلة، في بقاع مهمة من العالم. وعليه يكون من الطبيعي ايضا، ان تكون لنا فكرة عن المعجزات المذكورة في الاناجيل وفي اماكن اخرى من العهد الجديد، ومن العهد القديم كذلك.
معلمو الكتاب المقدس: والجدير بالذكر هنا اننا نريد ان نبقى قريبين من شارحي الكتب المقدسة Hagiographes في هذه المسألة تحديدا، هذا الشرح الذي لم يأخذ كل ابعاده في الكنيسة، فالكتب المقدسة لم تبق كتبا تاريخية، لأسباب كثيرة، منها ما يعود الى كتابها وعقلياتهم الحضارية، والأساليب الأدبية التي يستخدمونها، ومنها ما يعود الى زمن كتابتهم هذه الكتب الذي لم يكن مواكبا للحدث: يسوع، والذي لقب بالمسيح، ثم لقب بالمخلص، وبعد ذلك بزمن ليس قليلا لقب ايضا بال/ فادي وبغير ذلك من الألقاب الكثيرة، ووضع في اطار فكر العهد القديم في كثير من الصفات التي اعطيت له، حسب درجة فهم اللاهوتي والمبشر، الذي كتب الأناجيل. اما السبب الآخر لكون الكتاب المقدس غير مرتبط بالتاريخ، فيعود الى ان هذا الكتاب كان تبشيريا في غاياته الأساسية وليس تاريخا. اطروحات كتابية: Thèses Bibliquesوعليه، وبموجب هذه الاعتبارات العلمية يمكننا ان نرى في اغلب نصوص العهد الجديد، مثل نصوص العهد القديم، كلاما يخدم الأطروحة Thèse المسماة يسوع او المسماة يسوع المسيح. ويقينا ان ذكر المعجزات في الاناجيل، كانت احدى الوسائل الكتابية التي كانت تريد ان تظهر يسوع كمرسل من الله، مثل ابراهيم وموسى وغيرهم، لكي يبشر بما سمي بملكوت الله، هذا الملكوت الذي لم يكن اكثر، من حكم زمني قائم باسم الله، ومفروض باسمه ايضا، ولذلك سمي ذلك الحكم حكما ثيوقراطيا، اي حكما الهيا Théocratique.
الحمل الخفيف: وبما ان اي حكم، وان كان مفروضا باسم الله، كان يجب ان يكون حكما طيبا وخفيفا ومقبولا برضي واقتناع وفرح، كان يجب، بالنتيجة ان يكون حكمـا مفهوما وشفافا ومغريا، ولا يكون سخرة، وأعمالا ثقيلة، توضع على اكتاف الناس، بدون مبرر، في حين لا يمسها رؤساء اليهود بطرف اصبعهم. قال السيد المسيح: تعالوا الي، يا ايها المتعبون والثقيلة احمالهم، وأنا اريحكم، لأن نيري طيب وحملي خفيف. هذا، ولكي يكون كل كلام جديد او قديم، يقوله يسوع، في الانجيل، او يقوله احد الناطقين باسمه، كلاما مقبولا، عليه ان يكون كلاما شفافا وسهلا للفهم، لا يفزع منه المتقبل.
قصص شبيهة بالتاريخ: وهكذا نرى ان اغلب قصص المعجزات، ولاسيما التي تتعلق بشفاء المرضى، انما كانت قصص ما يسمى اليوم ومنذ فترة المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، شبيهة بالتاريخ، اي قصصا دينية، كان مبناها البنيوي المعجزة التي يسرد الانجيلي تفاصيل معناها الرمزي والمهمة تعليميا، في حين يكون المعنى الحقيقي الخفي هو الاشارة الى محبة الله للبشر والمساكين بالروح، والتي تظهر بابنه البكر يسوع، والتعبير عن رسالة يسوع التي بحسب فكر الانجيلي، كانت قادرة على تخطي كل العقبات البشرية التي كانت تعرقل البشارة الانجيلية، في حين يبقى سرد المعجزة، كلاما ظاهريا ماديا، مبنيا على معتقد وليس على ايمان، بحسب ادعاء السلفية. اما معنى القصة فيبقى خفيا يحتاج الى بعض التأويل لفهمه الفهم الصحيح.
كل قصة لمعجزة تعالج حاجة انسانية: ولهذا نلاحظ ان كل قصة تعالج مشكلة اجتماعية، او حاجة انسانية ملحة، تحتاج الى ايمان لتقبلها بسهولة وفرح. فشفاء الأعمى مثلا يعني قدرة وإمكانية تعليم يسوع شفاء من كانت البشرى موجهة اليهم، من العمى الروحي، الذي كان يعيق الناس بسبب تقاليدهم، وتراثهم الخالي من الايمان برسالة يسوع الجديدة. السير على المياه كان يعني ايضا قدرة يسوع على تخطي اية عقبة انسانية روحية تعيق قبول يسوع والإيمان بقدرته الخلاصية.
المعجزة في الكتب المقدسة: اما الكلام عن قدرة المؤمن على نقل الجبال فليس سوى كلام مصور Imagé يدل على ما يمكن ان يفعله المؤمن المبشر وغير المبشر بالصعوبات التي تعترض تبشيره او تعترض ايمانه الشخصي والاجتماعي. علما ان معجزات كبيرة مثل معجزة التجسد والقيامة ونص البشارة بالحبل الالهي، وبتولية مريم ام يسوع، وإقامة يسوع للأموات، مثل لعازر وغيرهم، فهذه كلها وغيرها ليست تاريخا، ولا يريد الانجيلي تقديمها كتاريخ، ولكنه يقدمها بهذا الاسلوب الأدبي المسمى الشبيه بالتاريخ، هذا الاسلوب الذي نعده الأسلوب الأكثر اقناعا للناس بالأحداث الخفية والرمزية، من كل الأساليب الأخرى. ومن هنا وبصراحة، نرى ان منهجيتنا الأنثروبولوجية، تلزمنا ان نعد اي تحويل للنص المقدس، من نص قصصي وتعليمي الى نص تاريخي، والى مجرد معتقد وهمي بمثابة خيانة للنص الانجيلي الرائع، وهو قد يقنع بعض الناس الساذجين بعالم غيبي لكنه لا يقنع كل الناس. هذا فضلا عن إن المعتقد الغيبي في الواقع الحقيقي لا يفيد احدا سوى من اجل حفظ الناس في انتمائهم الاجتماعي بعيدا عن الايمان الحقيقي.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

3086 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع