أ.د. ضياء نافع
مع د.عادل الجبوري في موسكو
كنّا معا في قسم اللغة الروسية بمعهد اللغات في جامعة بغداد , وسافرنا بطائرة واحدة من بغداد للدراسة في موسكو , وكنّا في شعبة واحدة لدراسة اللغة الروسية في الكلية التحضيرية قبل الالتحاق بكلية الفيلولوجيا ( اللغات وآدابها ) في جامعة موسكو , وتخرجنا في نفس العام الدراسي طبعا , متخصصين في الادب الروسي , وفرقتّنا الحياة بعدئذ بدروبها الوعرة , فقد عاد عادل الى العراق وأخذ يعمل مترجما في وكالات الانباء السوفيتية في بغداد , اما أنا , فقد سافرت الى فرنسا للدراسة العليا , وألتقينا في بغداد من جديد , وكان هو يستعد للعودة الى موسكو للدراسة العليا , أما أنا , فقد كنت اتهيأ للعمل في بغداد , وهكذا افترقنا مرة اخرى , وعاد هو الى جامعتنا العتيدة بموسكو , وحصل على الدكتوراه وقرر البقاء للعمل في موسكو , أما أنا , فقد بدأت بالعمل في جامعة بغداد , وكنّا نلتقي بين فترات متباعدة , عند زيارتي لموسكو اثناء العطل الصيفية , وهكذا استمرت الاحوال لحد الان , وحتى بعد عودتي الثانية الى روسيا . د. عادل عمل في وكالات الانباء الروسية اكثر من ربع قرن , والتقى باناس كثيرين من عراقيين و عرب وروس , وكم اتمنى ان يجلس يوما ليسجل ما رآه وما سمعه وما عاناه في مسيرة حياته الطويلة , اثناء عمله في مختلف وسائل الاعلام السوفيتية في موسكو , وما شاهده من وقائع عندما انهارت الدولة السوفيتية في بداية التسعينات , اذ انه واحد من العراقيين النوادر الذين عاصروا كل تلك الاحداث . وقد حاولت أنا دائما ان أدفعه ليحكي انطباعاته ومشاهداته الغنية تلك , فقد كان مثلا مترجما لوزير الدفاع السوفيتي الجنرال غريشكو اثناء زيارته الى بغداد , وعمل مع بريماكوف عندما كان مراسلا في بغداد , ويعرف د. عادل كل دروب وخفايا وكالة نوفستي للانباء وتاريخها ومترجميها ودورها في وسائل الاعلام السوفيتية , وعمل مع كل العراقيين الذين مرّوا في السبعينات والثمانينات في موسكو مثل غائب طعمه فرمان وجلال الماشطة وأحمد النعمان وغيرهم , وعنده مع كل واحد من هؤلاء العراقيين ذكريات وذكريات , وكل ذلك يستحق ان يسجله للاجيال القادمة , ولكنه لم يفعل , بل انه كان الوحيد بيننا , الذي تخصص بادب بوشكين عندما أكملنا دراستنا في كلية الفيلولوجيا , وكان مشرفه لرسالة الماجستير البروفيسور بوندي , وهو واحد من أشهر المتخصصين السوفيت آنذاك بأدب بوشكين , ولازلت أذكر , كيف كان الناس الغرباء (من كبار السن) يحضرون الى الكلية ويدخلون معنا الى القاعة عندما كان البروفيسور بوندي يلقي محاضراته عن بوشكين , كي يستمعوا اليه والى افكاره الجميلة , والتي لازلت أتذّكر منها تلك الصورة الفنية حول بوشكين والتي رسمها لنا عندما كنّا طلبة في الصف الثاني – ( يجب عليكم ان تطالعوا كتبا كثيرة كي تتفهموا اهمية بوشكين وجماليته , كثيرة جدا , بحيث لو وضعتوها واحدة فوق اخرى , فانها ستكون أعلى من بناية جامعة موسكو الجديدة ) , وقد اندهشنا – نحن الشباب آنذاك – من جملته الطريفة والغريبة والجميلة تلك . لقد روى لي عادل بعض ذكرياته عن بوندي , وكيف كان يستقبله في بيته وماذا كان يقول له عن بوشكين ( وهي أحاديث يمكن ان تتحول الى وثائق مهمة في تاريخ الادب الروسي لكل القراء العرب والروس ) . وحدثني عادل مرة عن لقاء له مع الشاعر الداغستاني الكبير رسول حمزاتوف في احدى مطاعم موسكو الفخمة , وماذا قال له حمزاتوف عندما عرف انه عراقي و متخصص في ادب بوشكين . وكل تلك ( النواعم!) الجميلة تستحق التسجيل للقارئ العربي , ولكن عادل لم يقم بذلك , ليس كسلا بتاتا, فهو أنشط منّا جميعا , ولكنه لم يقتنع لحد الان انه ( مثل كل جيلنا) وصل الى العقد الثامن من عمره المديد , فهو لازال انيقا بشكل واضح جدا, ويولي اهمية لشكله وملابسه وهندامه ( مثلما كنّا في صبانا), و لا زال يمتلك روحا شبابية مرحة , ويسعى الى اقامة جلسات المساء (العذبة !) أكلا وشربا وطربا واحاديثا مليئة بالذكريات الجميلة والضيافة الحاتمية الباذخة , بل ولازال يمتلك حتى الآن روح الطفولة النقية الصافية المباشرة وردود فعلها العفوي السريع من وئام وانسجام وغضب وزعل ودلع وعتاب وصلح وكلام ينساب من القلب الى القلب وذكريات مضى عليها اكثر من نصف قرن وبكل تفاصيلها المتشعبة الصغيرة , وأذكر مرة , انه روى لي كيف أقمنا (حفل عشاء!) في القسم الداخلي عندما كنّا طلبة في الكلية التحضيرية العام 1960 , وساهم كل واحد منّا بما يوجد عنده الا فلان ( وأسماه بالاسم واسم الاب !) , وعندما قلنا لهذا الشخص ذلك , أجاب , انه جلب الملح , وبقينا نضحك عدة أيام على جوابه هذا , ثم نسينا الامر برمّته طبعا , ولكن عادل تذّكر كل تلك التفاصيل وبحذافيرها بعد حوالي الستين سنة , بل انه قال لي معاتبا ومتعجبا – كيف تنسى تلك الحادثة في حياتنا ؟ , وما اكثر تلك الحوادث الصغيرة والجميلة , التي ترتبط بمسيرتنا.
د.عادل الجبوري - واحد من أقدم العراقيين المقيمين في موسكو , وهو لا زال وسيبقى عراقيا أصيلا (قلبا وقالبا) رغم انه يسكن في موسكو منذ حوالي ستين سنة . دعونا نتمنى له طول العمر , وننتظر منه كتابة مذكراته وذكرياته وخواطره , اذ ان ذلك كله يمتلك اهمية ثقافية و تاريخية يا أبا سمير الورد .
917 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع