د.ضرغام الدباغ
حول مصرع الصحفي السعودي الخاشقجي
ابتدأ لابد أن نثبت مبدأ : أن قتل أي إنسان وتصفيته إن اغتيالاً، أو حتى بالإعدام بعد محاكمة عادلة (بتقديري) هي ليست الوسيلة الدقيقة لتصحيح خطأ ما. الهيئة الاجتماعية التي تشرع القوانين لا تتعامل بالغضب، أو بردود الأفعال على الأفعال. بل هناك قوانين، وكلما كانت القوانين راقية، فهي تتعامل مع بشر يفترض أنهم في مجتمع راقي، ومن المعروف أن القوانين دليل على رقي أي شعب.
ثم أن هناك طائفة من المبادئ والحقائق، منها مثلاً أن واجب ومهام الممثليات الدبلوماسية هي تمثيل الدولة عند الدولة المستضيفة، بالدرجة الأولى، ومن ثم تعتبر الممثليات الدبلوماسية على اختلاف أنواعها ودرجاتها: سفارة / قنصلية عامة، أو أي ممثلية تمنحها الدولة المضيفة الحصانة وسائر الحقوق الدبلوماسية، وتعتبرها امتداد للدولة ووجود لها، وبالتالي في أرض وطنية، وحددت اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية صلاحياتها بدقة تامة، ومنحت الحصانة الدبلوماسية للعاملين على أرض الممثلية، وهذه الحصانة تعني مزايا عديدة، منها عدم جواز تفتيش مقر الممثلية أو مساكن العاملين بدرجاتهم الدبلوماسية، ووسائط نقلهم (السيارات، وسائر العربات). (المواد 22، 35 إلى 39 من اتفاقية فيينا 1961)
وبهذا المعنى، فإن الممثلية الدبلوماسية هي ليست المكان المناسب، لأن تقوم الدولة صاحبة الممثلية بتصفية حسابات، أو محاسبة مواطنين بلادها المقيمين بالخارج، وتنفيذ عقوبات، بأي وسيلة كانت، بما في ذلك الاعتداء عليه بالكلام أو بإيقاع الأذى البدني، وصولاً للقتل. وإن حدث شيئ من هذا القبيل، فالقوانين تحدد الجهة التي لها صلاحية المساءلة القانونية، والأمر خارج الرؤى الشخصية والسياسية والمقترحات.
في حالة وقوع جريمة من الدرجة الأولى، كالقتل، بصرف النظر من يكون القاتل أو المقتول، فهي جريمة وقعت على الأراضي الوطنية للدولة صاحبة الممثلية، ولا يحق لطرف آخر التدخل واتخاذ إجراءات، إلا في حالة موافقة الممثلية (بعد موافقة المركز) على التنازل عن حصانتها، لتقوم الدولة المضيفة بإجراءاتها بالتعاون مع سلطات دولة المضيفة، وكل هذا يتم بطلب، بالوسائل الدبلوماسية وبتصرفات دقيقة، وهو ما جرى في حادثة القنصلية السعودية في أسطنبول (أكتوبر / 2018).
وموافقة السلطات السعودية على نزع الحصانة اختياريا ..! هو دليل أكيد على نية التعاون وكشف ملابسات الحادث الذي أدى في مفرداته إلى وقوع الجريمة. ولكن الإشكالية سوف لن تنتهي هنا، فأي محكمة سوف تحكم في الحادث، ثم وفق أي قوانين ..؟ وكيف وأين ستوقع العقوبة بالجاني(أو بالجناة) وكيف ستنفذ، وهذه عقبات ينبغي التعامل بها بمرونة واحترام متبادل بين الدولة صاحبة الممثلية الدبلوماسية، وبين الدولة المستضيفة.
في حادثة مقتل الصحفي الخاشقجي تحديداً، فعدا عن الحادث وإشكالاته على صعد عديدة، يلاحظ التدخل الدولي الواسع النطاق والغير مبرر. والأمر بداهة لا يتعلق بالجانب الإنساني أو القانوني، فالشأن بنسبة كبيرة منه (في معظمه) شأن سياسي، أنعكس ذلك في تدخل رؤساء دول شخصياً، والإدلاء بتصريحات ملتهبة، واستباق نتائج التحقيق، واختلاق روايات وأحداث وهو أمر لا يليق بمكانة الدول وقادتها، بل بلغ الأمر حتى درجة أن تعمد وكالات أنباء عالمية محترمة، إلى تزوير صور وأفلام بطرق التزوير المعروفة (فوتوشوب) بل ونشر أنباء عن تسجيلات جرى تداولها حتى على مستوى رؤساء الدول، وزعامات دولية تستبق التحقيق وتقترح وتقرر وهي لا علاقة رسمية لها بالحادث. والهدف واضح هو إلقاء الوقود على الساحة لتحويلها لمشهد سياسي، قد يكون فيه المرحوم الخاشقجي، غير مهم البتة.
وحوادث القتل داخل السفارات ليست كثيرة، ولكنها حدثت على أية حال في ظروف مختلفة، أشهرها مقتل القنصل العراقي العام في بومباي الهندية، على يد مواطن عراقي آخر. وحوادث اغتيال دبلوماسيين كثيرة جداً في التاريخ القديم والحديث. بدوافع سياسية أو جنائية، وبعيداً عن الشانتاج (الأبتزاز السياسي)، فالأمر بصرف النظر عن الأسماء، والزمان والمكان، حادثة بوسع القانون التعامل معها، إذا أريد للقضية أن تحل بسلاسة، ولكن في واقعة الخاشقجي، يبدو واضحاً أن هناك مصالح تريد أن تتخذ منها ذريعة لمآرب أخرى، ومدخلاً لمواقف وتطورات.
في التاريخ السياسي القديم والوسيط والحديث، الحوادث التي تدور عن تصفية الدول لخصومها السياسيين الهاربين إلى الخارج بوسائل متعددة قد حدثت بحالات كثيرة جداً، وقد مارستها جميع الدول، وخاصة الدول الكبرى في كافة أرجاء العالم. وأغلب تلك الحوادث قامت بها بعثات دبلوماسية، بالأحرى موظفون يحملون صفة دبلوماسية. ومن المعروف تماماً، أن سفارات الدول العظمى وغير العظمى، تضم في عداد كوادرها، موظفين أمن واستخبارات، وليس نادراً أن يمارس هؤلاء أنشطة ممنوعة تدخل في إطار المخالفة الصريحة لقوانين الدول المضيفة، منها الحصول على المعلومات بطرق غير شرعية (التجسس) وتهريب السلاح، وغيره من المواد (تحف، آثار، مخدرات)، وصولاً إلى تهريب الأفراد من دولة إلى دولة أخرى، لأسباب سياسية وغير سياسية، ونشاطات مالية محظورة(تهريب عملة)، أو اعتقال (أو اختطاف) معارضين أو مطلوبين أمام المحاكم الوطنية بتهم مختلفة، وشحنهم للبلاد بأساليب تنطوي على التحايل على القانون، التجاء شخصيات سياسية إلى سفارات، وبالطبع تجري هذه الأحداث بدرجات متفاوتة من الدقة، وهي في النتيجة أنشطة غير مشرفة على أية حال.
ولكن مثل هذه الأحداث التي تحدث كثيراً، الفارق بينها هو أن بعض الدول لديها عناصر مدربة تدريباً راقياً، ولديها وسائل قتل عالية الدقة، تمارس عملها " القتل بأناقة " دون أن تحدث ضجيج، ثم أن التغطية السياسية لأعمالها متوفرة، فتضمن عدم محاسبتها. فالولايات المتحدة مثلاً لا تقبل محاسبة مواطنيها مهما ارتكبوا من جرائم، وخاصة رجال المخابرات وأفراد القوات المسلحة. وسيطرتها على وسائل الإعلام يخفف الضجيج الإعلامي، فتمر الجرائم بهدوء مر السحاب أو النسائم . ونستطيع أن نعدد فوراً ودون اللجوء للمصادر عشرات الجرائم الأنيقة، التي قامت بها أجهزة مخابرات الدول العظمى، ولم تنل إلا شكوى وأنين صامت. بل وأحياناً يتكون تلك الاغتيالات والخطف مبعث فخر واعتزاز لأجهزة مخابراتها، فتخرج أفلام سينمائية عنها (أفلام جيمس بوند ورامبو وغيرها الكثير).
وبجهد بسيط جداً توصلنا إلى إحصائيات تشير إلى مقتل أعداد الصحفيين فيما يطلق عليها "مهنة المتاعب" :
ــ عام 20015 قتل نحو 110 صحفي في مختلف أرجاء العالم.
ــ عام 2016 قتل نحو 74 صحفي في مختلف أرجاء العالم.
ــ عام 2017 قتل نحو 81 صحفي في مختلف أرجاء العالم.
ــ خلال النصف الأول من عام 2018 قتل نحو 81 صحفي في مختلف أرجاء العالم.
ــ بلغ عدد السجناء الصحفيين والعاملين في الصحافة المئات.
لا أريد القول بهذا أن مصرع الصحفي جمال الخاشقجي، هو حدث اعتيادي، فليمر كحادث سير بسيط، ولكن أيضاً من غير المعقول، أن يجري التعامل معه كشأن سياسي الهدف منه وضع السعودية أو تركيا في موضع الاتهام، وتصفية حسابات معها، في شأن، القانون والقائمين به هم الطرف الأول والأخير فيه. ولكن أبداء الأسف المتزايد حيال جرائم يومية مروعة والسكوت عنها، يبدو كضرب من النفاق. فالحادثة جرت على أرض سعودية، والمواطن سعودي، والجهات القانونية السعودية هي الوحيدة التي تملك الحق بالنظر في القضية، وإذا تنازلت السعودية وقبلت المشاركة التركية، فهذا دليل تعاون وليس تشنج.
الجهات التي تندب بعد مرور أكثر من عشرة أيام على الواقعة، تنوح على الإنسانية وحقوق الإنسان، لم تتفوه بكلمة واحدة على ملايين ..نعم ملايين الجرائم التي تحدث في العراق وسوريا وفلسطين وغيرها..وقد دمر بلد كامل بتهمة مزيفة للأسلحة الكيمياوية، فيما يضرب الشعب السوري بالأسلحة الكيمياوية جهاراً نهاراً دون فعل يوقف الجاني الذي كررها أكثر من مرة. ونحن نعلم أن أحداثاً كبيرة جرت قامت بها دول كبرى لا علاقة لها بالقانون والقوانين، ويحق القول هنا المثل المشهور " قتل أمرئ في غابة جريمة لا تغتفر، وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر ".
وعلى ذكر الأسلحة الكيمياوية، كان المرحوم الخاشقجي على صلة وثيقة بالبرادعي سيئ الصيت، والخاشقجي في حالات متعددة كان يكثر اللعب بالقرب من خط الجزاء ..! ربما كان قد تلقى تدريباً ليلعب بمهارة، وهكذا فقد لعب في أفغانستان وغيرها، واشتغل بالأجهزة الحساسة، وربما أشتغل كعميل مزدوج، ولعب ألعاب خطرة، مسيئة للأمن القومي لبلاده التي رعته وعمل لها، ولم يصن أسرارها، بل وضع نفسه في خدمة من يدفع أكثر، وهو له في قريبة عدنان الخاشقجي أسوة، فالرجل كون ثروة خيالية من أعمال سوداء غير مشرفة، في تجارة السلاح السرية لقوى وجهات غير نظامية، وصفقات سرية كإيران كونترا، تديرها المخابرات الدولية، جمع منها ثروة طائلة دفع منها لمطلقته نحو ستمائة مليون دولار فقط، ...ففي هذا العالم السري لا أحد يسأل من أين يسيل المال، فهنا يعتبر من الهواة، أعمل لأجل المال فقط، هذا هو مبدأ من لا مبدأ لهم ...نعم البكاء على المصائب جميل، ولكن جني الأموال أجمل وأمتع. فلم نسمع أن عدنان الخاشقجي أو أبن عمه جمال قد تبرع بمئة دولار لمساكين تحت القصف أو تحت الاحتلال.
أكرر، عدم قبولنا قتل أي إنسان هو مبدأ، ولكن لتكن ردود أفعالنا خالية من الغضب، ومن التشفي، أو الكيد، والكيل بمكيالين وسواها من الألعاب الغير نظيفة.
( الصورة: الخاشقجي في صورة تذكارية له مع البرادعي في موقف لا علاقة له بالشرف)
1095 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع