فارس الجواري
كفاءة العقـل العراقي في مجال الطيران !
لقد كانت الكفاءة العراقية الحقيقية ! ومازالت تدنوا من اللحاق بركب الأمم المتقدمة بالعلم والتكنولوجيـــــــا , رغم الظروف الصعبة التي عاشتها وتعيشها هذه النخبة من ابناء مجتمعنا المميز بالإبداع في مجالات البحث العلمي والتطويري لمختلف مجالات الحياة الخدمية والاقتصادية عامة وقطاع الطيران خاصة سعيا من هذه الشريحة النهوض بالعراق من كبوته التي المت به نتيجة الظروف الصعبة التي مر بها طوال عهود ليست بالقليلة من الزمن كان أبرزها الحصار الاقتصادي والعلمي الذي مر به العراق طوال أكثـــــر من عشر سنوات والحروب التي شنت ضده نتيجة اخطاء شخصية لقادته .
في هذه المقالة ساسرد لكم تجربة نجاح فيها من الإصرار والتحدي للعقــــل العراقي الشيء الكثير والمهم للاستمرار في مسيرة التقدم العلمي وبنــــاء الوطن , حيث كانت مصدر فخر للعراقين في حينها واعتبرها الان دافع قوي لنا حاليا لبزوغ ابداعات تسعى لبناء سلسلة من المشاريـــع التطويرية الناجحة في كل مجــــالات العلوم التي نحن بأمس الحاجة لها.
هذه التجربة التي عايشتها شخصيا اثناء عملي كمهندس طيران في تسعينيات القرن الماضي في وقت كانت تاثيرات الحصار هذه تشمل كل مرافق الحياة الاقتصادية والخدمية في العراق وكان لقطاع الطيران العراقي حصة ليست بالقليلة عليها, حيث اصاب الشلل شبه الكامل لقطاع الطيران المدني واقل منه لقطاع الطيران العسكري , لان وكما معلوم ان الطائرة تلك الآلة الحساسة تحتاج إلى تواصل مستمر مع الشركات المصنعة لها لترفدنا بأخر التحسينات والتطويرات التي قد تحصل في عالم الطيران, وهذا ما منعنا عنه بتلك الفترة.
كما معروف للعاملين بمجال الطيران أن عمل الطائرة محدد بوقت لايجوز بكل الأحوال تجاوزها تنفيذا لتعليمات السلامة الجوية التي تصدرها المنظمات العالمية المتخصصة بهذا المجال, وتسمى بكتب الصيانة للطائرات ب(العمر التقويمي) وهي الفترة الزمنية التي تقاس بعدد من السنين لا تتجاوز الخمسة عشر سنة أو (العمر الزمني) وهي ساعات التشغيل للطائرات التي تبدأ بخروج الطائرة من المصنع وبداية الطيران لها ولحد عدد ساعات تتحدها الشركة المصنعة, ولا تقل عن 1500 ساعة طيران,حفاظا على سلامتها وسلامة الطاقم الذي يقودها.
خـلال فترة الحصار هذه كانت معظم طائراتنا قد تجاوزت الأعمار المحددة لها (التقويمي والزمني) وأصبحت خارج خدمة الطيران حسب ماتنص عليـه قوانين الشركات المصنعة لها , وفي هذه الحالة يتحتم علينا إرسالها للشركة لغرض أجراء الفحوصات المختبرية والعملية عليها وإجراء عملية صيانة دقيقة وعميقة تبدأ بتبديل بعض الأجزاء المنتهية أعمارها والعاطلة وتبديل التسليك الكهربائي للطائرة والذي يقدر بعدة مئات من الأمتار, والفحص الدقيق للمحرك وناقلات الحركة ومحاوره وغيرها من التفاصيل المعروفة للعاملين بمجال الطيران, وتنتهي بإعادة صبغ الطائرة وغيرها من الكماليات, وإعطائها عمر جديد وصلاحية جديدة لتبدأ عملها وكأنها أنتجت حديثا .
وكان هذا العمـل يجب ان يحصل في الشركات العالمية المصنعة لتلك الطائرات كما هي العادة في كل دول العالم المالكة للطائرات , ولكن في العراق خلال تلك الفترة كان مستحيلا بسبب ظروف الحصار المفروض على العراق , مما جعلنا كمهندسين وفنيين أن نبادر بأجراء عملية الصيانة العميقة المعروفة عندنا بأسم (التصليح العام) لهذه الطائرات بقدراتنا الشخصية وخبراتنا الهندسية بهـــذا المجال والتي حصلنا عليها خلال سنوات العمل الطويلة على الطائرات وبعض المعلومــات المتوفرة في كتب الصيانة التي جهزنا بها مع الطائرات.
حيث تم في حينها وضع خطة علمية مدروسة لإجراء أعمال التصليح العميق للطائرات المتوقفة عن العمل وتصليــح أجزائها العاطلة وتمديد أعمار أجزائها الصالحة والمنتهية العمر لعدد أضافي من سنوات العمـــل والطيران وذلك بإنشاء منصات تصليح وفحص لها (فواحص) وبأيدي عراقية وكلف رخيصة توازي بكفاءتها ما موجود في الشركـات المصنعة لهذه الطائــرات , وكانت النتيجة التي حصلنا عليها خلال فحوصات الطيران التي أجريت للطائرات فوق المتوقع والمخطط له, وبدا ذلك واضحا من خلال زيادة صلاحية عدد الطائرات المتوقفة عن الخدمـة إلى 80% من عددها الكلي .... حتى أن أحدى هذه الطائرات كانت تطير وتنفذ واجباتها بدقة وعمرها تجاوز الثلاثون عام ( أي بخمسة عشر سنة أضافية فوق عمرها المقرر لها من الشركة المصنعة) .
هذه التجربة فتحت أمامنا أفاق جديدة للعمل, حيث قمنا في حينها بجمع الطائرات المحطمة خلال الحــروب القديمة التي مر بها بلدنا لكي نبدأ بعملية أصلاحها وذلك من خلال جمع الأجزاء الصالحة لهذه الطائرات المحطمة وإجراء الفحوصات اللازمة على منصات الفحص التي صنعت من قبلنا وبالبدء بتجميع طائرة مروحية كاملة من هذه الأجزاء المصلحة محليا.
وبالفعل نجحنـا بطيران هذه الطائرة المروحية التي تم تجميع أجزائها من عدة طائرات محطمة وخارجة عن الخدمة ... ودخلت الخدمة وعملت قرابة السنتين ,وكانت نتيجة غيـر متوقعة للشركة المصنعة لتلك الأنواع من الطائرات , حيث أن في أواخر عام 2002 عندما كنا ننشر نتائجنا على شبكات الانترنت , طلبت منا الشركات المصنعة لهذه الانواع من الطائرات الوثائق الفنية الخاصة بهذه الطائرة وخطة العمل للتصليح الذي أجري عليها من قبلنا , وظلوا يتابعوا معنا طيران هذه الطائرة باهتمام .
علمنــا بعد حين أن هذه الشركـة اعتمدت النتائج الناجحة التي حصلنا عليها من خلال تجاربنا وقامت بزيـادة عدد سنوات الضمــان التي تمنحها الشركة لنفس النوع من الطائرات الحديثة المصنعة حديثا لديهم وبدون أي تعديــل على المواصفـات الفنيــة لها وبالتالي زيادة أسعارها وبنسب عالية جدا كل ذلك اعتمادا على التجربة العراقية.
هذا هو العقل العراقي الذي تفوق بقدراته العلمية التي حصل عليها نتيجة المثابرة والتطلع على كثير من أقرانه ممن توفرت لهم فرص الإبداع وبظــروف أحسن من التي مر كما ان هناك المئات من الإعمال الإبداعية التي برزت بتلك الفترة في المجالات العلمية الأخرى , حيث كنا نسابق الزمن لمواكبة التطـور الحاصل في العـالم واستمرار عجلة الحياة لدينا.
اليست هذه التجربة وغيرها بالمئات هي دافع قوي لنا حاليا لبزوغ ابداعات تسعى خلالها النهوض بقطاع الطيران العراقي لأعادته الى ريادته حاضرا ومستقبلا ,ليساهم في تدعيم الاقتصاد الوطني وتحقيق قفزات نوعية تساعد على اختصار الزمن في تطوير العراق ككل باعتبار ان قطاع الطيران والنقل الجوي ركيزة اساسية لاقتصاديات الدول التي تسعى لتحقيق تنمية رصينة وناجحة.
فارس الجواري
11/10/2018
1216 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع