د.ضرغام الدباغ
ظواهر سياسية
أولاً : التكتلات والانشقاقات في الحركات الثورية
كنت قد كتبت في أوقات متفرقة، تقارير عن موضوعات سياسية اعتبرتها هامة، كما تضمنت جانباً من أعمالي المؤلفة نصوصاً، أو هوامشاً وملاحظات على أعمال قمت بترجمتها. ومن تلك أعمال تتناول ظواهر سياسية مهمة، وذات تأثير مباشر على وعي الجماهير، إلا أنها للأسف ما زالت تختلط بدرجة مؤثرة في خلق الوعي النهائي للجماهير، ومن تلك مثلاً عدم الاتفاق بصفة تامة حتى يومنا عن جوهر أحداث مصيرية مر بها وطننا العراقي أو أمتنا العربية، وما زال الطابع العاطفي لبعض تلك الأحداث يطغي على كتابات حتى السياسيين، والأحزاب السياسية، ومن تلك مثلاً عدم التشخيص الدقيق لحدث معين بوصفه ثورة أم انقلاب عسكري، وعدم التميز الدقيق بين معاهدة / أتفاق، وتحالف، وبين تحالف سري والمعني العلمي للمؤامرة، والفرق بين جيش وقوات مسلحة، ناهيك عن معرفة الفرق الجوهري بين دولة وحكومة. وما هي نظرية الحكم التي يقوم عليها أي نظام سياسي .
ولابد من التنويه، أن مثل هذه الظواهر تكون نادرة جداً في المجتمعات الأوربية، والأسباب كثيرة في مقدمتها، تقدم طبيعة العمل السياسي إلى مستويات راقية، والوعي العالي وانتشار المعرفة للجماهير التي يصعب غشها وخداعها، والمستوى المتقدم لأجهزة الثقافة والإعلام. وشبه انعدام للأمية والأمية السياسية، يقود إلى تحديد دقيق للمصطلحات السياسية وطريقة التعامل بها.
ونفتتح سلسلة هذه التقارير بموضوعة مهمة هي التكتلات والانشقاقات في الحركات الوطنية و الثورية، وهي تمارس في الساحة السياسية والكثير منها يفشل ويتلاشى بعد عدة سنوات، ولكن دون أن يتساءل الوسط الثقافي / السياسي لماذا فشلت تلك الحركة الثورية التي كانت ترفع شعارات رائعة ..هللت لها الجماهير من فرط توقها للعمل الثوري الصادق وتوجه صادق نحو أهدافها. وضرورة أن تدرك القواعد وجماهير الحزب والجماهير الشعبية العوامل الحقيقية وراء التكتل (الفلاني) الذي يدور في حركة ما وإلى ما يهدف حقيقة.
من المتوقع جداً، أن تعمد الدوائر المعادية لبلادنا وأمتنا (وليس من الصعب معرفتها)، أن تتصدى للحزب أو للحركة (س) وتبذل جهداً كبيراً في التآمر والتكتل ومحاولات أنشقااق ....وقد تفشل محاولة، فيقوم بأخرى، ويزج بالاحتياطي الأخير ويضطر إلى كشف عناصر بذل جهداً في كسبها وغطى عليها لسنوات ....! والجهة المشغلة للتكتل لا ترعى ذمة ولا شرف للمشاركين في التكتل، المشغل هو ضابط مخابرات لا وجدان ولا ضمير لهل، فما يهما هو أهدافها ليس إلا.
من المؤكد أن الأسباب ذاتية وموضوعية.. نعم، ولكن أين يكمن الذاتي وأين يقع الموضوعي منها. وبتقديري أن هذه أسئلة مهمة جداً، وقد يتوقف على فهما الدقيق تقيمنا النهائي الصائب الموضوعي لتلك الظاهرة السياسية أو مرحلة برمتها. فمن حق الشعب العراقي أن يعرف بعد مرور قرن على الاستقلال معرفة دقائق وجوهر التحولات المفصلية في تاريخه المعاصر، وما حدث خلال هذا المسيرة. معظم التحولات كانت نتائج لانقلابات عسكرية وخلافات سياسية جوى التعامل معها خطأ، وكل هذه جرت وتجري لأننا نفتقر إلى نظام سياسي جامع مانع. مهم جداً أن نعرف الأحداث بدقة .. أنقلاب أم ثورة ؟ مهم جداً أن يتمكن أي مواطن أن يميز بين الدولة والحكومة، وبين الجيش والقوات المسلحة، وبين الميليشيا والقوات النظامية.
ظاهرة التكتلات والانشقاقات في الحركات الثورية، هي ظاهرة ليست الجديدة تاريخياً، كما أنها لا تقتصر على حركة ثورية دون غيرها، في حين أن الحركات والأحزاب اليمينية لا تعرف مثل هذه الظاهرة (تقريباً)، وإن حدثت، فتكون ناعمة رخوة، والانشقاق ليس حاداً ولا حاسماً، ولا ينطوي على تباينات ملموسة بين الأطراف المتكتلة(التكتل والحركة الأم).
وفي تكتلات الحركات اليمينية، (كالاحزاب الاشتراكية الديمقراطية)، فأوج ما يبلغه التكتل، هو تشكل خط يميل لليسار، في المواقف السياسية، ولكنه لا يطرح خطاً متميز نظرياً، ومثل هذه التجارب جرت في الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في النمسا، وألمانيا، وفرنسا، وخاصة في أسبانيا.
الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية كانت في مطلع القرن العشرين، أي بعد الانشقاق عن الحركات الاشتراكية العمالية، كانت تميل لليسار منها لليمين، وتفتح مؤتمراتها بنشيد الأممية، وتضع صورة كارل ماركس في صدر قاعاتها ومؤتمراتها، ولكن الدول الرأسمالية تمكنت من تدجين هذه الحركات، وأصبحت جزءأ من النظام الرأسمالي وأندغمت في أجهزته السياسية والحكومية، فأصبح يصعب تميزها عن الأحزاب اليمنية إلا بتشديد الرؤية والتمتع بحس ومعرفة عميقة. وإلا مالفرق بين حزب العمال البريطاني و حزب المحافظين، أو بين الحزب الاشتراكي الفرنسي والحزب الديغولي ..!
المنطق العلمي يقودنا في التحليل، في البحث عن جوهر الأمور، وهنا لا نجد سبباً جوهرياً للتكتل والانشقاق إلا إذا كان هناك تناقضا جوهريا مهما، بحيث تصبح الأداة السياسية (الحزب) عديمة الفائدة، أو ينبغي إدخال تعديل حاسم على منهج الحزب وسياقات عمله. والانشقاق (الذي يسبقه تكتيكياً تكتل يستغرق العمل في معظمه وراء الكواليس، وأحياناً كواليس سميكة) والتناقض بتقديرنا هو ذا أتجاهين على الأرجح لا ثالث لهما :
1. خلاف نظري (آيديولوجي) عميق، بحيث يمس هوية الحزب النظرية بشكل جذري.
2. خلاف سياسي ذو طبيعة حاسمة، الخلاف بصدده ليس عابرا يمكن تجاوزه ضمن أطر العمل الحزبي التقليدي. ويشترط في كلتا الحالتين (1 +2) أن الخلاف في الحزب قد أتخذ أبعاده الأفقية والعمودية، بمعنى أنه شق يمتد من القيادات وحتى القواعد.
وهذان الصنفان من التكتلات والانشقاقات حدثا في تاريخ الحركات الوطنية والقومية والتقدمية في الوطن العربي، ولكن وبسبب مستوى الثقافة العامة الجماهيرية والحزبية، فإن الخلاف النظري والسياسي ليس بالضرورة أن يكون واضحاً وجلياً لا ألتباس فيه ولا أشتباه. فكثيراً ما ينطلي على الجماهير العامة، أو القواعد الحزبية المنظمة شعارات براقة مطلوبة من الجماهير العامة والحزبية، جرى تخريجها بصورة فنية يتفاوت إحكامها. فمثلاً تحت شعار وطني / قومي مقدس للجماهير، يطرح بطريقة قد لا تخلو من الذكاء، ولكن بالتأكيد مع الكثير من الخبث واللمسة الاستخبارية. فقد حدثت تكتلات حزبية أو أنشقاقات كان مسقط رأسها في محطات المخابرات المعادية ..! وتبدو بوضوح من خلال نشاط التكتل وأساليب عمله بصمة العمل المخابراتي
ومن الاحتمالات التي يمكن أن تقع، قيام جهات أجنبية (قوى خارجية، أجهزة أستخبارية) بالتخطيط (بدقة متفاوتة) تنظيم تكتل على أن يفضي في تطور لاحق إلى انشقاق، والهدف بالطبع هو وحيد أن تدمير تلك الحركة أو الحزب الثوري، تدميراً شاملاً أو جزئياً بإضعافه لدرجة يفقد فيها طاقته الرئيسية.
وبالطبع فإن تلك الجهة الاستخبارية المعادية، فاتها أن تفقه (وتلك واحدة من أخطاءها) أن الحزب الثوري ليس عبارة عن تجمع أشخاص تصادفي في ظرف تاريخي عشوائي، بل أن الحزب الثوري هو استجابة تاريخية لضرورة وطنية أو قومية، وهذه الاستجابة لها هدفها المادي بوحدة الوطن، وتعبئة الجماهير لتحقيق أهداف الشعب التاريخية والتي تعد من ثوابته المادية الأكيدة، التي لا تراجع عنها، بإجماع الشعب، وقواه الطليعية. ولذلك فإن الحزب الثوري التاريخي لم يكن من فعل وإرادة أشخاص معدودين، بل هو فعل جماهيري تاريخي، لذلك ليس بمقدور أية قوة مادية أن تقضي عليه، ولكن من الممكن أن تخسره من أعضاء من القيادات والقواعد، وتراجع أداء الحزب بدرجة معينة، ولكن سرعان ما سيستعيد الحزب قوته أضعافاً مضاعفة. فالجماهير آنذاك تكون قد لمست لمس اليد أن تلك القوى الجبارة لم تستطع أن تقضي على الحزب، بل هي لم تستطع أن تطوي لافتاته بين الجماهير وإنها لم تستهدف الحزب الثوري إلا لأهميته التاريخية ودوره في تعزيز المكتسبات الوطنية.
وبالطبع يمكن للحزب الثوري أن يكتشف بسهولة تامة، أن التكتل أو محاولة الانشقاق مخططة بتوجيه مباشر من قوى أستخبارية نظامية، وضباط أمن محترفون، فالحزب الثوري يمتلك بالتأكيد عناصر خبيرة بمكافحة النشاط المعادي بل وربما يمتلك مؤسسات وأجهزة متخصصة بإدارة خبراء وطنيون قادرون على كشف الأنشطة المعادية بدرجة احتمال الخطأ تقرب من الصفر. والمشكلة هنا، يمكن أن تكشف العناصر الوطنية خطط المتكتلين، والخطأ في معالجة التكتل قد يكمن في أن قيادة الحزب تتردد في اتخاذ الموقف الصحيح لأي سبب من الأسباب.
ورغم ذلك، فمن المحتمل بنتيجة ظروف وعوامل داخلية أو خارجية، أن ينجح التكتل المعادي المرتبط بجهة أجنبية، ينجح في إحداث خروق قد تكون بسيطة في الهياكل القيادية، إلا أنها قد تتسع في الكوادر الوسطية، والخرق يكون أكبر في القواعد الدنيا من التنظيم الحزبي.، وقد يتراصف أنتهازياً كم من العناصر الحزبية التي تجد في التكتل أو المحاولة الانشقاقية فرصة لتسوية حسابات لا مبدأيه، فتتخذ موقفاً ينطوي على طابع من المساومة.
برغم اللمسة الاستخبارية الاحترافية للتكتل، إلا أن التكتل فاسد بطبيعته من أساسه، فطبيعة الأسماء المتورطة في التكتل، وتاريخها السياسي والنضالي، ودرجة احترامها من القواعد الحزبية. وأحياناً تلهم الخيانة وتدفع مرتكبيها إلى أخطاء فادحة، تنبأ بدرجة لا تقبل الالتباس بمرجعيتهم الخيانية. فتنتاب عناصر التكتل الأرتباك والعصبية فيسرعون في خطوات تستحق التأني، فيقعون في مزيد من الأخطاء التي ستعري خطهم الانتهازي المشبوه، وسيسقط التكتل والانشقاق على أيدي القواعد الحزبية وليس بفعل قرارات قيادية حصراً لتداعياته.
• كل تكتل ليس له طابع أيدولوجي ... يشير إلى انتهازية .
• كل تكتل ليس له ضرورة سياسية ... يشير إلى مشبوهية العمل.
• في العمل الثوري ليس هناك أسماء مهمة، كل منحرف سيسقط خارج الخط الوطني.
المتكتلون والساعون للانشقاق يهدفون إلى إبعاد الحزب عن طريق النضال، وتقليص دوره. ولكن الحزب الثوري التاريخي يمتلك وسائل الديمومة والتواصل، لسبب جوهري، أنه يطرح حلولاً ثورية لأزمات سياسية واقتصادية مستعصية. وبصرف النظر عن ملاحظات إعلامية تمارس التضليل والتحريض، ووضع الأخطاء تحت عدسة مكبرة، إلا أن المنجزات التاريخية على الأرض لا يمكن تجاهلها في تاريخ النضال الوطني والقومي، في حين لا يقدم الآخرون سوى ترجمة لخطوات التراجع عن الخط الوطني، وعاجزون عن تقديم منجزات مهما كانت صغيرة، ستبقى المنجزات التاريخية مرتبطة في وعي الجماهير بحركة صعود كبيرة، قد تنطوي على بعض الأخطاء التفصيلية غير التاريخية.
المتكتلون والمنحرفون يعرفون أنفسهم ... ويعرفون مصيرهم ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملحوظة : البحث علمي صرف لا علاقة له بحدث معين
2191 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع