العلة الثانية ودور الفلسفات

                                           

                       القس لوسيان جميل

العلة الثانية ودور الفلسفات

الفلسفة اليونانية ادلت بدلوها: نعم الفلسفة اليونانية ادلت بدلوها في مسألة المعرفة، لا بل ان المعرفة كانت من اولوياتها. وعموما يمكننا ان نقول عن فلسفة ارسطو انها فلسفة بدأت فكرها كنقيض لفلسفة افلاطون المثالية. فأفلاطون كان يرى ان حقيقة الأشياء وماهيتها ( اي الفكرة التي تمثل الأشياء ) موجودة في العالم العلوي، في حين يكون ما موجود على الأرض مجرد خيال للحقيقة. هذا وقد شبه افلاطون الحقيقة او الفكرة او الماهية برجال جالسين في كهف مظلم ظهرهم على باب الكهف ووجههم نحو داخل الكهف او صدر الكهف. 

ولذلك عندما كان يمر حيوان ما او انسان من امام باب الكهف، كان الجالسون ففي الكهف لا يرون ذلك الحيوان او ذلك الانسان نفسه بل كانوا يرون خياله او ظله فقط. ولكن، وعلى الرغم من إن تلك الفلسفة الأفلاطونية كانت فلسفة غيبية وخيالية وغير واقعية، فان تلك الفلسفة، ولأسباب لسنا بصددها، كانت قد انتشرت بعد موت افلاطون،في اوساط عديدة ولاسيما في الأوساط المسيحية وبين اللاهوتيين، على يد الأفلاطونية الجديدة، خاصة. واعتقد انها كانت قد انتشرت بين بعض الأوساط اليهودية المتأثرين بالحضارة اليونانية.
غير ان ارسطو قام ليفند هذه الفلسفة غير الواقعية، وقال ان حقيقة الأشياء، او ماهيتها لا توجد في اي عالم علوي وإنما توجد في الأشياء نفسها، بحيث يكون على من يطلب هذه الماهية ان يفتش عنها بعقله حيث توجد، اي في الأشياء نفسها وفي عالمنا. وهكذا، وعلى هذا الأساس نشأت فلسفة ارسطو في المعرفة، وولدت فلسفة يقولون عنها انها فلسفة واقعية Réaliste.
وتبدأ فلسفة ارسطو في المعرفة بالحواس اولا، حيث يقول ارسطو ما معناه: لا معرفة تأتي الى الانسان الا من خلال الحواس اولا. فمن وظيفة الحواس هي تكوين الصور الحسية عن الأشياء. اما بعد ذلك فيأتي دور العقل، وما يسميه المدرَسيون scolastiques العقل الفعال Intellect agent ويعمل على الصور الحسية مما سماه ارسطو عملية التجريد Abstraction مشبها هذه العملية بتجريد اللحم عن العظم.اما النتيجة فتكون الحصول على الماهية التي هي فكرة غير محسوسة يقال عنها انها صورة ميتافيزيقية ما وراء المحسوس او ما وراء الطبيعة بحسب معنى الطبيعة الارسطي.
هكذا نأنسن العالم: وهكذا، كما يرى القارئ نأنسن نحن البشر عالمنا المادي بشكل طبيعي، من دون اي مجهود اضافي في عملنا، اذ ان هذه الانسنة يقوم بها الانسان تلقائيا، وليس له بديل عن ذلك. وعموما نستطيع ان نشبه ما يحدث عند الانسان، بما يحدث في المقَوِمة الكهربائية Rectifier والتي هي محولة للطاقة الكهربائية، في الوقت عينه، حيث يدخل الكهرباء من طرف بقدرة معينة ويخرج بقدرة اخرى، ويدخل على شكـل كهرباء متذبذب ويخرج كهرباء مستقيم الجريان، كما يقول الكهربائيون.
كما تشبه عملية الانسنة هذه بشرا يلبسون نظارات موحدة ولا يخلعونها ابدا، وهذا المثل هو ادق من الأمثلة الأخرى، وذلك لأن البشر وجدوا وهم يحملون معهم بشكل دائم حواسهم البشرية وطبيعتهم المعرفية الانسانية الخاصة، هذه الحواس والمشاعر الوجدانية التي هي متماثلة عند جميع البشر، وان لم تكن متساوية. انها قضية من قضايا الأنثروبولوجيا حقا.
تأثير عملية الانسنة: غير ان عملية الانسنة هذه لا تشمل فلسفة ارسطو ـ مار توما فقط، وإنما تشمل حياة الانسان الحياتية كلها، حيث نرى شمولية هذه العملية الطبيعية لكل العالم، الذي يتحول من عالم مادي الى عالم انساني، يكون الانسان هو صاحبه الحقيقي، ولهذا يقول الانسان ان هذا العالم هو عالمي وهذا الكون هو كوني، وهذا الاله هو ربي والهي. وهنا ينبع سؤال فلسفي يقول: ترى هل ان العالم يصير بهذا التحول عالما غريبا عن الانسان، ام ان المسألة الانطولوجية تبقى بدون قيمة بعد ظهور الانسان وتبقى مرتبطة به، اذ ما كان يمكن ان تكون الانطولوجيا لولا الأنثروبولوجيا، اي لولا وجود الانسان العاقل المفكر الحر؟
بعض الأسماء:ومع ذلك نذكر اسماء بعض الفلاسفة ممن ظهرت في فلسفتهم سمات التحول من الانطولوجيا الى الأنثروبولوجيا. من هؤلاء نذكر الفيلسوف هيجل حيث يتحول الوجود عنده من وجود مطلق ناقص _ ( يعني لم يتحقق منه شيء في الوجود العلوي )، الى وجود مطلق زائد + حيث يتحول ما كان مجرد فكر الى واقع مادي ملموس.
اما ارسطو فيرى ان كل موجود مادي يحمل صورة واحدة متحققة وفعلية Etre en acte. غير ان هذه الموجودات تحمل كل منها آلاف الصور بالإمكانية Etre en puissance،اي وجود غير متعين وغير متحقق بالفعل En acte. اما لو كان ارسطو يتكلم عن الوجود، فكان سيقول ان الوجود المادي كله يحمل صورة واحدة متحققة، لكنه يحمل ملايين الصور التي تتحول من حالة الصور الكامنة، او الممكنة، الى حالة الظهور الفعلي المتحقق.
هذا مع العلم ان من يتكلم عن الوجود بهذه الطريقة الارسطية عليـه ان يعرف اولا ان تحول الكائنات من الوجود بالقوة، او بالإمكانية En puissance الى الوجود بالفعل En acte يتطلب وقتا كثيرا ومجهودا عظيما، في حين ان تحول الكون من الامكانية الى الفعل والتحقق قد يتطلب مليارات السنوات، لأن هذا التحول هو تحول بطيء جدا، سواء جاء على شكل سيرورة مستمرة، ام جاء على شكل قفزات صغيرة كانت ام كبيرة.اما الفيلسوف فيثاغورس فله فلسفة تقول بفكر متقارب مع خصوصيته الفيثاغورسية المبنية على الرياضيات.
سؤال أخير: يمكننا ان نسأل السؤال الأخير ونقول: اذا كانت هذه هي حقيقة العلة الثانية مع الوجود المادي، اذن كيف نتكلم بشكل ادق عن علاقة العلة الثانية بالعلة الأولى؟ جوابا على هذا السؤال ارى ان نقول بأن العلة الثانية تسير نحو اهدافها تقودها قوانين الكون وقوانين مادته الكثيرة، دون ان تكون للمادة نفسها حرية الاختيار، ولا اية حرية أخرى. علما بأن العلماء يجدون في عالمنا ادق القوانين التي تسير البنى الدقيقة جدا Micro structures، ومنها البنى التي تتعلق بالجينات الوراثية الحياتية و بنى ما يسمى D NA حيث يلعب قانون الاحتمالات لعبته، والذي يؤدي بالتالي الى النتائج المطلوبة في الكون وفـي عالمنا، وخاصة في عالم الأحياء.
اما نتيجة هذا الكلام فمفادها ان الباري نفسه، لا يتلاعب بأية بنية من البنى التي تفترض فلسفتنا انه وضعها في الكون، سواء كانت بنى دقيقة ام بنى كبيرة Micro structures ou macro structures. نقول ذلك بيقين، سواء قلنا ان الباري لا يريد، او لا يستطيع، ان يتلاعب بما وضعه من البدء ككون وعالم لا تسيره خيوط قرقوز او دمىMarionette، لكن يسير عالمنا المدهش الناجح، قوانين كونية التي تشمل عالمنا ايضا: المادي والبشري والاجتماعي بكل تفاصيله. هذا في حين ان البشر في قواعدهم العقلية والوجدانية بقوا ينسبون كل تحرك في عالمنا: الكون الكبير والصغير الى الههم بشكل مباشر، ولا يكون لديهم مانع من ان ينسبوا الى الههم حتى المستحيلات والمتناقضات، على مبدأ وهمي وأسطوري يقول: ان باستطاعة الله عمل اي شيء يريده.
وهنا لا بد ان نذكر او نُذكر بأن حرية الانسان هي عامل مهم وإضافي الى كل ما اتينا الى ذكره. غير اننا علينا ان نفهم ان الحرية نفسها هي وظيفة او قدرة Facultés انسانية لكي يكمل الانسان، بطريقته الخاصة، ما جعلته قوانين الباري غير محدد بشكل كامل، حتى يمكننا ان نعد الانسان مكملا لعمل الباري، في الفسحة المعطاة له.
عالمنا الحقيقي: غير ان هذا العالم الذي وُجد فيه الانسان، خرج من صلب عالمنا، ولم يخرج من اي مكان آخر. وهذا الانسان لم يأت الى العالم كما يصفه العهد القديم، ولا اي عهد آخر، لكنه اتى الى الوجود من" ذريرة " كانت قابلة لأن تنشأ فيها الحياة وتتطور، خلال مليارات السنوات، حتى ينبثق منها الانسان، بعملية تعود الى قوانين الطبيعة التي بدأ العلماء يعرفونها شيئا فشيئا.
وبما ان هذا الانسان هو من صلب مادة الكون الموجودة على ارضنا، ولم يأت من خارج هذا العالم، حاله حال الحياة، فان ما ناله من عالمنا هذا، من ميزات انسانية، ومنها ميزة العقل والحرية، يمكنها ان تؤثر وتساهم مساهمة فعالة في صياغة العالم بما فيه، وتحريك هذا العالم وتغيير صوره Forms تغييرا عظيما، حيث ان التغيير يختلف عن الخلق كثيرا، مع العلم ان مفردة الخلق تعني التحريك، اي تحريك المادة الموجودة سلفا. وذلك بحسب منهجية الآب انطوان مرمرجي الدومنيكي عن ثنائية اللغة، حيث يرى الأب المذكور ان تركيبة اللغات السامية تتكون من حرفين هما عادة الحرف الثاني والثالث، في حين يكون الحرف الأول مضافا الى الحرفين، من اجل اغناء اللغة بكلمات كثيرة مشتقة من المصدر الثنائي، هذا المصدر الذي يمكن تسميته بـ / الجذر ايضا. علما بأنني شخصيا، وبما اني كنت مقتنعا من فكرة الأب مرمرجي المذكور فقد الفت مقالا مطولا يبين اهمية نظرية الأب مرمرجي، والتي من شأنها إن تبين تاريخية لغاتنا الجزرية مثل العربية والسريانية وغيرها. غير انني افضل إن استخدم للتعبير عن الخلق بمعناه الأولي، فعل برا واسم بارويا Baroya السريانية الجزرية ( العربية )، بمعناها القديم،لأن بارويا تعني خلق الله للكون من ذاته أي من العدم. هذا في حين إن الغربيين يستخدمون مصطلح الخلق من العدم Ex nihilo اي من العدم. وهكذا نحفظ مكانه الله خالق الكون من العدم ومكانة العلة الثانية التي تقوم بواجب تغيير صور المادة من صورة الى صورة. ولربما نكون بهذا قد وفقنا ايضا بين الفكر العلماني والفكر المؤمن التقليدي.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

3237 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع