حوار مع الأب نوئيل فرمان

                                          

                      القس لوسيان جميل


الأخ والأب نوئيل فرمان المحترم
بعد التحية...

منذ زمن لم اتصل بك، ولم ارسل لك شيئا. في الحقيقة صحتي ليست جيدة ولاسيما من ناحية السير على قدميّ، حيث لا استطيع ان اسير بشكل اعتيادي على الارض المنبسطة سوى لمسافة قليلة.اما السبب الثاني لعدم الكتابة لك فقد يكون اني يوما كنت قد ارسلت لك مقالا ولم يأتني الجواب منك. ولكن لا اعرف ربما ان المقال لم يكن قد وصلك. في غير ذلك لا زالت صحتي من نواحي اخرى مقبولة. وفي الحقيقة لم اكف عن الكتابة يوما واحدا، مع بعض المبالغة طبعا. وبما اني هنا في دهوك لا اتلقى زيارات كثيرة، فرأيت ان اعود الى عادتي القديمة والجأ الى الحاسوب معتبرا اياه خير جليس. ولذلك اخالك لا تتعجب اذا ما قلت لك انني انتهيت وأنا هنا في دهوك من تأليف كتابين مهمين جدا في موضوع الانسان،عنونت الكتاب الأول: كيف نتكلم عن الانسان اليوم، وعنونت الكتاب الثاني: قواعد انثروبولوجية لظهور الروح وحركته وارتقائه. هذا بعد ان كان الاخوة في عينكاوة قد طبعوا لي كتابا كبيرا تحت عنوان: كيف نتكلم عن الله اليوم. وقبله كانوا قد طبعوا لي كتابا منهجيا ايضا، بعنوان وجه الله منهجية انثروبولوجية خارج الأسوار.اما كتابي الآخر عن القداس فكان على وشك الطباعة عند هيئة الأوقاف المسيحية،ولكن فجأة توقف النشر عندهم على ما يبدو، ولا اعرف لماذا تماما. اما في الوقت الحاضر فقد بدأت بكتاب جديد وأسلوب جديد في الكتابة سميت هذا الكتاب اوراق فكرية ولاهوتية منثورة. هذا الكتاب لن يحتوي على مقالات كالكتابين السابقين، ولن يكون قاموسا فلسفيا، ولكنه سوف يكون كتابا يساعد القراء على التعرف على مصطلحات وأفكار فلسفية ولاهوتية، بشكل مختصر لا يتجاوز الموضوع الواحد الصفحتين.
وهكذا وكما ترى يمكن ان اسمي نفسي خبيرا بالإنسان وبالهه، حيث اني احاول ان اسحب الانسان واله الانسان من يد السلفية التقليدية الضحلة وأعيدهما الى اصلهما الأول: الى مجال الانسان الأنثروبولوجي الذي لا يمكن ان يتجاوزه احد الا ويقع في فخ الضلال.
وهنا ربما قد تسأل وتقول: يا ترى! هل ان المؤسسة الكنسية قد سقطت في فخ الضلال الايماني: وأجيب في الحال وأقول: نعم هذه هي الحقيقة ومنذ زمن بعيد، من ايام كانت المسيحية قد صارت ثيوقراطية ( دين ودولة )، اي منذ زمن قسطنطين الملك وإمبراطوريته التي كانت قد فسدت سريعا،وضعف الايمان المسيحي فيها مع ضعف الامبراطورية الثيوقراطية المسيحية. علما بأن الايمان، وبصفته مشاعر، ما ان يحاول انسان ان يعبر عنه من خلال لغة بشرية الا وتكون النتيجة اضعف من الحقيقة. وأحيانا تكون النتيجة في حاشية الحقيقة. الأمر الذي حصل للكنيسة، ولكثير من المذاهب الأخرى والأديان. انها مسألة انثروبولوجية انسانية.
فكرة اخرى: اما الآن فأتحول معك الى فكرة اخرى،ربما ليست بعيدة جدا عن اهتماماتي القديمة والحديثة. واليك هذه الفكرة: فقبل مدة كنتَ قد كتبتَ لصديقيك فلان وفلان كلمة حوارية كانت قد ضمت حضرتك والصديقين المذكورين. وكانت مداخلتك على الوجه التالي بقولك:الأب لوسيان يشق طريقا خاصا به،يتعلق بتقديم فكر عروبي مسيحي،في حين ان الاختلاف العام معه يرتبط بأن الفكر المسيحي في العراق هو اقدم من ان يتصف ليتسم بالعروبية، فهو فكر نهريني أرامي لسكان ما بين النهرين الذين مع الوقت تشرذموا قوميا. ( هكذا )
جوابي: كان يقال عن الامبراطورية الجرمانية القديمة، في كتب التاريخ، انها امبراطورية جرمانية مقدسة. غير ان احدهم، ربما كان استاذ التاريخ نفسه، كان قد علق على تلك العبارة بقوله:ان تلك الامبراطورية لم تكن لا امبراطورية ولا جرمانية ولا مقدسة. اما من جانبي فأقول لك ان القس لوسيان جميل يقدم فكرا فعلا، لكنه ليس فكرا عروبيا ولا فكرا لاتينيا ولا فكرا آشوريا او كلدانيا او نهرينيا،في اية قضية من القضايا التي سبق وتكلم عنها. كما انه لا يشق طريقه في هذا الاتجاه. اما لاهوته، فليس عربيا ولا لاتينيا ولا مشرقيا ولا مغربيا،وكذلك فلسفاته. كما انه لا يعرف حقا معنى ما سميته الفكر النهريني الذي تختلف حضرتك وحضرة اهل النهرين الأفذاذ معه. ففي الحقيقة اني كنت قد اضطررت للكلام عن هذه المادة المذكورة، بعد الاحتلال، بسبب ما كنت ولا زلت اشاهده عند سياسيي الغفل من المسيحيين،وغير المسيحيين ايضا، من تضليل ومن اكاذيب ومن فبركات كلامية مسخرة لخدمة سياسة عدوانية، بعيدا عن اية حقيقة موضوعية ثابتة.
اما كلامك عن النهرينية والفكر النهريني، فلم افهم منه شيئا كثيرا، لأنك كنت بكلامك ذاك قد ظهرت وكأنك ناقل فكر اقنع بعض عواطفك. ولذلك كنت قد جعلت من الوقائع المندثرة وكأنها تاريخ باق ومضموم ينتظر العراقيين ليعطوه قبلة الغرام ويفيقونه من سباته، بحسب اسطورة الأميرة المسحورة النائمة والأمير الذي ايقضها بقبلته. فيا عيني على الفكر الآشوري وعلى الفكر الكلداني وعلى الفكر النهريني الذي نعرف جيدا اباه الجديد الحقيقي... اما إذا كنت حضرتك لا تعرف اباه الحقيقي فاسأل عنه ( المخابرات الفلانية ! )، او اسأل عنه محرك كوكل للبحث فقد يعطيك الخبر اليقين.
ولذلك يحق لي ان أتساءل وأقول: يا ترى هل بهذا الفكر اللقيط تختلفون مع القس لوسيان، انت والنهرينيين الآخرين؟ وهل حقا ان النهرينيين تشرذموا قوميا ام انهم تشرذموا مسيحيا، وهل حقا ما كان يملكه مسيحيو المشرق نهريني ارامي،ام كان فكرا مسيحيا يعود ايمانيا وحضاريا واجتماعيا الى جرن العماذ، كما يعود قسم لا باس به الى العهد القديم، بحسب قوانين الجدل التي تحتفظ ببعض الايجابيات وحتى ببعض الرواسب، بعد ان تتم ازاحة اي فكر من قبل الفكر الجديد. علما بأن هذا الفكر يبقى فكرا خاصا بالعهد الجديد جوهريا، وبقسم من العهد القديم جانبيا Latéralement، حتى وان كان هذا الفكر قد جاء محمولا على حضارة ولغة ارامية سريانية، كانت قد صارت دارجة في بقاع اراضينا،على خلفية انسحاب اللغة اليونانية، التي بها كانت غالبية كتبنا المقدسة قد كتبت، ومن امتزاج حضارتنا بالحضارة اليونانية قد صيغت وتبلورت. اما مشكلة هذه الحضارة، ولا اقول مشكلة الآشورية والكلدانية والآرامية فتكمن في انها حضارة" سادت ثم بادت"، ولا علاج لها بعد الآن. ولن يوجد لها امير يوقضها. فمن يزعمون انهم يستطيعون ان يحيوا الحضارات المذكورة، ومنها حضارة ما بين النهرين، بتسميتها العامة، ليسوا امراء كأمير الاسطورة المذكورة، ولا هم سادة اية حضارة ولا هم زعماء حقيقيين، لأنهم في حقيقتهم ليسوا اكثر من سحسولة ( قطعة خيش _ كونية ) كانت توضع خلف الجرجر لكي تساوي قش الغلة التي يدرسها الجرجر. او يمكن ان نشبه هؤلاء السياسيين بعربة تربط وراء التراكتور او وراء سيارة كبيرة يجرها التراكتور او تجرها السيارة لأنها ليست لها حركة ذاتية. هذا اذا لن نشبه الجماعة بالعبيد مع سادتهم، او بمرتزقة مأجورين، او بأناس مخدرين بمخدر الحقد والتعصب. وأرجو ان لا يزعلوا من الحقيقة.
اما عن التشرذم، فليست له قصة واحدة وانما له قصص مختلفة. ومنها قصة الجماعة المسيحية التي هربت من اطراف ايران، من اضطهاد تيمورلنك للمسيحيين الذي كان قد خلف هولاكو وعمل ببغداد تخريبا مضافا الى التخريب الذي كان قد عمله سلفه هولاكو. كما ان تخريب وعبث تيمورلنك طال المناطق الأخرى في بغداد بشكل منقطع النظير. هذا ويبدو انه كان قاسيا مع المسيحيين بشكل فريد. كما يقول المؤرخون، الأمر الذي حدا بجماعات كثيرة كانت تعيش شرق العراق في جزء من ايران ان تهرب بشكل مجموعات كبيرة، الى منطقة هكاري في جنوب تركيا حاليا، خوفا من الاضطهاد والموت، مما يعني ايضا ان فرار المسيحيين هذا لم يكن بسبب قوميتهم، كما نفهم من الأب نوئيل،ولكنه كان اضطهادا بسبب مسيحيتهم. اما بقاء الجماعة الفارة من المنطقة المذكورة الى منطقة هكاري وبقائهم هناك لمدة 800 سنة، فلم يكن للراحة والاستجماع، ولم تكن هجرتهم تلك هجرة مؤقتة، بل كانت هجرة ونزوح جماعي الى منطقة هكاري لكي تمارس تلك الجماعة مسيحيتها هناك بكل ابعادها الايمانية والاجتماعية والحضارية بحرية تامة.
وهنا يكون الجدير بالذكر ان تلك الجماعة استطاعت ان تضيف الى حضارتها القديمة حضارة جديدة، بسبب البيئة الجديدة وبسبب طول الوقت الذي بقيت فيه في تلك المناطق، والتي كانت قد صارت مناطقهم القومية والاجتماعية، اذا عرفنا ان القومية، سواء كان ذلك في تشكيلاتها الانسانية الأولى، او التغييرات التي تطرأ على الصفات القومية الأساسية والثانوية، وتطرأ على هويتها خاصة،هي حقيقة انثروبولوجية خاضعة للتبدل. فصارت مسيحية تلك الجماعات مجبولة بالصفات الحضارية التي اكتسبتها هناك وأورثتها الى ابنائها، كما ان هؤلاء الأبناء والأحفاد اضافوا شيئا جديدا الى قوميتهم وهويتهم الحضارية والاجتماعية، ولا زالوا في حالة تطور في هويتهم الى يومنا هذا. هذا ولربما جاءت تسمية التياري ( اي اهل الجبل ) من تلك المنطقة وبيئتها الجبلية الحصينة. اما القسم الآخر من مسيحيي المشرق فمنهم من بقي في مكانه الأول، حاله حال اخوته المسلمين او نزحوا الى شمال العراق في مناطق متعددة منه. اما هؤلاء، فهم من كانوا قد صاروا ابناء الكنيسة الملقبة بالكلدانية من قبل روما. اما الجماعات الملقبة بالسريانية فربما لها قصة خاصة بها ايضا. وعلى اية حال فالتفاصيل ليست لها اهمية كبيرة هنا، لأننا لسنا بصدد عمل تاريخ. وانما نريد فقط ان نقول ان هجرات المسيحيين المشرقيين لم تكن بسبب هويتهم القومية، لأن تلك الهوية لم تكن اصلا موجودة في بدء تكوين الكنائس المشرقية، وانما كان هناك الايمان المسيحي الجديد برسالة يسوع، واللغة والحضارة السريانية التي حملت ذلك الايمان وعبرت عنه. مع ايماننا ان الحضارة لا تبقى ثابتة الى الأبد.
ثم اليك ايها الأب اضافة تفهمك مسألة تقول: اذا لم نكن مصرين على التضليل، علينا ان نتساءل ونقول: هل ان البعد الزمني ( قبل وبعد ) هو البعد الأساسي للحكم على مقبولية الأفكار ومشروعيتها؟ اما جوابي الشخصي لحضرتك يقول: انه يجب علينا ان لا نتصور ان البعد الزمني يمكن ان يكون البعد الوحيد المهم في القضية المطروحة. فهنا يصح المثل الذي يقول: ما كل مدعبل جوز، وما كل اصفر رنان ذهب. ونصيف: ما كل قديم متفوق من حيث صلاحيته ان يكون مرجعا للمسيحيين، وأساسا لهويتهم، وليس فقط لقوميتهم، غير الموجودة اصلا لدى مسيحيي المشرق الذين تم اول تأسيس لكنيستهم على يد مبشرين مسيحيين ( مار ادي ومار ماري وغيرهم ) من خلفاء خلفاءِ الرسل، الذين كانوا من ابناء العهد القديم قبل تنصرهم، والذين كانوا يحملون كثيرا من رواسب العهد القديم و وممارساته الدينية التقليدية. اما الشعب الذي كون الجمع الغفير لتلك الكنيسة في بلدة كوخي العراقية فقد كان يتكون جوهريا من ابناء العهد القديم الذين كانوا منفيين او بالأحرى مسبيين في بابل. فـصحيح ان اولائك المسبيين كانوا قد عادوا الى بلادهم، الا انه يبدو ان جماعات غير قليلة، مضافا اليها جماعات اخرى كانت قد اختارت ان تهاجر الى العراق وتقيم فيه، هي التي اسست تلك الكنائس الأولى. ومن وحي طقوسها وشرائعها، فضلا عن شريعة العهد الجديد المعروفة كانت توجه ابناءها المشرقيين، الذي في زمن معين بعد الحقبة التأسيسية الأولى دخلوا افواجا ووحدانا الى حظيرة المسيحية، يهودا ووثنين لم يكونوا يمثلون قومية معينة. فقد تكلمت يا اخي عن الفكر الأقدم والفكر الأجدد كأنما قدمُ اي فكر هو الذي يجعله الفكر الصحيح. فهل مثلا قلت في نفسك: اين هو يا ترى الفكر النهريني، وما هي محتوياته وماذا كانت حقيقته وماذا كان مآله ومصيره النهائي؟ وهنا لست ادري: هل تحسب ان الفكر هو مثل المادة التي لا تفنى ولا تستحدث، وانما تتغير من صورة الى اخرى فقط. وهل فكرت بأن الفكر النهريني بقي جاهزا ومستعدا للقيام من بين الأموات ليخدم الشراذم السياسية المريضة في العراق وفي بعض الدول العربية المعرضة باستمرار لشتى مجالات العدوان السياسي؟ ثم ماذا عن الثمانمائة سنة التي قضاها المسيحيون في هكاري: ترى هل هناك كان الفكر النهريني يسندهم ويقويهم ويجعلهم يكتسبون خواصا وخصال جديدة ام كانت مسيحيتهم التقليدية التي فسروها على هواهم هي التي كانت تحفظهم وتحفظ تراثهم؟
على ماذا استند في كلامي:ان الكلام الذي اقوله لك يا ابانا، وأقوله لغيرك، عندما تكون هناك مناسبة، ليس كلاما اعتباطيا ابدا، على الرغم من ان ما اكتبه لك الآن اكتبه من الذاكرة فقط.وسوف اتناول عبارتك بندا بندا، واريك كيف ان ما قلتَه في كلمتك الى الأخت والأخ المذكورين، كان كلاما مبنيا على افكار قومية مسيسة، ليس لها اساس من الصحة والواقع التاريخي ولا من الواقع الاجتماعي والعلمي،على الاطلاق،وانما هي ايديولوجيا مبنية على عواطف طائفية وعنتريات قومية شوفينية نعرف اليوم مصادرها المضللة تماما.
ماهية البعد الفكري: ان البعد الفكري الذي سأتكلم عنه هو البعد الروحي تماما، كما يعلمنا عالم الاحاثة الكبير والفيلسوف المتعمق بما يقوله من فلسفة،واللاهوتي المعاصر العلمي الأنثروبولوجي، الأب تيار ده شاردن. غير ان البعد الفكري هو اكثر واقعية من البعد الروحي، لأنه متجسد في واقع يمكننا دراسته. فالبعد الفكري بعد انساني انثروبولوجي، وهو لا يأتي من نظرة غيبية سماوية ولا من نظرة فائقة الطبيعة Surnaturelle ولا من نظرة انطولوجية فلسفية. فالفكر لا يستخرج او يسحب من دولاب او مجر، وينادى به، ولا يُستلم من جهات سياسية،ولاسيما اذا كانت جهات معادية او جهات تعيش على سلب حقوق وأموال الآخرين. فبحسب الأب تيار ده شاردن، يكون البعد الروحي مصاحبا للبعد المادي والحياتي Biologique والاجتماعي،ولا يمكن فصله عنه. اما كلامنا هذا فيعني اننا لا يمكننا ان نعزل الروح ( الفكر ) عن الفرد اي عن مادة الجسد. ولا يمكن عزله بالتالي عن المادة الاجتماعية والحضارية. فكل هذه الأمور متلازمة مع بعضها بحسب قاعدة او بحسب القانون الذي يعلمنا اياه الأب تيار ده شاردن Teilhard de Chardin الذي يقول ان الروح بعد من ابعاد المادة، بنظرة بنيوية ادخلها الأب تيار ده شاردن الى هذا المجال وفي كل مجال، ولاسيما المجال الحيوي Biologique الذي بنى تيار فلسفته ولاهوته عليه. لكن اهم ما يمكن ان نقوله مع الأب تيار ده شاردن ومع فلاسفة آخرين، قدماء وجدد، هو ان الروح ( الفكر ) يتجدد مع تجدد الانسان من خلال بيئته المتجددة. فالقومية والهوية اذن تتجدد بتجدد الانسان من خلال بيئته وتتقوى مع تقوي الانسان وتضعف مع ضعفه، ولا شيء هناك في عالمنا يدوم على حالة واحدة، فكل شيء يتغير اي تتغير صورته مع بقاء مادته الأولى واحدة لا تزول ولا تفنى.
عامل الزمن: اما عندما نريد ان نتكلم عن عامل الزمن فأننا سنرى عملية نشوء حضارة وظهور روحها يستغرق زمنا معينا لا يكون واجدا في جميع حالات الموت الحضاري Mutation de civilisation وفي جميع حالات النشوء الحضاري والفكري والروحي. وانما هناك فوارق زمنية لا نستطيع ان نعرفها مسبقا او مقدما.علما ان مفهوم التغييرات الحضارية عرفناه منذ عهد المجمع الفاتيكاني الثاني.
لننتقل الى فكرة جديدة: بعد كل ما ذكرنا انتقل مع الأب نوئيل الى فكرة جديدة واسأله وأقول له: يا ترى اين يمكننا ان نجد اليوم الفكر النهريني الذي تكلمت عنه ايها الأب العزيز؟ انا شخصيا امسكت بيدي مصباح ديوجين وفتشت عنه في كل مكان ولم اجده، لسوء حظ الأحزاب السياسية المسيحية الكارتونية. وأنت ايها الأب العزيز هل وجدت الفكر النهريني عند حركة زوعا مثلا، ام انك وجدته عند الحزب الآشوري ام عند حزب ما بين النهرين، ام انك وجدته عند تجمع الكلداني السرياني الآشوري، ام انك وجدته عند الأحزاب الكلدانية المستحدثة لخاطر عيون المحتلين وعراقهم الجديد،ام هل وجدته في احدى كنائسنا الكاثوليكية والكنائس الشقيقة مثلا؟ ام انك ستجد الفكر النهريني في الأديرة الكلدانية التي ضيعت المشيتين! اما انك ستجده في ال دي ان اي D N A كما يزعم البعض ؟ طبعا لا يمكن ان يأتي الجواب الا بالصمت العميق، وذلك لسبب جوهري هو ان هذا الفكر النهريني غير موجود اصلا في اي مكان! لا بل انه لم يكن موجودا حتى في ايام عز المسيحية المشرقية.
وفي الحقيقة انا لا اعرف هل هو مكتوب علينا كقدر لا يمكن تجنبه ان نبدأ حضارتنا وفكرنا المسيحي ابتداء من الصفر المشرقي الذي كان يملك ما كان يملك في حينه ولم يضف احد عليه شيئا جديدا منذ ان نام هذا الفكر في سبات عميق وطويل، اي سبات الموت الأبدي. فالروح في نهاية الأمر، لابد ان يتلاشى مع تلاشي مادته، كما يعلمنا الأب تيار ده شاردن، ويتحول مع مادته الى مومياء او يتحول الى ما يسميه العرب بـالـ/ رميم. ولذلك فالفكر الذي يريد السياسيون العراقيون وغيرهم ان يفرضوه علينا كحقيقة ثابتة ليس هو فكرنا ولا يمكننا ان نبني عليه ايماننا المسيحي وحضارتنا المعاصرة. ثم ملاحظة بسيطة تقول: ترى الا يمكننا ان نعد لجوء الجماعة الى ال/ D N A بمثابة فشل براهينهم الأخرى كلها. ولكن هل حقا وضع الـ / D N A بيد الآشوريين الذين طبلوا له ضالتهم المنشودة؟ هذا وإذا كان اللجوء الى الـ/ D N Aتعتبره الجماعة مفيدا له، على الرغم من غرابة لجوئهم هذا الذي لا يعني شيئا في الحقيقة، ولا علاقة له بأية قومية، فلماذا لا تلجأ الجماعة الى حقيقة اخرى اوضح وأكثر مقبولية الا وهي حقيقة الجنس السامي او الجنس الجزري الملقب بالجنس العربي عوضا عن الجنس السامي، والملقب مؤخرا بالجنس الجزري. لتفادي كلمة السامي الاسطورية. فالعودة الى السامية او الجزرية واضحة ويمكن دراستها، وهي تظهر في مجالات كثيرة، ولاسيما في مجال اللغة السامية العربية الواحدة، والتي تشمل عدة لهجات ولغات تفرعت منها، بعضها سمي عربية وأخرى سميت آشورية وأخرى سميت آرامية ثم سريانية وأخرى سميت بابلية وكلدانية، وأخرى سميت عبرية الخ ... اليست هذه التسميات معيارا حقيقيا لنوع من القومية التي يتمسك بها الآشوريون خاصة، ومن بعدهم بعض المسيحيون الذين سموا انفسهم كلدانا بشكل تقع عليه الشبهة اقل من شبهة ال D N A. وللمزاح اقول: لماذا لا يذهب اخوتنا الآشوريين ممن اعطي بيدهم برهان الـ D N A المزيف من حيث استخداماته الغريبة التي لا يمكن ان يفكر فيها الا من لا برهان له. وعليه وفي سبيل المزاح فقط اقول: ترى لماذا لا يذهب اخوتنا الآشوريين، مباشرة الى اقدم واول اسلافنا الاسطوري طبعا، وكما جاء في سفر التكوين، الا وهو آدم او آدم وحواء ايضا.
فكرة جديدة مهمة: اما الفكرة الجديدة فنبنيها على بعض الافتراضات، ومنها ذلك الافتراض الذي يقول بأن الفكر لا يموت حتى وان ماتت وتفككت مادته. اما من جانبنا فلا ننكر هذه الحقيقة ولا شيئا منها. لكن هناك سؤال يمكننا ان نسأله يقول: هل فكرنا في ظاهرة اخرى تقول ان الفكر ينتقل الى الحضارة التي تليه مع انتقال حضارته المادية ومعطياتها؟ اليس هذا ما يقول به الجدل، حين يتكلم عن ازاحة الجديد للقديم وأخذ مكانه وبعض مما كان فيه من ايجابيات؟فالفكر الذي كان موجودا عند الآشوريين مثلا انتقل اولا الى الكلدان ثم انتقل الى الفرس وأخيرا انتقل الى الدولة العربية الاسلامية، هذا في حين كنا نعرف ان هذا الفكر، كان ينتقل بين اولاد العم من الآشوريين والكلدان، بشكل طبيعي، لآن مادة ذلك الفكر كانت متجانسة مع مادة الفكر الذي يستولي على الحكم الجديد. اما انتقال الفكر الآشوري والكلداني الى الفرس، فكان انتقالا مختلفا بشكل كامل، لان مادة الحضارة الفارسية كانت غير المادة التي كانت موجودة عند الآشوريين والكلدان، في حين ان انتقال الفكر من عند الفرس الى الدولة العربية الاسلامية، كان حضاريا وكأن هذا الفكر عاد الى خصوصياته الجزرية الملقبة بالعربية، بغض النظر عن الدين الذي كان مصاحبا للعرب وفكرهم بخصوصياته الجديدة، والذي هو دين اقرب ماديا الى العهد القديم، منه الى المسيحية، لأن صار من الثابت ان الاسلام كان هو، في بداياته على الأقل، دينا نصرانيا وليس مسيحيا، لآن النصرانية لم تتخلى عن الاله القومي، وعن شريعة ذلك الاله، وعن طبيعة علاقة السماء بالأرض.
لكي نفهم مسألة العروبة احسن: فلكي نفهم العروبة احسن يمكننا ان نقسم القوميات الى قسمين رئيسيين هما:القسم الذي بقي داخل الجزيرة العربية الواسعة، والقسم الذي هاجر الى وادي الهلال الخصيب بالقرب من تخوم الدولة الفارسية. اما هذا التقسيم فيفيدنا في ان نوسع مفهوم العروبة في منطقة الشرق الأوسط بأكملها، حيث لا نجد التقسيمات القومية الأولى فقط، لكننا نجد ايضا التقسيمات الثانوية التي تشمل عروبة الهلال الخصيب وان كانت هذه العروبة قد ارتدت اسماء مختلفة مثل الآشورية والبابلية والكلدانية والعبرية وغير ذلك، بغض النظر عن الدين وعن بعض الصفات الثانوية الأخرى التي تعود الى البيئة العامة لما بين النهرين ووادي الهلال الخصيب.
نعود الى كلامنا الأول: اما الآن وبعد تلك التوضيحات القومية المهمة، نعود الى كلامنا عن انتقال الحضارة بماديتها وبروحها الى قوميات اخرى من غير تلك التي ذكرناها اعلاه. فما نعرفه عن هذا الانتقال هو انه يشبه انتقال الشخص من بعد موت الفرد، من حامله الأصلي الى حاملين آخرين،كما نقول ذلك عن يسوع الذي انتقل شخصه بعد موته من حامله يسوع: الى رسله اولا، ثم الى سائر المؤمنين به ايمانا حقيقيا خاليا من الأساطير. علما ان الانتقال يسمى انتقالا انثروبولوجيا.
بعد سقوط الامبراطورية الفارسية:وإذن وبعد سقوط الامبراطورية الفارسية انتقلت السلطة السياسية من يد الفرس الى يد العرب المسلمين،او بالأحرى الى الدولة الدينية العربية الاسلامية، ببعديها الديني والحضاري والاجتماعي. وهكذا صار الدين الاسلامي بديلا للدين الفارسي، ولاسيما بعد اسلمة الفرس انفسهم. وصارت الحضارة في كنف العرب المسلمين بعد ان كانت في كنف الفرس، وهو الأمر نفسه الذي حدث فيما يخص روح الحضارة الجديدة – القديمة وفكرها. فالعرب اذن، لم يضطهدوا المسيحيين عند مجيئهم الى حكم المنطقة، كما يحلوا القول لبعض المضللين العملاء. وبقي المسيحيون في الدولة العربية الاسلامية، كما كانوا في الدولة الفارسية، لا بل احسن مما كانوا عند الفرس الزرادشتيين.هذه هي الحقيقة التي لا يستطيع سماعها بعض المتعصبين الحاقدين على العرب، من الذين لا يعرفون، او لا يريدون ان يميزوا بين احداث جرت في اوقات مختلفة ومتباينة تاريخيا وزمنيا، ويعملون تضليلا مبنيا على ما يسمى المفارقة الزمنية Anachronisme.
اما الطائفة او الطوائف المسيحية، مع فكرهم الحضاري الخاص ومع دينهم وإيمانهم، فقد انتقلوا ايضا الى مجتمعهم الحضاري الجديد، كطوائف دينية تدين للدولة فيما يخص كل حياتهم المدنية ويعودون الى الكنيسة والى بطريركها في كل ما يخص حياتهم الايمانية الدينية.وهكذا صار التراب العربي في ببيئته وفي حضارته ترابا لكل من سكن هذه المنطقة العربية سواء كان مسلما او مسيحيا، كل على دينه، وصار المسيحيون مساوين للمسلمين في اغلب امورهم، باستثناء ما يخص الخدمة العسكرية وبعض امور الشريعة. اما ان يكون المسيحيون قد قاسوا الأمرين في عهود تالية على يد حكام وشعوب وضعوا الدين ( الآسلام ) قبل القومية، لا بل بدون اي اعتبار للقومية، فتلك مسألة اخرى لا نريد ان نخوض فيها الآن. كما لا نريد ان نخوض في الحروب الصليبية وما افرزت من كراهية عند بعض المسلمين للمسيحية، حيث كانت الحروب الصليبية شئنا ان ابينا حروبا بين امتين دينيتين الأمة الدينية الغربية المسيحية، والأمة العربية الاسلامية، بذرائع سياسية واهية. هذا، وبما ان الدين كان قد اخذ مكان الصادرة في تلك المراحل متقدما على القومية، وبقي المسلمون منطوين على دينهم حتى في ازمنتنا المعاصرة، فان هؤلاء المسلمين، لم يعرفوا ان مسيحيي المشرق لم يكونوا منتمين كأمة الى مسيحيي الغرب على الاطلاق.اللهم الا بعض الشواذ.
استنادا على الاعتبارات اعلاه: وهكذا صار بمستطاعنا ان نبرأ القومية العربية من اي اضطهاد يحصل للمسيحيين في ارضهم وارض العرب المشتركة. كما نشجب اية تهمة عدوانية توجه الى القرآن الكريم قائلة ان القرآن والإسلام في جوهره هو كتاب يحرض على المسيحيين وعلى العنف. نحن هنا نفصل بين المبادئ وبين الأحداث التاريخية المؤلمة التي حدثت على يد العثمانيين الذين كانوا اصلا يخاصمون ويضطهدون القومية العربية وكل من ينتمي اليها، ويخاصمون المسيحية ايضا، لأسباب الصراعات الدينية ووجوب ان تكون ارض الاسلام كما يسمونه خالية من غير المسلمين. لقد تم ذلك بسبب تغليب الدين في الامبراطورية على القومية، فامتد هذا الفكر الشاذ على كثير من المسلمين المعاصرين، من الذين تمت ادلجتهم على هذا الفكر المتعصب الشاذ. ولكن نقول ايضا، كما ان العدوان الصليبي على ارض العرب استفز المسلمين عنصريا ودينيا ضد كل المسيحيين، احيانا كثيرة، هكذا يعد اليوم عدوان الدول الغربية بأشكاله المتنوعة، على المشرق الاسلامي، استفزازا للمسلمين وسببا مباشرا لعنفهم غير المبرر على المسيحيين. علما ان المسيحيين، في اغلبيتهم، مع كنائسهم لم يقفوا تجاه العدوان الذي عده المسلمون خطأ بأنه عدوان مسيحي على المسلمين، ولم يدر بخلدهم، ان هذا العدوان لم تكن المسيحية الرسمية ضالعة فيه لا من قريب ولا من بعيد. اما تحرك المسيحيين السياسي واخص بالذكر، تحرك الأحزاب الناطقة باسم المسيحية من باب الكذب والتضليل، فقد كان تحركا لا يفهم غير شيء واحد، وهو ان هؤلاء المسيحيين كانوا سعداء بما حصل. مع الأسف.
المسيحيون عرب في اغلبهم: فالمسيحيون اذن، ومنهم القس لوسيان جميل، عرب وليسوا مستعربين، كما ان القس لوسيان عربي ابن عربي، ولهذا لا يقبل ان ينعت بالعروبي، وكأن العروبة سمة دخيلة عليه، بحسب فبركة العملاء السفسطائيين. فباستلام منطقة ما بين النهرين وضمها الى المنطقة الأم: في الجزيرة، صار تراب الوطن العربي كله ترابا قوميا لكل من كانت جذوره جذورا جزرية. اما الآخرون فتواجدوا في الوطن العربي لأسباب اخرى غير اسباب العروبة، وكانوا يلاقون من العرب كل التكريم. تكلمت هنا في الزمن الغابر، وأطبقه الآن بشكل مماثل على زمننا المعاصر، ولاسيما بعد ان انقلبت المناطق العائدة الى الأمة الدينية الاسلامية الى دويلات وصلت غالبيتها الى حياة مدنية ديمقراطية حقيقية. ( الديمقراطية تعني هنا التخلي عن الحكم الديني او الحكم الالهي، لكي يصير الحكم بيد الانسان والشعوب ).
غير ان ما يجمع المسيحيين في وحدة قومية واحدة، ليس فقط كونهم كانوا يسكنون شرعيا الوطن العربي، كوطن اصلي لهم، ولكن ايضا كونهم كانوا يتكلمون لغة ليست بعيدة في مفرداتها القاموسية من اللغة العربية. ولا عجب في ذلك: فالمسيحيون بكونهم كنيسة لم يختاروا مؤمنيهم من قومية واحدة وجنس واحد وانما قبلوا في صفوفهم كل من آمن بيسوع وبرسالته. غير ان الجميع انصهروا في بوتقة جرن العماذ الذي كون خصوصية المسيحيين سواء كانوا من اصل عربي ام من اصول القوميات الأخرى البائدة،او من الأصول السريانية الارامية. كما كان الجميع يشعرون، ليس بوحدتهم المسيحية مع المؤمنين الآخرين فقط ولكن ايضا بقربى حضارية مع العرب ومع حضارتهم القومية وبقربى خاصة ايضا مع الحضارة الدينية المسيحية التي كانت جذورها الأولى تعود الى العهد القديم بكثير من تطبيقاته. هذا مع علمنا ان كنيسة المشرق تكونت بادئ ذي بدء من افراد وجماعات من ابناء العهد القديم الذين كانوا مسبيين في العراق والذين مع الزمن كانوا قد انتشروا في اماكن عديدة من جنوب العراق ووسطه وشماله. كما كان اخوة لهم مع مرور الزمن قد التحقوا بهم لأنهم كان يطيب لهم العيش في العراق.
بعد سقوط الامبراطورية العثمانية: بعد سقوط الامبراطورية العثمانية ونظامها الديني المعادي للفكر القومي، كان العرب قد فكروا في ان ينشئوا لأنفسهم دولة قومية عربية، لا اعرف اذا ما كانت ستكون ديمقراطية او شبه ديمقراطية ام دولة دينية كما كانت امتهم القديمة.غير ان العرب لم يستطيعوا ان يحققوا امنيتهم تلك، وتم تقسيم ارث الإمبراطورية العثمانية الى دويلات بشكل تعسفي، بحسب مصلحة المنتصرين في الحرب العالمية.
وهكذا نشأت الدول العربية المختلفة التي نعرفها،هذه الدول التي يمكن ان ننظر اليها ككيانات يحمل كل منها شيئا كثيرا من صفات امتهم القديمة، مثلما يحدث مع اجزاء المرآة الكبيرة التي تنكسر وتتحول الى قطع صغيرة تسمى مرآة ايضا. فكل دولة في الوطن العربي صارت جزءا من الكل حضاريا، مع تمتع كل دويلة ببعض الخصوصيات.هكذا يمكننا ان نقول ان العروبة تواجدت في كل دويلة من دويلات الارث العثماني. هذا، من جهة، ولكن من جهة اخرى فقد كان من المنطق ان تعبر كل تلك الدويلات الى الحالة العلمانية الديمقراطية، بمعناها الجدلي وليس بالمعنى السياسي، ولا حتى بمعنى مجاملات رجال الدين وقبول الدول ببعض الشرائع لدوافع سياسية كثيرة. غير اننا نعرف ان العبور الجذري وبالعنف من حالة حضارية الى حالة جدلية جديدة غير ممكن،وتكتنفه صعوبات كثيرة وتضحيات جمة، ومنها حدوث فجوة عميقة بين الدولة والشعب، كما حدث عند الانقلاب الشيوعي على الدولة الاقطاعية والرأسمالية. ولذلك في نظري على الدولة الحكيمة ان تتفادى الافراط في التعصب الديني، والقيام بالمساواة بين افراد الشعب، وتهيئة المناخ شيئا للتغيير الديمقراطي الجدلي. فهذا التغيير شأن من شؤون الشعب وليس شأن من شؤون الدول. ولكن اخيرا نقول في هذا المجال ان الشجرة تعرف من ثمارها. اما الضغط على الرؤساء لكي يقوموا برفع بعض الامتيازات من الأكثرية المسلمة فليس في صالح احد.
وفي المقابل ان رئيسا يغض النظر عن التجاوزات الطائفية العنصرية الدينية،ولاسيما اذا كانت هذه التجاوزات تبغي التغيير الديموغرافي لمنطقة غير مسلمة، او هي مسلمة ولكنها من طائفة غير طائفة الرئيس، فحينذاك يمكن اتهام الرئيس ذاك بالعجز او بالتواطؤ. وبناء على كل ما ذكرنا فان قيام الكنيسة بطلب المساواة في امور الشريعة من الحكومة الطائفية، اقل ما كان يمكن ان يقال فيه انه كان طلبا في غير محله، ويحمل معاني ليست في صالحنا نحن المسيحيين الطيبين غير المسيسين، وان كانت الغالبية فينا مخدرة بمخدرات من مختلف الأنواع وتقبل وتفرح بكل خطوة تؤذي المسلين مهما كانت واطئة في اخلاقيتها وخطرة على سمعة المسيحيين. اما مضرة تلك المطالب فهي واضحة، وليس اقلها ان المسلمين سيقولون ان المسيحيين استغلوا الاحتلال ليحصلوا على مكتسبات، لم يحن زمنها بعد. كما ان مثل هذا الطلب يحرج الرؤساء في مثل وضعنا الراهن ووضع الأمة العربية المعروف. ولهذا، لم يجدد رؤساؤنا احدا، سواء كان قبل الاحتلال او بعد، من استجاب لهم في مسألة حساسة مثل مسألة الشريعة الاسلامية. وبالتالي علينا ان نفهم ان مثل هذه الأمور لا يحلها رؤساء الدول، بل تحلها الشعوب وتقبلهم لمستجدات الحضارة الجديدة في جميع الأمور الحضارية، ومنها ما يتعلق بالأحوال الشخصية.
وطبعا مبدئيا كان يجب ان تصبح هذه الدول دولا قومية مدنية خالصة، غير ان الواقع كان غير ذلك، حيث تم الاحتفاظ ببعض الشرائع الدينية في مسائل عديدة، مع اعطاء بعض الحقوق الدينية للأقلية المسيحية وغيرها من الأقليات، وكأن الدولة الدينية لا زالت موجودة فعلا. غير ان من يدرس الانسان بشكل جيد يفهم ان ما حصل بعد تفكك الامبراطورية العثمانية ما كان يمكن ان يلاشي الثيوقراطية من عقول الكثيرين، شعبا وحكاما. ومن يدري، ربما بسبب ظاهرة البطء في التحول من حالة حضارية الى اخرى، وكثيرا من المنغصات التي كانت موجودة في العهد العثماني وفي غيره، والتي بقيت كامنة في نفس المسيحيين، وتحريض الدول الاستعمارية للمسيحيين ايضا ضد ما كانوا يسمونه التعسف الاسلامي، هو الذي دفع المسيحيين في المشرق العربي او فلنقل في الوطن العربي الى التذمر والانحياز الى الغرب في مسائل عديدة او الى الهجرة بكل بساطة، والى النفور من ممارسات المسلمين الذين كانوا يصرون على ان اية دولة عربية هي دولة اسلامية ويجب ان تكون افضلية العناية مقدمة للمسلمين ولشرائعهم التي كان يفترض فيها ان تنتهي صلاحيتها الدينية وتصبح مجرد تراث غير ملزم لأحد قانونا. اما خطأ السياسيين المسيحيين فيأتي من كونهم ينسبون الى الاسلام، وبشكل خبيث، كلاما يقول ان الدين الاسلامي في جوهره غير قادر على التسامح وعلى اعطاء الآخرين حقوقهم وان القومية العربية ممتزجة مع الاسلام بشكل لا فكاك منه. حتى ان هذه التهمة السمجة قد تحولت عندهم الى مظلمة يسوقونها وكأنها حقيقة ويضعونها بيد اعداء العرب والمسلمين،بدون ان يرف لهم جفن.غير انني، بالمقابل، اقول لهم بصراحة بأن مظلمتهم تهمة سيئة ومؤدلجة وخالية من مسؤولية وطنية وأخلاقية، وان هذه المظلمة وغيرها، مثل مظلمة شهداء الآشوريين في بلدة سميل – العراق الكاذبة، ليست سوى كذبة سياسية، بكون قتلاهم كانوا من نوع:على نفسها جنت براقش،والبادي اظلم، ودم تلك الضحايا برقبة من صدق بغباء وبعنجهية وعود الانكليز. فالجيش العراقي آنذاك بالحقيقة لم يضرب المسيحيين، بل ضرب جيشا آخر مكونا من جماعة سمت نفسها آشورية وصدقت نفسها، وصدقها الانكليز برياء.
من جهة ثانية ادعوا اخي نوئيل ومن سيقرأ هذا المقال، الى ان يتعرفوا على الحالة التي كانت عليها المسيحية قبل وبعد الثورة الفرنسية، لكي يروا بأمهات اعينهم، اذا كانوا مستعدين ان يبصروا الحقيقة،ادعوهم ان يعرفوا كيف ان المسيحية الغربية لم تتنازل عن مواقفها السيئة المتعاطفة مع الاقطاع ضد الشعب الفرنسي، الا بجهد جهيد. وهي الى هذا اليوم تحن الى الايام التي كانت فيها الكنيسة في الحكم الثيوقراطي، كما انها الى حد هذا اليوم متمسكة بمعتقدات اسطورية، سمتها عقائد الهية، هذا التمسك الذي لا يأتي من باب الايمان وحرصا عليه، بل من باب الحرص على التراث الثيوقراطي الذي بنته كنيسة قسطنطين الملك. ثم ادعوا الجميع الى ان يعرفوا كم هو العدد من العلماء واللاهوتيين الذين اضطهدتهم الكنيسة وأحرقت كتبهم، او منعت بيعها في الأسواق. مع ان كنيسة ما بعد الثورة الفرنسية الشرعية لم تكن تملك بعد حق محاسبة الناس على افكارهم. ومع هذا، ارى شخصيا، ان ما تتمسك به من مخلفات الأمة الدينية المسيحية الاقطاعية سوف يزول بالتدريج، لكي يبقى الانسان سيد احامه وسيد حياته. وهنا ايضا تري القاعدة التي تقول ان الشعب هو الذي يصنع الديمقراطية، وليس الحكام. وكل ما على الحكام ان يفعلوه هو ان يخلقوا المناخ الذي يؤدي الى خيارات ديمقراطية خارج وصاية المدعين انهم يتكلمون باسم الرب. فإذا كان المسيحيون بهذه الحالة هكذا من التعصب للقديم، فلماذا نلوم المسلمون عندما نراهم بأخلاق تتصف بالتمييز الديني ويعتبرون انفسهم صفوة الرب المختارة، ويطلبون امتيازاتهم عن الطريق السلمي القانوني ام عن طريق العنف بأشكاله.
فهل ان الكنيسة في سلفيتها اللاهوتية هي فعلا ربانية، ام انها تفرض رغباتها السلفية بالقوة المتاحة بيدها؟ وهل ان تخلف الكنيسة الحضاري مصدره الانجيل يا ترى ام ان مصدره الحضارة الثيوقراطية التي لا تأبى الاستسلام بسهولة؟ فلماذا يكون القرآن الكريم هو المسئول عن عنجهية بعض المسلمين وعن عنف ربما غالبيتهم، حتى الرؤساء منهم، ولا يكون الانجيل مسئولا عن سلفية الكنيسة وتعسفها اللاهوتي والإداري. طبعا ان الاجابة واضحة، حيث ان الكتب المقدسة هي كتب نعرف حقيقتها من خلال الزمن الحضاري الذي جاءت فيه، وليس من خلال زمننا المعاصر. مع اننا نميل ان نعفي الرؤساء من الاستجابة للعدل الديمقراطي لأن الرئيس في حالات كثيرة اذا استجاب لكل مطالب الأقليات الدينية يكون كمن حكم على نفسه بالسقوط السياسي. ولذلك تكون الحكمة بعدم احراج الرؤساء في هذه الأمور،حتى تستقيم الأمور من حالها حضاريا وشعبيا. ولكن نقول: هل حقا، كانت لنا مشكلة معقدة في انظمتنا العراقية وغير العراقية، ولاسيما في النظام العراقي الشرعي الذي قوضته الامبريالية بشكل ظالم وغير انساني؟ ام ان اغلب المظلمة جاءت من فبركة السياسيين الكذابين؟ وإذن يا اخي نوئيل هل ستبقى تمدحني بكلمة عروبي وبأني احمل فكرا عروبيا؟ ولا احمل فكرا نهرينيا؟ اذا كنت انت لا تستطيع ان تجيبني، فانا سأقول لك بصراحة: اني لا احمل فكرا عروبيا ولا فكرا نهرينيا. وانما احمل فكرا مسيحيا ايمانيا وانثروبولوجيا وعلميا معاصرا.غير انني عربي المولد وعربي الثقافة وعربي اللغة وعربي الفكر: مع كل الخصوصيات الأخرى التي اتمتع بها، ومنها الخصوصية الدينية واللاهوتية، وخصوصية دراساتي الغربية الفلسفية واللاهوتية، مضافا اليها كثيرا من اجتهاداتي ودراساتي الخاصة التي تقودها منهجية وضعتها بنفسي، لها سمة معاصرة واضحة، دون ان تكون منقطعة عن اصولها الروحية والأنثروبولوجية.
اما الفكر النهريني الذي يتكلم عنه البعض في الزمن الرديء الذي نمر به، فلا اجده عند اية جماعة من الجماعات التي تنادي به زورا وبهتانا ومن باب التضليل. فالفكر النهريني قد مات حقا واندثر. ونحن لا يجب ان نفتش عن الحي بين الأموات! كما كان قد قال الملاك الذي كان واقفا فوق باب قبر يسوع للنسوة اللواتي كن يفتشن عن جثة يسوع. ولكن مع هذا يكون التراث تراثا ويبقى تراثا لا يصلح لإحيائه وتسيده. فاحياء التراث المندثر، لم ينجح يوما، لأننا لا نجد في عالمنا معجزات احياء الموتى. اما ما حصل في بعض الحالات، فقد حصل لأسباب لا تعود الى احياء تراث ميت، وانما حصل لأسباب سياسية حسبها البعض اسبابا انثروبولوجية وقاعدة لكل تراث. هذا وإذا كان الله قد كلف نفسه ليقيم يسوع من بين الأموات ( نقول نحن انها صورة مجازية ذات معنى انساني عظيم )، فهل يا ترى سيكلف الله نفسه مرة ثانية ويقيم الفكر النهريني من بين الأموات؟! في حين ان عشاق هذا الفكر الكذبة لم يفعلوا لهذا الفكر شيئا ليحيوه، او بالأحرى لم يستطيعوا ان يعملوا للفكر النهريني الميت شيئا. والحقيقة انا لا افهم كيف ان شلة من الشيوعيين المتخلين عن احزابهم، وأشباه الشيوعيين، الذين كانوا قد تثقفوا بالضد من اية قومية، يستطيعون اليوم ان يحيوا اقواما وحضارات اندثرت، ولاسيما اذا ارتموا بأحضان الدولة التي كانوا يعادونها، ويحيوا الفكر الذي يفترض بحسب احدث الفلسفات المستندة الى علوم الحياة، انه مرافق ومواكب لمادته المندثرة. وكيف يحيا هذا الفكر من دون ان تحيى معه مادته المندثرة ايضا. ثم من يحيي للآشوريين وللكلدان او للآراميين المادة الحضارة المندثرة.
فكرة اخيرة:فإذا اردت يا اخي نوئيل ان تعرف حقيقة فكري، اقول لك بصراحة: انه فكر حضاري عالمي يستند الى علوم ثابتة والى فلسفات يمكن ان يجد فيها الانسان ضالته المنشودة. وأكثر من هذا ان فكري فكر يستند خاصة الى علوم الانسان الاجتماعية (الأنثروبولوجيا ) في امور مهمة جدا. ويستند الى التاريخ الحضاري لكي يستطيع ان يميز عند الأقدمين ومن ذلك كتبنا المقدسة، بين الأساليب الأدبية والحضارية وبين معانيها الانسانية الحقيقية. والقس لوسيان يميز بشكل جيد بين التاريخ وبين ما يسمى شبه التاريخ Histoire et Para histoire. اي بين ما هو مجريات واقعية أرشيفية وبين ما هو قصة دينية لها معاني يجب دراستها خارج اطار مداخلات الأشخاص السماوية، التي تختلف عن طبيعتنا والتي لا نستطيع نحن البشر ان نقيم اية علاقة حقيقية وموضوعية معها.
وهكذا يتجاوز القس لوسيان فكر الثيوقراطية اللاهوتي الدوغمائي Dogmatique ويتحول بمعرفته من معرفة اسطورية يسمونها خطأ فائقة الطبيعة Surnaturelle الى معرفة انسانية انثروبولوجية نجد فيها كامل المعرفة البيولوجية المادية والفيزيائية والكيميائية كما نجد فيها حياة روحية مقدسة، دون ان تكون الهية. هنا لا استطرد اكثر، وذلك لأن كل ما اكتبه هنا عن لاهوتي الخاص مكتوب في كتبي اللاهوتية والفلسفية المطبوعة وغير المطبوعة. ولكن هل انا حقا من غير جذور؟ اقول كلا لست انا من غير جذور، ولكن الذين يقولون لي اني من دون جذور، هم بدون جذور، بكل معنى الكلمة. فجذور هؤلاء كاذبة اخترعها الانكليز، اما الجذور الكلدانية فقد اخترعتها روما. في حين نقول للجماعات المضللة قوميا، بأنهم لو كانوا شرفاء حقا وطلاب حقيقة ما كانوا يتنكرون لجذورهم الحقيقية التي تكونت ايمانيا ولاهوتيا وفكريا وقوميا وهوية في جرن العماذ، حيث نبتت لأول مرة وحتى اليوم. فهذه الجذور هي التي جعلت من مسيحيي المشرق ولفترة طويلة، طائفة دينية ايمانية واجتماعية ايضا. فالمسيحية هي ايمان وهي حضارة وهي مجتمع، اضافة الى كونها روحانية جاءت لها من يسوع ومن رسالته. اما الجذور النهرينية فهي جذور مزيفة يقول بها سياسيون مسيحيون عملاء يحسبون ان عمالتهم والرشاوى التي يقدمونها لجماعاتهم كافية ليخدعوا بها الناس. اما من جملة الخداع الذي يمارسونه فهو اتهامهم الدين الاسلامي بالهيمنة على غير المسلمين والخلط بين القومية والإسلام، الأمر الذي هو حق يراد به باطل. كما سبق ان تكلمنا عن ذلك في الصفحات الماضية. فما يحدث اليوم يأتي لأسباب لا تعود لا الى الأديان ولا الى القوميات، بل يعود فقط الى المواقف السياسية حسب، لاسيما المواقف التي تساعد على الاصطياد في الماء العكر. وهكذا ينقلب الأمر مع بعض الطوائف المسيحية من خلاف سياسي الى خلاف قومي وديني طائفي. وهو الخلاف الذي سميته ايها الأب نوئيل خلافا بين الفكر العروبي0( الاسلامي ضمنا ) وبين الفكر النهريني. مع ان هذا الخلاف، ان وجد فهو خلاف بين الأحياء والأموات. والقس ينتمي الى الفكر الحي وليس له اي مبرر وأية قدرة على احياء الأفكار والحضارات الميتة. كما انه لم يشعر يوما بالحاجة الى احياء الأفكار المندثرة والجذور اليابسة. علما بأن الحضارة العربية التي اشعر انها حضارتي الحقيقية لا زالت حضارة حية ترزق، ولا نعتقد ان حالات العدوان الكثيرة التي تعرضت لها سوف تتمكن من قتلها وإدخالها الى خانة من خانات الحضارات المندثرة. مع العلم بوجود كتاب لعالم الاجتماع تيونبي عنوانه قيام وسقوط الحضارات. بهذا المعنى فقد تموت صيغة او صورة من صور الحياة الحضارية وحتى الدينية وتقوم محلها صور وصيغ حياتية ودينية مقدسة جديدة، الأمر الذي يحصل الآن للمسيحية ايضا. وهنا اقول فقط انه لن يوجد امير اسطوري ليأتي ويقبل الأميرة النائمة والمسحورة لتنهض وترتمي في احضان اميرها العاشق.

القس لوسيان جميل
6 – آب - 2018

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

3318 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع