العلة الأولى والعلة الثانية / ح١ - ح٢

                                            

                     القس / لوسيان جميل

العلة الأولى والعلة الثانية - ح1

المقال الذي أقدمه هنا، يهمنا كثيرا، ليس من اجل ذاته، ولا من اجل الفلسفة الأرسطية التي يحملها فقط، بل من اجل ما تَوصلنا اليه هذه الفلسفة التي هو قائم عليها، بعد ان وظف اللاهوتي القرن اوسطي توما الاكويني هذه الفلسفة ذاتهـا، من اجل تقديم البرهان على وجود الله، او بالأحرى، من اجل الوصول الى الطريق العقلي الذي يؤدي الى معرفة الله معرفة فلسفية، نظرا الى ان توما الاكويني وتلاميذه الرهبان كانوا مؤمنين، ولم يكونوا بحاجة الى برهان ليقنعهم بوجود الله، كمـا يقول مقال يتكلم عن توما الاكويني، على اليوكيبيديا. 

كلمة عن مصطلح العلة الفلسفي: قبل ان نواصل الكلام عن العلة الأولى والعلة الثانية، نرى ان نقدم شرحا قاموسيا سريعا لعبارة العلة الأولى والعلة الثانية لنقول فيها انها لا تعني المرض وإنما تعني " السبب " الأول والسبب الثاني لوجود المخلوقات.علما ان هذا المصطلح الفلسفي قد جاء من فلاسفة القرون الوسطى الذين كانوا يدرسون الفلسفة ويدرسونها باللغة اللاتينية. ثم ترجمت هذه العبارة الى اللغات الحديثة ومنها اللغة الفرنسية.اما العلة بمعنى المرض فمشتقة من العبارة الأصلية التي تعني السبب، فيقال بأن فلانا مات بالعلة الفلانية، اي انه مات بالسبب الفلاني.
مصطلح العلة الأولى والعلة الثانية: غير ان العلة الأولى والعلة الثانية مصطلح فلسفي واحد، وان دل على موضوعين مختلفين: الباري والبرِية، او الخالق والخليقة، او الخالق والمخلوق. اما هذا المصطلح الفلسفي فنجده خاصة في فلسفة ارسطو، هذه الفلسفة التي اعتمدها توما الاكويني ( القرن الثالث عشر الميلادي )، ليقيم عليها منهجيته اللاهوتية، ثم اعتمدها المدرسيون من بعده. وبما ان عبارة العلة الأولى والعلة الثانية، في اية لغة جاءت، ليست عبارة لغوية عادية، بل عبارة فلسفية، لذلك لا تستخدم هذه العبارة، في اللغة العربية المعاصرة، الا في الفلسفة، ولذلك ايضا لا نستخرج معاني هذه العبارة من القواميس، بل نستخرجها من الفلسفة الأرسطية خاصة، صاحبة هذه العبارة وغيرها. وبما ان المسألة هي مسألة فلسفة ومسألة لاهوت اعتمد الفلسفة الأرسطية، فيكون من حقنا وحق اي احد ان يناقش لاهوت توما الاكويني في ما يذهب اليه في بعض المسائل اللاهوتية والفلسفية والمسائل التي تتعلق بطبيعة الانسان، مثل مسألة الباري او الخالق ومسألة النفس الخالدة وقضية ازلية الكون التي يرفضها الاكويني، بعد ان يحرف بعض معانيها.
العلة الأولى: فالعلة الأولى اذن تستخدم حصرا عند الكلام عن باري الوجود بشموليته، الذي خلق الكون من العدم Ex nihilo ولا تستخدم لأي غرض آخر. ذلك ان الكلام عن اية تغييرات تحدث في الكون، Cosmos، بعد ان نال وجوده من الباري، لا تعود الى الباري بل الى العلة الثانية، حتى وان كان ذلك من قبيل ما يسمى بالانفجار العظيم Big bang. نقول ذلك لأننا نعرف ان مثل هذا التغيير لم يعمل اضافة ولا نقصان في مادة الكون، وإنما غير تلك المادة من صورة الى اخرى حسب، لأن المادة بالحقيقة، لا تفنى ولا تستحدث، بحسب قانون لافوازيه المعروف.
مصطلح الباري: في هذه الفقرة الصغيرة نشير الى ان مصطلح الباري، لا يحتاج من الناحية اللغوية الى اضافة عبارة من العدم Ex nihilo عند كلامه عن الخلق. فهذا المصطلح الموجود في اللغات السامية (الجزرية)، هو مصطلح دقيق جدا، لأن فعل " برا " وفي السريانية " بْرا " بتسكين الباء، وبحسب التحليل اللغوي الثنائي، يعني ان وجودا خرج من ذات الله، او بالأحرى من ذات الباري، في حين اننا لا نجد في فعل خلق ( جذره الثنائي ل ق ) معنى الصدور، بل نجد فيه معنى التحريك فقط، ولهذا يضطر من يكتب عن الخالق، ان يضيف عبارة "من العدم" اي ليس من مادة موجودة تسبق الخلق، ويقوم الخالق بتحريكها وتغييرها من صورة الى اخرى.
مصطلحان جاءا من حضارتين مختلفتين: وفي الحقيقة نحن لا نرى في مصطلحَيْ الباري والخالق مصطلحين متكاملين او مصطلحين مترادفين، لكنهما مصطلحان جاء اولهما اي الباري من كتاب العهد القديم، في حين جاء ثانيهما من الأوساط الوثنية ومن الأوساط الفلسفية اليونانية القديمة. ولكن بما ان هذين المصطلحين يستخدمان الآن كمصطلحين مترادفين، فإننا نستخدمها نحن ايضا كمترادفين، حتى يتم تغيير معنى هذين المصطلحين. علما بأن الغرب يستخدم مصطلحا جاءهم من الحضارة اللاتينية، ومنهم الفرنسيون الذين يقولون عن الخالق انه: Le créateur والخلق هو La création، اما الخليقة فتسمى La créature. فهل يأتي يوم يسود فيه مصطلح الباري عند الكلام عن العلة الأولى، ومصطلح البرِية، عند كلامنا عن العلة الثانية؟
بعض الاستنتاجات: ويقينا يحق لنا ان ننسب الى الباري، او الى الخالق من العدم، الفعل الذي به صدر الكون من الباري. اي صدر الكون من خالق واحد هو الباري، وان هذا الباري برا كونه كاملا ومنظما بدرجة كاملة، حتى ان احد الفلاسفة المحدثين، هو الفيلسوف لايبنز كان قد قال: ان ما خلقه الله لم يكن افضل منه. علما بأن الكمال هنا لا يعني الكمال المطلق الذي يتمناه البشر لصالحهم، ولكنه كمال نسبي، لأن الكمال المطلق غير موجود ولا يمكن ان يكون موجودا لا في الطبيعة الكونية ولا في الطبيعة الأرضية ولا في الطبيعة البشرية. فالكل هنا يتبع ما يحتاجه من قوانين تحدد طبيعة هذا الشيء وكمالها النسبي، اي نسبة الى طبيعة القوانين. علما بأن الله يستطيع ان يعمل اي شيء باستثناء المتناقضات.
لماذا نكتب هذا الكلام: نكتب هذا الكلام، لأسباب عديدة، ومنها ان كل شيء في عالمنا المذكور يأتي بالتدريج، وبقوانين بطيئة جدا، ومنها قانون الحياة المتصاعدة والمتشعبة، فضلا عن قانون الاحتمالات La loi de possibilité الذي نجده فـي جميع مراحل تطور واكتمـال وتصاعد الحياة، والذي يتحمل كثيرا من الصدف التي لا تمنع الطبيعة، او العلة الثانية، من مسيرتها ومن ابداعها. اما هذا الكلام، فيعني ان الباري والخالق لا يتدخل في مجريات المخلوق، وانه اكتفى بالخلق الأول، ليضع الباقي على اكتاف العلة الثانية وعلى مسؤولية الانسان. وهذا هو المعنى الذي نقول عنه ان كل شيء يخلقه " الواحد " من العدم، ليكون الباقي كله شأنا من شؤون العلة الثانية، كما يكون شأنا من شؤون الانسان المزود بالعقل والإرادة والحرية، حيث لا يتدخل فيه الباري ( العلة الأولى ) لأي سبب كان، اللهم الا اذا كان هذا التدخل بشكل غير مباشر، اي عن طريق القوانين الموضوعة سلفا في العلة الثانية. ولكن مع هذا قد يكون مفيدا لنا ان نذكر، من وقت لآخر، ان الباري هو العلة الأولى لهذا الكون؟ وقد اكمل مهمته منذ خلقة الكون من العدم، الأمر الذي يجعلنا نرى فلسفيا،ان هذا النوع من الخلق من العدم، والذي نسبناه الى الباري، هو اكمل الأنواع التي عرفهـا الانسان في تاريخه.
حدود العلة الاولى والثانية: اما هذه الرؤيا عن مفهوم الخالق، او الباري، فتجعلنا نميز حدود عمل العلة الأولى من العلة الثانيـة، اي نميز حدود عمل الباري من عمل البرية، او حدود عمل الخالق من المخلوق، وفق المصطلح التقليدي، كما تساعدنا هذه النظرة على ان لا ننظر الى الباري كمحرك دمى يحركها متى ما يشاء وكيفما يشاء، لأن مثل هذا العمل، غير حاصل بشكل مطلق. اما اذا اردنا ان نتكلم علميا، فنقول اننا لم نشاهد الباري يتدخل في امور البرية في اي وقت وأي مكان؟
ما كان قبل الآن: اما اذا رأينا اجيالا من البشر، ولمدد طويلة جدا، وإذا رأينا كثيرا من اللاهوتيين يبنون كلامهم ولاهوتهم بشكل يقبل ان تقوم العلة الأولى بالعمل عوضا عن الانسان، وإذا رأينا صلوات تحاول ان تسخر العلة الأولى بأعمال بشرية عوضا عنهم: ايقاف حرب مثلا، فان ذلك يعود الى فكر بدائي، حاول اللاهوتيون تطويره، لكنهم لم يوفقوا في عملهم التوفيقي، مع الأسف، او بالأحرى من حسن حظنا.
حولوا اللاهوت الى عقيدة: ولذلك فعوضا عن ان يقر اللاهوتيون بفشل منهجياتهم السابقة، حولوا افكارهم البدائية الى ما يشبه العقيدة التي لا تمس، مع العلم ان هؤلاء اللاهوتيين يعلمون جيدا، ومنذ فترة لا بأس بها، بأنه ليس من واجب العلة الأولى خرق نواميس الطبيعة من اجل ارضاء طلبات الناس، او من اجل الاستجابـة لصلواتهم. كمـا ان التمسك بكلام يعطـي العلة الأولى اولوية كل حركة في العالم، انما يتجاهل حقوق العلة الثانية، ومنها انهـا الوسط le milieu الطبيعي الذي يظهر فيه الله للبشر عن طريق مشاعره وحاجاته الأنثروبولوجية، ذات السمات المطلقة، وليس عن طريق عقله، اللهم الا في مسألة وجود الباري.
حدود عمل العلة الاولى: وإذن، ومن باب الكلام المذكور، يكون علينا ان نفهم فلسفيا مصطلح الخالق، وحدود عمله المباشر الذي ينحصر بالوجود وبالقوانين التي تسير هذا الوجود. علما بأن ما نقوله هنا ليس اعتباطيا، وليس مجرد حلم فلسفي، وإنما يستند الى قوانين الكون التي كشفها لنا علماء الكون Les cosmologuesوعلماء الحياة وغيرهم، والتي نذكر منها قانون العالم الكبير ورائد العلم الحديث لافوازيه، صاحب المقولة الشهيرة التي تدرس لطلاب المدارس، والتي تقول بأن المادة لا تفنى ولا تستحدث، بل تتحول من صورة الى اخرى، حتى صار هذا العلم الأساسي بابا لعلوم كثيرة ولدراسة التحولات التي تحدث في الكون بشكل طبيعي ومفهوم، او بشكل مصطنع على يد الانسان، فيزيائيا وكيميائيا، كما في باب الأحياء: الخلايا الجذعية والاستنساخ او الاستنسال مثلا.
ارتباط العلة الأولى بالعلة الثانية: في الفلسفة الارسطية المعتمَدة في الكلام عن الله، يمكننا ان نلاحظ كم ان العلة الأولى والعلة الثانية مرتبطتان مع بعضهما باستمرار، وكم انهما متداخلتان، حيث ان العلة الأولى هي الخالق ( الباري )، وهي تبقى الخالق كذلك. في حين ان العلة الثانية هي المخلوق وستبقى كذلك. ولكن على الرغم من هذا الترابط، والذي يجب ان يؤخذ بالحسبان دائما، وعلى الرغم من اننا لا نستطيع ان نتكلم عن العلة الثانية، الا بعد معرفة العلة الأولى، ولا نستطيع ان نتكلم عن العلة الأولى الا بعد معرفة وجود العلة الثانية وقوانينها، الا ان لكل من العلة الأولى والعلة الثانية الكلام الخاص به، حيث تبقى العلة الأولى خالقا، او بالأحرى الباري، وتبقى العلة الثانية مخلوقا، او البرية، الأمر الذي يجب ان يكون مفهوما من اجل سلامة المنطق الذي يبحث في موضوع كهذا.
التمييز بين الباري والخالق: اما هذا التمييز بين الباري والخالق فيعود الى مصطلح " برا " يعنى خلق الكون من العدم Ex nihilo ويعني ايضا وخاصة خروج فعل خـارج الباري، وذلك بحسب تحليل كلمة الباري تحليلا لغويا ثنائيا، في حين ان فعل خلق في اللغة العربية، واللغات الجزرية الأخرى، وفق تحليل ثنائية اللغة، يعني تحريك الشيء لينتقل من صورة الى صورة جديدة، ولاسيما ان الفلاسفة القدماء، والفكر البدائي بشكل عام، كانوا يقولون ان المادة شيء ازلي يأتي الفكر ليحول هذا الشيء الغامض والنكرة Toh boh الى شيء يستطيع الانسان ان يعطي له اسما.
فعل خلق في اللغة الفرنسية: هذا ونعتقد ان فعل Créerباللغة الفرنسية المشتق من اللغة اللاتينية يعني التكرار والحركة، مثل فعل خلق. وعليه فان الانفجار العظيم نفسه، اذا ما كان قد حدث فعلا، يعود الى العلة الثانية وليس الى العلة الأولى، مما يعني ان الكون بعد الانفجار العظيم لم يأت من العدم، ولذلك نستطيع ان نقول بأنه جاء من مادة سابقة كانت مضغوطة ومكثفة بشكل لا نفهمه، نحن غير المتخصصين، او بالأحرى لا نستطيع ان نتخيله. علما بأننا سوف نتكلم عن كل من العلة الأولى والعلة الثانية بإسهاب، في فقرات تقول ماذا تعطينا العلة الأولى وماذا لا تعطينا اياه. كما سنضع فقرات مماثلة للعلة الثانية.
سنتكلم عن الكون والانفجار العظيم: ولكن قبل ذلك سندرج مقالا بعنوان الكون والانفجار العظيم، هذا العنوان الذي لن يكون مجرد خبر يعطى للقارئ، ولكنه يعطينا اعتبارات Considérations مهمة فلسفية – علمية، تكاد تكون بمثابة بديهيات معرفية، او شيئا مما يسمى الحس العام Sens commun والذي هو من القوى Facultés الأنثروبولوجية، شبه البديهية. ولكن من الآن نستطيع ان نرسم في مخيلتنا صورة لعملنا اللاهوتي والإنساني، حيث نتمكن فلسفيا من معرفة الباري ( تسمية الباري هنا يجب ان تسبق تسمية الخالق). اما معرفة صفات الباري هذا، او صفات الله فلا تأتي عن طريق العقل، وإنما تأتي عن طريق المشاعر التي تتأثر بحاجة انثروبولوجية مطلقة وتعدها حاجة مقدسة ترمز الى اله البشر. هذا وسنرى لاحقا كيف يكون ذلك بشيء من التفصيل، مما يعني ان العقل والمشاعر طريقان يؤديان الى معرفة الله، دون ان نقسم الله. كما سنرى لاحقا.

         

عن العلة الأولى والعلة الثانية /ح2 

في هذا المقال التكميلي سنتطرق الى بعض الاعتبارات Considérations لتعميق علاقة العلة الأولى بالعلة الثانية. فنحن يمكننا، بادئ ذي بدء، ان نلقي سؤالا يقول: ترى هل ان العلة الثانية هي شريكة عمل Coopératrice مع العلة الأولى ( من يعمل مع، بحسب المصطلح اللاتيني) ام هي مجرد منفذة Exécutrice لإرادة وقوانين العلة الأولى، ام هي فقط محققة لتصميم وإرادة العلة الأولىRéalisatrice حيث تعمل العلة الثانية بحسب طبيعتها، ككل الأشياء الجامدة. 

عجز المفردات: وهنا، وعلى الرغم من ان المفردات اعلاه قد تكون صالحة جميعها، بقدر او بآخر، للكلام عن دور العلة الثانية، في علاقتها بالعلة الأولى، الا اننا نرى بأن اية مفردة من هذه المفردات لا تنطبق بشكل كامل Adéquat على حقيقة العلاقة المذكورة، اللهم الا باستثناء عبارة إن العلة الثانية تعمل بحسب طبيعتها. اما هذا العجز، فيعود الى قصور هذه المفردات عن التعبير الدقيق، عن علاقة العلة الثانية بالعلة الأولى، وذلك لأننا أعطينا في كلامنا مجبرين، انطباعا وهميا عن العلة الثانية، وأظهرناها وكأنها شخص بشري، له مثلنا قدرة الاختيار والطاعة لإرادة عليا، هي ارادة الباري او الخالق، اي العلة الأولى، فاقتربنا من الضلال. غير إن عبارة إن العلة الثانية تعمل بحسب طبيعتها تخفف من عجز المفردات الأخرى عن التعبير بشكل كامل عن طبيعة عمل العلة الثانية.
المشابهة: إن المشابهة تعني تشبيه الباري بالإنسان Anthropomorphise غير ان المشابهة حالتان، الحالة الأولى هي حالة انثروبولوجية تتبع قاعدة عامة تقول بأن الانسان يأنسن كل ما عداه، وهو يأنسن كل ما هو من طبيعة اخرى غير طبيعته الانسانية.علما بأن هذه الأنسنة قد تبدأ بأنسنة الفكر ومن ثم بأنسنة الكلمة Logos.
وفي الحقيقة، ان ما نقوم به من عمل فكري، عند كلامنا عن الانسان، وعن الهه، انما يجعل كلامنا عن العلة الثانية، وربما عن العلة الأولى ايضا، كلاما يُشبّه ما ليس انسانا بالإنسان، بعملية فكرية تسمى المشابهة Anthropomorphise. ففي الحقيقة، لكي تكون للعلة الثانية ارادة تنفيذ او مشاركة او ارادة تحقيق متطلبات العلة الأولى، يكون عليها ان تكون كائنا عاقلا وحرا، كما هو حال البشر، في حين ان هذه الارادة غير موجودة في العلة الثانية، وان كانت جينات هذه الارادة الوراثية تخرج من صلبها، ابتداء مع انبثاق اول انسان عاقل Homo sapiens.
هذا، وبما إن الانسان كائن حر يتمتع بقدرة تعدد خياراته، وليس محكوما بالجبرية المادية مثل ما يحدث عندما نتكلم عن الفعل ورد الفعل، نستطيع إن نقول الآن بأن العلة الثانية محكومة بجبرية قوانينها المختلفة، وهي لا تستطيع إن يكون لها أي خيار ناتج عن ارادة وعقل. وبذا لا نستطيع إن نشبه العلة الثانية بالإنسان. علما بأن انسنتنا للعلة الثانية تأتي فقط عن طريق قدرة الانسان على تملك الطبيعة وجعلها خاضعة لعقله وارادته، كما يجعلها تتمتع بقبس من عقله.
وهكذا نرى اعمال الانسان تأتي على شبه عقله، ولاسيما عندما يعمل على طبيعة مطااوعة بطبيعتها الخاصة، أي عندما يعمل على جزء او صورة من صور الطبيعة ( العلة الثانية ). اما حرية الانسان وقدرته على تغيير العلة الثانية، أي المادة ومنها المادة البشرية، فذلك يحدث لأن الانسان مادة تحمل الروح القادر على تعدد الخيارات عنده.
مدى قدرات العلة الثانية: غير اننا وان نفينا قدرة العلة الثانية الشخصية ووجود عامل الاختيار عندها، الا ان العلة الثانية تبقى" علة " وسببا حقيقيا لكل التغييرات التي يجب ان ننسبها اليها، وليس الى العلة الأولى. فقد تكون العلة الثانية الحامل Substrat ومكانا اساسيا Lieu، لقوى الحرية وللقوى الانسانية الأخرى، ولجميع التغييرات والتطورات التي تحصل في الكون، وقد يكون هذا الحامل حيا Animé في طبيعته ، لكن هنا ايضا نحن لا نتكلم عن الوجود المتحقق être en acte، لكننا نتكلم عن الوجود الكامن او عن القدرة على الوجود Être en puissance، بحسب المصطلح الفلسفي الأرسطي.
يجب ان يكون هناك فاعل: ففي الحقيقة، لكي يتحقق الوجود المذكور، بديهي انه يحتاج الى فاعل يخرجه من حالة الامكانية puissance الى حالة الوجود الفعلي، سواء كان هذا الوجود هو الوجود الكوني او الوجود الأرضي، بما في ذلك وجود الانسان. ولما قلنا ان هذا الفاعل ليس هو الباري، لأسباب ذكرناها في صفحات سابقة، فان الفاعل هنا لا يمكن ان يكون الا فاعلا عائدا بشكل مباشر الى القوانين التي سبق ان وضعها الباري في العلة الثانية. ومع ذلك فان العلة الثانية لن تكون فاعلا يعمل بعقله الخاص وبحريته (هذا لا يعني اننا هنا نحدد المعنى الدقيق للحرية )، ولكن القوانين الموجودة في العلة الثانية، هي التي تعمل عملها الطبيعي الذي يؤدي الى التغيير، سواء كان صغيرا ام كبيرا. ونقول اكثر: إن الطبيعة تعمل وتصبح فاعلا حقيقيا من خلال الانسان وقدراته الكثيرة.
حدود دور الباري: ويقينا ان الباري لم يعد يتلاعب بالعلة الثانية، بعد ان براها (خلقها )، لأي غرض كان، بعد ان خلق العلة الثانية: الكون وما فيه. ومع ذلك نحن نجد في الكون وعلى ارضنا تغييرات كثيرة ومستمرة، وحالة ثابتة من التطور في مجال الحياة، الأمر الذي يدل على ان ما حدث في الكون وفي عالمنا لم يأت نتيجة خلق الباري المباشرة، وإنما جاء نتيجة تغييرات وتطورات حدثت في عالمنا، جراء عمل العلة الثانية وقوانينها المصاحبة لوجودها، ومنها قانون وجود الروح الانساني.
وهكذا نسمح لأنفسنا ان نتكلم عن التحرك الذاتي للكون وللعالم ce qui meut sans un sujet extérieur à soi فهنا الحركة لا تأتي نتيجة عامل خارج العلة الثانية بل من داخل العلة الثانية ومن صلب قوانينها.علما بأن العلة الثانية، وكما سبق ان ذكرنا، هي الأخرى لا تتصرف كشخص له ارادة وحرية الاختيار، لأنها ليست شخصا طبيعيا او معنويا، كأية مؤسسة معنوية.
في رأينا الشخصي: وعليه، وفي رأينا الشخصي، نرى ان قانونا مهيمنا على العلة الثانية، يستدعي قانونا آخر، وهكذا، وخلال فترات زمنية طويلة تتحقق تغييرات ذاتية Auto mutation عن طريق القوانين المعقدة والمتشابكة الموجودة في العلة الثانية، مع ملاحظتنا بأن محصلة كثير من افعال الطبيعة هي تطور باتجاه عملية تصاعدية حول ما هو اكمل، وليس تطورا عشوائيا الا في الظاهر، وذلك بسبب وجود قانون آخر له دوره الفاعل، يسمى قانون الاحتمالات Loi de possibilités.
ليست علة عشوائية: ومن هنا نستطيع ان نجزم، بأن العلة الثانية، ليست علة عشوائية، حتى وان لم تكن هي نفسها تختار افعالها وتحدد نتائج هذه الأفعال، وإنما تجد قوانين البيئة الطبيعية جاهزة امامها، لا بل ملاصقة لها، عندما تكون هذه البيئة صالحة لعمل معين.فالعلة الثانية تسمى علة،ولذلك لا يمكننا ان ننظر اليها نظرة سلبية، اي كمكان تتحقق فيه التطورات الكامنة، مما يعني هنا ان البيئة، هي جزء من الطبيعة و تعمل خاصة عند توفر الشروط او الحد الأدنى منها، على الأقل. اما هذا الالتباس فيمكن ان يحدث هنا بين العلة الأولى والعلة الثانية عندما نعطي نحن البشر الأولوية للعلة الأولى لأي عمل دون ان يكون هناك مبرر. فنحن البشر نعود حقا الى العلة الأولى من حيث المبدأ، ولكننا نعود الى العلة الثانية من حيث الواقع، مع امكانية التباهي بالعودة الى العلة الأولى عن طريق العلة الثانية وبواسطتها.
نحن نتعامل مع الله انثروبولوجيا: ومع هذا، فقد نتكلم نحن البشر عن الله كانسان، ليس لأننا نريد ان نجعل العلة الأولى، شبيهة بنا، نحن البشر، فنحط بذلك من قدرها، ولكن فقط لأننا نتعامل مع العلة الأولى كبشر، ولا نملك طبيعة اخرى نستطيع من خلالها، ان نتكلم عن الأمور التي تختلف عن طبيعتنا، سوى ان نفهم طبيعة من يختلف عن طبيعتنا (طبيعة الباري) على قدر استطاعتنا. ولهذا علينا ان نتعلم أن لا نتمادى في هذا التشبيه الذي يجب ان تكون له حدود.
نحن نأنسن العالم المادي: وفي الحقيقة نحن لا نأنسن العالم الالهي فقط، لكي تصبح معرفته ميسرة لنا نوعا ما، ويكون التعامل معه ميسرا ايضا، ولكن نتعامل مع العالم المادي وكأنه جزء من كياننا. ونتعامل مع الهنا من خلال فلسفات متعددة اقتصرت على العالم المعرفي، بشكل عام، منذ ظهور فلسفة الفيلسوف الفرنسي ديكارت والفيلسوف الالماني عمانوئيل كانط، ولكننا نجد ان الفلاسفة لا يلامسون طبيعة العلة الأولى بفلسفاتهم المذكورة، بل نراهم يلمسون العلة الثانية بمعرفتهم الانسانية الأنثروبولوجية فقط، في حين ان توما الاكويني يدعي بأن منهجيته تلامس الذات الالهية، عندما ينسب اليها صفات بشرية، الأمر الذي يشكل فارقا عظيما، لا بل هوة عميقة بين المناهج الانطولوجية والمناهج الأنثروبولوجية. اما ادعاء المتصوفة بأنهم يستطيعون إن يلامسوا ويعرفوا الطبيعة الالهية، فذلك خطأ آخر يأتي من عدم معرفة هؤلاء المتصوفة بعلم النفس الأنثروبولوجي.
القس لوسيان جميل

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1017 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع