سعد ناجي جواد
في ذكرى ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨كيف حشر اسم عائلة ناجي جواد الساعاتي في احداث قصر الرحاب الدامية
لم تكن ليلة يوم الأحد على الاثنين (١٤/١٣) تموز ١٩٥٨ ليلة اعتيادية في دارنا، فلقد كان كل ساكني الدار ( دار والدي المرحوم ناجي جواد الساعاتي) في منطقة عرصات الهندية/الكرادة الشرقية في بغداد، على غير المعتاد، يشهد نشاطا ملحوظا. فالانوار مشتعلة والجميع يحزم اغراضه استعدادا للسفر الى مصيف صلاح الدين/ أربيل في كردستان العراق، في سفرة قصيرة كان والدي رحمه الله قد رتبها لنا بمناسبة العطلة الصيفية. وبالطبع فان طريقة السفر الأكثر شيوعا داخل العراق في تلك الأيام كانت بالسيارة. في الساعة الثالثة صباحا بدانا الرحلة، والدي خلف المقود وبجانبه زوجته المرحومة سعاد نافع السراج وشقيقتي هيفاء وشقيقي رعد وانا. اما شقيقنا الأكبر شوقي فلقد فضل البقاء في بغداد للاستمتاع مع صحبه بالسيارة الجديدة التي اشتراها له المرحوم الوالد، في حين ان شقيقنا الاخر قيس كان يدرس في إنكلترا آنذاك. ( ولم تكن العائلة قد اكتملت بعد بولادة اختينا المرحومة ايّام وحلم).
بعد وقت قصير من المسير، و عندما كنا نوشك على مغادرة محافظة بغداد، صادفنا رتل عسكري كبير قادم اليها، اصطفت بعض قطعاته على جانب الطريق الضيق اصلا. وفِي احدى نقاطه وضعت سيارتان عسكريتان أضاءت مصابيحها الخافتة وبطريقة تجبر السيارة المغادرة لكي تسير ببطء شديد للمرور، وهذا ما فسره والدي فيما بعد على انه كان لتسجيل ارقام السيارات المغادرة وتحسبا لمنع اي من رجال النظام السابق المهمين من المغادرة. مع بزوغ الشمس ونحن نقترب من كركوك قال والدي دعونا نفتح المذياع لنستمع الى آيات من القران الكريم الذي كانت إذاعة بغداد، ولا تزال، تستهل به برامجها. وكانت المفاجاءة ان انطلق من المذياع صوت هادر وصراخ شخص يشتم الملكية ويدعو الناس للخروج لسحقها، حتى ظن والدي ان هذه كانت إذاعة طارئة وليست إذاعة بغداد، الا ان محاولاته لإيجاد إذاعة بغداد التي يتصورها لم تجد نفعا، حيث أعلن الصوت الصادر من المذياع ان هذه هي إذاعة بغداد، و ظل يكرر ذلك، وألحقها ببيانات الثورة والإعلان عن مصير العائلة المالكة. لقد كان رد الفعل الأولي على والدي وزوجته هو الابتهاج بالحدث، الا ان الإعلان عن مقتل جميع أفراد العائلة المالكة رسم على وجه زوجة ابي مسحة حزن او كآبة و لاذت بالصمت. ولم نكن نعلم السبب، حيث وعلى الرغم من انه كان قد مر على زواجها من والدي اكثر من سنين ثلاث، نجحت فيها ان تكون قريبة منا وان تقربنا منها، و بطريقة تكاد تقترب من حنان والدتنا الغالية التي انجبتنا، الا اننا لم نكن نعلم ان ابنة خالتها المرحومة هيام محمد الحبيب. ابنة المرحوم أمير ربيعة، كانت زوجة الوصي على العرش المرحوم الامير عبد الاله، والتي اصبحت تلقب بعد ذلك الزواج بالأميرة هيام. كما لم نسمع في يوم من الأيام انها ذهبت لزيارتها او تحدثت معها او تبجحت بقرابتها لها. عندما وصلنا الى مصيف صلاح الدين اقمنا في الفندق الكبير فيها، والذي كان مكتضا بالمصطافين من أبناء بغداد، و كان من بينهم بعض عوائل رجالات العهد الملكي الذين كان الارتباك واضحا عليهم. ثم غادروا الفندق فجاءة، ظلت الوسيلة الوحيدة لاستقصاء الأخبار، بالنسبة للكبار طبعا، هي المذياع اولا، وخاصة نشرة الساعة الثامنة مساءا من إذاعة آلبي بي سي العربية، و ثانيا من القادمين الجدد الى المصيف الذين تَرَكُوا بغداد بعد الثورة. و رغم صغر سني آنذاك الا انني لاحظت أمورا إختٓزٓنٓتها ذاكرتي بنوع من الاسى. فمثلا في احدى المرات كان والدي جالسا مع صديق مقرب منه جدا وحضر صديقا لهما كان قد غادر بغداد في نفس اليوم ، وبعد الترحاب به بداءوا يسألونه عن ما جرى وبجري، وكان هو يسرد عليهم الأحداث التي عاشها، وبسعادة كان يعدد الأشخاص الذين تم قتلهم و تصفيتهم،( ظهر فيما بعد ان ما كان يسرده نابع من مخيلته ومن الإشاعات التي كانت تنتشر)، في حين كان صديق والدي يسال عن أشخاص اخرين ولماذا لم تتم تصفيتهم لحد الان. ولما تاسف والدي لسماع خبر قتل شخص كانت تربطه به علاقة طيبة، هب صديقه في وجهه قائلا سيظل قلبك طيبا وتدافع عن هؤلاء الخونة. وفِي حادثة اخرى اصطحبني والدي معه في مساء يوم ما لملأ السيارة بالوقود، في محطة الوقود التقى بصديق اخر ظهر انه قد وصل لتوه من بغداد، وبعد تبادل كلمات الترحاب والاشتياق بدءا الرجل يسرد لابي ما شهده، وبدون سابق إنذار استل من جيبه صورة فوتغرافية لجثة ممزقة مسجاة على الطريق العام، أشاح والدي بوجهه عنها وقام بنفس اللحظة بسحبي خلفه حتى لا ارى هذا المنظر المقزز. وكانت الصورة لجثة المرحوم نوري السعيد.
لم نكن نعلم حتى تلك اللحظة ان اسم والدي وزوجته قد بدا يُتٓداول في بغداد عن طريق إشاعة سرت تقول ان زوجة ابي كانت تقضي ليلة الثورة في قصر الرحاب، مقر إقامة العائلة المالكة رحم الله جميع أفرادها.
بعد ان عدنا آلى بغداد بعد أسبوع من الاصطياف في ربوع شمالنا الجميل والحبيب وبين ابناءه الذين أُعجِبتُ بطيبتهم ايما إعجاب، عدنا الى بغداد. كان اول من نقل الإشاعة الى ابي شقيقي الأكبر شوقي ( الدكتور)، الامر الذي أحدث في نفسه صدمة كبيرة، اذ انه تصور ان حاسديه و منافسيه او بعض الرافضين لزواجه الثاني هم من بث هذه الأكذوبة لتلويث سمعة عائلته، وفِي الحقيقة فانه في ذلك الوقت لم يكن هناك اي تفسير آخر. وبقي والدي مهموما ذلك اليوم لهذه الإشاعة الكاذبة والتي تمس سمعته بل وشرف عائلته.، وظل يردد هل يمكن ان يكون هناك أناس مرضى نفسيا لهذا الحد؟ في اليوم التالي لعودتنا ذهبت زوجة ابي لزيارة عائلتها، و سرعان ما عادت لتخبر والدي بالخبر الذي حل له اللغز. وسردت له القصة التي اصبحت متداولة كثيرا فيما بعد، وهي ان ابنة خالتها هيام قد نجت من الموت بإعجوبة اثناء مجزرة قصر الرحاب صبيحة يوم الثورة، وعندما اكتشف بعض أفراد القوة المهاجمة انها على قيد الحياة سألوها عن هويتها فقالت انا سعاد نافع السراج، وتم نقلها من موقع المجزرة على هذا الاساس. وقالت ان منقذيها نقلوها الى المستشفى اولا ثم الى الى دارنا، اي دار والدة زوجة ابي، خالة المرحومة هيام، في العلوية، قبل ان تأتي والدتها لتأخذها الى دارها. الامر الملفت للنظر ان كل الذين تداولوا هذه الحادثة، ومن ضمنهم الباحثين المقتدرين، لم يكلفوا أنفسهم السؤال عن سبب اختيار المرحومة هيام لاسم زوجة ابي، في الوقت الذي كانت تستطيع فيه ان تذكر اي اسم اخر غير معروف. او اسم قريبة اخرى، لا ان تذكر اسمها الكامل ، وتفسيري انا، وبعد سنين طويلة، وكنت قد ذكرته للمرحومة زوجة ابي و وافقتني عليه، هو ان زوجة ابي كانت متميزة بين أقرانها وبالأخص قريباتها، اللواتي كن ينظرن اليها نظرة تقدير واعجاب، ويغبطنها على اصرارها على مواصلة دراستها وحصولها على شهادة البكلوريوس من دار المعلمين العالية (كلية التربية/جامعة بغداد فيما بعد)، في حين ان تقاليد الإمارة كانت لاتسمح للبنات بالدراسة اكثر من المرحلة المتوسطة. كما انها، وهذا هو الأهم بالنسبة لهذه الحادثة، كانت صاحبة موقف سياسي وطني ومعارض لسياسة الأحلاف الملكية، وشاركت في تظاهرة ١٩٤٨ التي أسقطت معاهدة بورتسموث، لا بل انها كانت في طليعتها و واحدة من طالبتين رفعتا اللافتة التي تقدمت المظاهرة، وانتشرت صورتها وهي تفعل ذلك في بعض الصحف، و تداول زملائها وأقربائها الحديث عن شجاعتها، حتى وان اختلف البعض مع موقفها. وعندما اقترن والدي بها كان بعض المعارضين لزواجه منها من الاقارب والاصدقاء يذكرون هذه الحادثة كمثلبة، حاشاها، عليها. وبالتاكيد فان هذه المواقف جعلتها في تعارض مع النظام الملكي، بدليل انها عندما أنهت دراستها الجامعية لم تعين كمدرسة في مدرسة إعدادية كما تستحق، و خُيرٓت بين ان تذهب للتدريس في مناطق نائية يصعب جدا على شابة صغيرة ان تعيش فيها، او تقبل التعيين بدرجة أدنى كمعلمة في المدارس الابتدائية، وهذا ما حصل. ما اريد ان أقوله هو ان المرحومة هيام لم تذكر الاسم اعتباطا، بل لان ذاكرتها كانت تختزنه وتختزن مواقف ابنة خالتها سعاد نافع الوطنية والمعارِضٓة، بحيث عندما واجهها هذا الموقف العصيب والمميت ظنت انها اذا ما ذكرت هذا الاسم فسيتعرف عليه الثوار ولا يقتلونها. انا لا ادعي هنا ان نجاتها كانت بسبب الاسم ولكن أقول انها تصورت ذلك. المهم ان القدر انجاها بأعجوبة، و ربما كان ذلك ليبقي على شاهد عيان على هذه المجزرة الدموية اللا إنسانية وغير المبررة بكل المقاييس. وعاشت المسكينة الأميرة هيام فترة ليس بالقصيرة وهي تعاني من ما حصل صبيحة ذلك اليوم، وكانت في الأيام الاول، كما سمعنا من العائلة، لا تستطيع ان ترى منظر اية اكلة تطبخ بصلصة الطماطم حيث تبدأ بالصراخ قائلة هذه دمائهم. ولكن رحمة الله ونعمة النسيان مكناها من تجاوز هذه المِحنة، و اقترنت بعد فترة بابن عمها، ورزقت منه بالاطفال،الذين حرمت منهم في زواجها الاول، ليملاوا عليها حياتها. نسال الله ان يتغمدها برحمته الواسعة وان يتغمد والدي وزوجته المربية الفاضلة سعاد نافع بواسع مغفرته ورحمته وان يجعل مثواهما الجنة إن شاء الله.
2129 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع