ضرغام الدباغ
صفحة ومأثرة لا تنسى
شهد عام 490 قبل الميلاد، محاولة فاشلة للفرس لاحتلال اليونان، وكان قد تم لهم قها احتلال أجزاء من آسيا الوسطى (تركيا اليوم) التي لم تكن فيها كيانات سياسية، بل قبائل متناثرة، وأعراق مختلفة، جندهم الفرس في مساعيهم التوسعية، وجاؤا بجيش جرار قوامه عشرات الألوف من جنود الأمم التي اجتاحوها، (يفعل الفرس هذا وبنفس الأسلوب حتى يومنا هذا) ومعهم أفيال ضخمة لم يشاهدوا الأوربيون لها مثيلاً من قبل، وحيوانات متوحشة واختاروا مخلوقات تثير الرعب في قلب خصومهم وبشراً ذوو خلقة مشوهة غريبة. وليواجهوا جيشاً يونانياً صغيراً بعدد أفراده، بالمئات، يفتقر إلى العتاد الذي جاء به الفرس، ولكنهم مصممون على الانتصار، والتضحية حتى آخر فرد منهم، وأبلغ القائد الاسبرطي جنوده... أننا هنا لنقاتل حتى الموت دفاعاً علن الوطن كما يأمرنا القانون ... لا تهابوا الموت، فسيكون العدو أمامكم صغيراً، وتهزموه .. الهزيمة أو النصر هو بأيديكم وفي صدوركم ..
قاتل الأسبرطيون (اليونانيون) قتالاً مجيداً، وهزموا الفرس.. الذين خسروا 20 ألف من جنودهم ومرتزقتهم، فيما لم يخسر الاسبرطيون سوى 300 مقاتل بما في ذلك الجندي الباسل الذي تصدى ليبلغ شعبه برسالة النصر .. من أجل أن يفرح الناس، والفرح هو شعور إنساني بالخلاص من شر مستطير، أستأذن هذا الجندي الشجاع قائده، وأسمه فيليبيدس (Pheilippides) مضى يعدو والشوق يسبقه .. لم تكن هناك جائزة تنتظره، ولا ميدالية ذهبية أو فضية أو برونزية، بل قلبه العامر بالنصر .. بيده رسالة وسيف وفي فمه وعلى لسانه بيان البيانات .. بيان النصر على الهمج المعتدين، ومضى يعدو .. ويعدو، لا تكاد أطراف أصابع قدميه تلامس الأرض، قلبه يطير بفرحة النصر وبإبلاغ الرسالة، روحه تطير شعاعاً لتبلغ قومه وأهل بلاده، عيناه على الأفق حيث وطنه، حتى بلغ العاصمة يعدو دون توقف وسط دهشة الناس ترى ماذا يريد هذا الجندي أن يقول ...؟
لم يتوقف هذا البطل إلا أمام نواب الشعب المجتمعون وعلى رؤوسهم الطير .. ليقول جملة من كلمتين فقط " لقد أنتصرنا ... لقد أنتصرنا nenkekamen ...(باليونانية)" بيده رسالة وسيف، سقط بين أيدي قادة بلاده وممثلي الشعب، سقط هذا الجندي الشجاع ميتاً من فرط التعب والإرهاق.. والرسالة الكبيرة الثقيلة التي يحملها ..
تم قياس المسافة التي ركضها هذا الجندي فبلغت (42 كيلومتر، و198 متراً) من منطقة ماراثون وحتى مجلس نواب الشعب (البرلمان) في أثينا .. وفي أول بطولة للألعاب الأولمبية عام 1895 التي أقيمت في اليونان، كانت مسابقة ركضة فيليبيدس ضمن جدول الألعاب، وبدأ السباق من ميدان المعركة قرب قرية ماراثون وينتهي في ساحة الأكروبوليس حيث مجلس نواب الشعب القديم، وهي نفس المسافة التي قطعها فيلبيدس، ومن بدائع الصدف أن يفوز الرياضي اليوناني سبيريدون لويس قاطعاً المسافة في 2 ساعة، 58 دقيقة، 50 ثانية، ليسجل أول ميدالية ذهبية في ركضة المارثون بأسم اليونان .. وليطلق على أول ملعب أولمبي في اليونان أسم (ستاد سبيروس).
(الصورة: الجندي الاسبارطي فيليبيدس يحمل السيف والرسالة)
وصرع في المعركة القائد ليوندارس بعد قتال بطولي وجنود قوات الطليعة وعددهم 300 جندي فقط، ولم ينجو سوى اثنان ... أحدهم شنق نفسه وأنتحر إذ خشي أن يعتقد الناس أنه نجا لجبنه، والآخر لاحق فلول الفرس وقاتلهم حتى قتل في معركة بلاتيه.
كان الناس في أسبرطة على أهبة الاستعداد لكي يفنوا عن بكرة أبيهم، وفي هذه الأجواء الملتهبة وقف رجل في الدينة يشير على مواطنيه بالاستسلام، فما كان من الناس إلا وأن قفزوا عليه وقتلوه في اللحظة والتو، وسارت النساء حتى بيته، ورجموا زوجته وأطفاله بالحجارة حتى الموت ..!
اليوم في منطقة ماراثون هناك نصب للجندي البطل حامل رسالة النصر التي قدم لها حياته ..
ونصب يقول " أيها المار من هنا ... أذهب وأخبر الشعب .. أننا متنا هنا حتى آخر رجل منا كما يأمرنا الوطن والقانون ".
الخونة والجبناء هلكوا ورجموا من أبي رغال وحتى الخائن الاسبرطي، ولكن الأبطال لهم لوحات وتماثيل وأسماء خالدة، وبطولة يحيونها حتى اليوم ..
2188 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع