القس لوسيان جميل
القوانين الكونية التي تسود عالمنا الكوني والأرضي والإنساني/القسم الثاني
تابع ...
بعض القوانين: وعليه نرى ان نذكر بعض هذه القوانين التي تهيمن على عالمنا الارضي، لكي نفهم من خلالها حقيقة القوانين التي تعمل على مستوى الكون البعيد، ولكي يصبح سعينا العلمي معقولا. علما بأن هذه القوانين لا تعصى على الفهم الانساني، لأنها ليست خارج ادراك البشر، على الرغم من وجود بعض الصعوبة لفهم مثل هذه القوانين احيانا كثيرة، بسبب عمقها الفكري وجدتها على الانسان. وعليه سندون ادناه بعض القوانين التي نجدها في عالمنا الأرضي، لنرى اذا ما كانت تعمل نفس العمل الذي نجده في الكون، او على الأقل تعمل عملا مماثلا Analogue له. علما بأننا سوف نضع تدوين القوانين المذكورة على شكل عناوين فقرات، ليتسنى لنا ان نتكلم عنها بشيء من التفصيل.
الطبيعة المادية لعالمنا: من المعروف ان العالم، ولاسيما العالم الفلسفي، ومنذ اقدم العصور والى يومنا هذا، قد تكلم عن الطبيعة المادية لعالم الأرض، وأحيانا للكون كله، سواء تكلم فلاسفتنا او علماؤنا من منطلقات فلسفية قديمة ام حديثة ومعاصرة، وسواء تكلموا من منطلقات علمية، او تكلموا من منطلقات تزاوجُ بين الفلسفة والعلوم، ولاسيما العلوم المعاصرة. غير أننا نعرف ايضا ان علماءنا وفلاسفتنا غير متفقين على شكل الطبيعة المادية لكوننا ولعالمنا المادي، لاسيما وهم في حالة سعي مستمر لمعرفة طبيعة المادة هذه.
دور الأديان: اما الأديان فقد عملت لنفسها عقيدة او شبه عقيدة تقول ان الانسان مركب من جسد مادي وروح، او نفس روحية لا تموت بموت الانسان، لكنها تنتقل الى حيث عالم الأنفس ( الأرواح ) الذي لا نعرف طبيعته بشكل مطلق، ولا نعرف اذا ما كان مثل هذا العالم الذي قال به الوثنيون القدماء ايضا، موجودا ام لا.
طبيعة لاهوت الكنيسة: ويقينا أن لاهوت الكنيسة قد تم وضعه منذ زمن بعيد جدا، ولاسيما خلال القرون الوسطى، حيث ان هذا اللاهوت الثنائي النظرة الى العالم، لم يتغير جوهريا الى يومنا هذا، ولاسيما في مسألة الحفاظ على ثنائية المادة- الروح، وعلى وجود عالمين هما: عالم المادة وعالم الروح، او عالم الله، حيث الله والملائكة وأنفس البشر الصالحين، في حين ان الطالحين اوجدوا لهم مكانا خاصا بهم يسمى جهنم. هذا، مع علمنا بأن جهنم ـ جهنوم كان واديا في اطراف القدس تلقى فيه النفايات وتحرق، فنقله كتاب العهد الجديد، الى عالم ما بعد الموت. اما بعد ذلك، فإننا نرى ان تعصب الكنيسة بالحفاظ على عقائدها، امر اجتماعي Sociologique كانت الكنيسة تعتقد انها تستطيع من خلاله، ان تحمي ايديولوجيتها من خلال التلويح بعالم ما بعد الموت، وبالجنة والنار.
فلاسفة العالم القديم: هنا نميز بين فلاسفة العالم القديم الذين يشتركون في اغلبهم في القول بأن المادة عنصر سلبي وخال من المعنى، وان من يعطي لهذه المادة حقيقتها هو الصورة Forme، بحسب الفيلسوف ارسطو. اما الفيلسوف فيثاغورس فيرى هو الآخر ان طبيعة الكون مادية بنوع المادة التي كان يتكلم عنها القدماء. لكن فيثاغورس، وعلى نهج الفلاسفة السابقين له: طاليس وانكسامندريس و هيروقليطس و انكسيمانس وغيرهم، كان يرى ان هذه المادة، التي يمكن ان نسميها نحن بالمادة الأولى، لم تصبح واقعا متعينا الا بعد ان قبلت صورة من المونادة الخلاقة، جعلتها شيئا له اسم خاص بها، مثل شجرة او بقرة او انسان. مع وجود اختلاف بين فيلسوف وآخر من الذين ذكرناهم، بشأن رؤيتهم للمادة.
طبيعة المادة الأولى: ولكن هل ان المادة الأولى لها اسم ويمكن ان نصنفها وان نعرّفها بناء عليه؟ لا نعتقد ذلك، لأن المادة الأولى هي المادة الأولى فقط، ولا اسم لها تحت اية صورة وجدت. وعليه نرى فكريا، وليس علميا، ان المادة الأولى تبقى متصلة بصورتها الأخيرة، كما انها تبقى مادة خفية، يقول العلماء انها واحدة تحت اية صورة كانت. ومن هنا نرى فكريا ايضا، ان المادة الأولى هي العامل الثابت الذي لا يتغير ولا يفنى ولا يقبل القسمة ولا يحصل فيه اي تقطع، لأن التقطع يعني الفناء. كما ان المادة الأولى تبقى وجودا ذهنيا مفترضا فلسفيا، ومن باب الحس العام، الذي هو اساس كثير من الفلسفات. في غير ذلك فنحن نرى ان اي تقرب من الروح يعني التقرب من صفات المادة الأولى، هذه الصورة من المادة التي نراها ايضا سببا للذكاء وللعبقرية، بموجب قانون الأب تيار ده شاردن، وبموجب تطبيقنا الخاص لصفات المادة الأولى، والتي يمكن ان تكون اعلى مرتبة من مراتب الوجود، يمكن ان نسميها الروح الذي " يزيد حيثما تنقص المادة ". ولذلك سبق ان قلنا ان الذكاء قد يكون ناتجا عن نقص المعوقات المادية للمعرفة، وان العبقرية هي نقصان خاص في المعوقات ومثبطات المعرفة وزيادة الروح، اي الاقتراب من خصائص المادة الأولى. فهل هذه فلسفة؟ ربما، ولكنها فلسفة مدعومة بعلم الحياة La biologie، مما يقرب هذه الفلسفة من العلم حقا.
المادة الحية: ويقينا اننا لن نكون مخطئين اذا ما قلنا ان المادة الأولى كيان حي، كما كان بعض الفلاسفة يعتقدون بذلك. فإذا كانت المادة حية، فهذا يعني انها مادة غير قابلة للفناء، كما يقول لافوازيه Lavoisier. علما بأننا يمكننا ان نفترض ان المادة الحية موجودة كحامل Substrat لجميع الصور المادية، وأيضا كعامل يقي العالـم المادي من التقطع والزوال.
نبقى مع الفلسفة اليونانية: فالفيلسوف انكسامندريس وهو الفيلسوف اليوناني الثاني بعد طاليس، كان يعتقد ان المادة هي التي اعطت كل شيء لعالمنا، سواء كان هذا الشيء جامدا ام حيا، لكنه كان يعتقد ايضا، ان أصل الأشياء هو مادة غير محددة، تتحدد باكتساب صورة معينة، هذه الصورة التي يمكن ان تأتيها منذ بداية الكون، بعد الانفجار العظيم، من صلب المادة غير المحددة نفسها، كما تقضي به منهجيتنا الأنثروبولوجية وبعض الدراسات.
تحول ذاتي للمادة الأولى: Auto conversion de la Matière première. ويقينا ان قولنا السابق يعني ايضا، بأن المادة الأولى تحولت" ذاتيا " بعد الانفجار العظيم، بكذا ملايين او مليارات من السنين، الى منظومات مختلفة وبدائية، مما يعني ان الانفجار العظيم، كان للمادة الأولى بمثابة فاعل داخلي وذاتي ( العلة الفاعلة )، وهذا الفاعل الداخلي، لم يأت للمادة الأولى من خارجها، بل من داخلها، حيث صار العالَم من ذلك الحين متأثرا بذلك الانفجار، الذي اعطى الصورة الأولى، او الصور الأولى للمادة التي بقيت على وضعها الأول، ما عدا، انها اختبأت تحت الصور المختلفة التي نشأت بفعل الانفجار العظيم، كما صارت المادة، قادرة على خلق صور كونية وأرضية، لأن اية صورة من صور المادة صار ممكنا ان تكون العلة الفاعلة لظهور صور اخرى، مادية او كيميائية، دون اي تدخل جديد، لا للمادة الأولى ولا للباري، وصار خروج الصور المادية من صورة الى اخرى معقولا، ولا يحتاج لتدخل الباري، الذي يبدو انه يكتفي بإيجاد الكون وقوانينه، من العدم Ex nihilo.
بعد هذا ماذا نقول؟ نقول ان ما اتينا على ذكره ليس علما خالصا، ولا هو حتى نظرية علمية، وإنما هو اقتباس لبعض العلوم والنظريات الأرضية، عن المادة بشكل عام، وعن المادة الأولى بشكل خاص. كما اننا نعتقد اننا بكلامنا هذا نعمل نوعا من المزاوجة بين بعض العلوم، وبين بعض الفلسفات، ومنها الفلسفة الأرسطية، بشكل خاص، هذه الفلسفة المسماة بالواقعية منذ ان رفض ارسطو فلسفة افلاطون المثالية.
استدراك وإضافة:غير اننا هنا، نستدرك ونضيف قائلين: ترى هل يمكننا ان نتكلم عن نوع من الاستلاب Aliénation حصل للمادة الأولى، باختبائها تحت الصور المادية المتعددة؟ وكذلك بهبوط المادة الأولى الى مرتبة الكائنات الجامدة، تحت تأثير الحرارة الشديدة مثلا، او بتأثير اي عامل آخر؟ اما اجابتنا الخاصة فتقول: عند بثينة الخبر اليقين. وعليه اذا كان الجواب يأتي بالإيجاب، فهذا سوف يعني ان المادة الجامدة ليست مادة مستقلة عن المادة الحية، وإنما تأتي من صلب المادة الحية اصلا، بعملية تدهور او بعملية استلاب، تمهيدا لعملية اخرى، يمكن ان نسميها عملية كسب واسترجاع Récupération ما فقدته عند تحويلها الى مادة جامدة، لها صورة محددة وقابلة لتأخذ اسما خاصا بها، يعطيه اياها الانسان، كما تكون قابلة لاكتساب صورة اخرى وأخرى الى ما لا نهاية تقريبا، او الى الحد الذي تعجز فيه المادة عن اعطاء صور اكثر لعالمنا الأرضي.
مادة واحدة في بداية الكون: فهكذا اذن يمكن ان نتخيل، وان فلسفيا، بداية الحياة المادية، نحن الذين لسنا مختصين بعلوم الحياة، ولا بأي علم تجريبي آخر. فإذا صح ما نقوله، فإننا كمفكرين لن نرى انفسنا امام مادتين اوليتين في الكون، بل امام مادة واحدة، هي المادة الأولى التي تحولت الى مادة قادرة على ان تأخذ صورا كثيرة جدا، تكاد تكون غير متناهية، كما اسلفنا قبل قليل، في حين تبقى المادة الجامدة قابلة لتغيير صورتها، من مادة الى اخرى، عندما تنخرط في مسيرة الحياة في تطورها الحياتي، مبنية في بداياتها على المادة الأولى، ثم على مادة حية قادرة على التطور الحياتي، وهي في طريقها الى ان تصبح " انسانا " مرورا بسلسلة الكائنات النباتية والحيوانية التي سبقت ظهور الانسان. ومن هنا نحن لن نتكلم ابدا عن صدفة تكون الكون، لكننا نتكلم فقط عن الصدفة المفترضة في قانون الاحتمالات الذي يخضع لحسابات غير دقيقة، لكنه قانون فعال، ولا شيء للعشوائية فيه.
اشارات قد تغني موضوعنا: وهنا نقول: من يدري! لعل المادة الأولى التي قال بها الفيلسوف انكسامندريس اليوناني، والتي لا تفنى ابدا، هي التي تحمل جميع الصور المادية، كما انها هي نفسها التي يفتش عنها الفلاسفة وعلماء الفيزياء والكيمياء وعلمـاء الحياة العظـام Les biologistes. غير اننا، في هذا المقال، وربما في غيره ايضا، لن نذهب ابعد من ذلك في الافتراضات،ونكتفي بما هو ظاهر من المادة، وقابل للتحقق Vérification، باستثناء حالات قليلة معينة.
العلاقة بين المادة والروح: فالمادة الأولى اذن هي حاملة الروح الأزلي الذي يحمل جميع الصور المتغيرة، هذا الروح الذي يتبع قاعدة الاب تيار ده شاردان الذي قال: حيث تزيد المادة ينقص الروح وحيث يزيد الروح تنقص المادة، الأمر الذي يفيدنا في ان نرى في المادة الأولى الحية الروح في صفائه النقي، والذي يصاحب الصور المادية بقدر ما تستطيع ان تحمله اية مادة من الصور المتعاقبة. وهكذا يصبح الروح بحسب هذا التحليل مصاحبا للمادة الكونية، حيث يصبح بعدا من ابعاد هذه المادة. ومن يدري! فقد يكون ما نسميه الروح هو المادة الاولى نفسها، والذي قال عنه الفيلسوف هيجل العميق جدا في فلسفته، الى حد اللامعقول؟ ولكن هل من لا معقول في الفلسفة وخيالاتها؟!!!
اما المشكلة كلها فهي مشكلة إن نعرف ما اذا كان الروح الذي نتكلم عنه هو روح ووجود قائم بذاته ( كينونة روحية صرف ) ام اذا كان الروح الناقد ( عمانوئيل كانت ) غير موجود الا في عقل ومشاعر الانسان. إن من يعمل في هذا المجال، لابد إن يعرف إن العلماء واللاهوتيين غير متفقين على أي من الطرحين اعلاه. كما انهم غير متفقين حول اذا ما كان الروح الذي نجده عند الأحياء ومنهم بشكل خاص الانسان نفسه مستمدا من الروح الواحد الذي يتكلم عنه فيثاغورس الفيلسوف الرياضي ويتكلم عنه الفيلسوف هيجل، وتتكلم عنه الكنيسة، ام انه روح يعود فقط الى الظاهرة الأنثروبولوجية التي تتكلم عن الروح بصفته بعدا من ابعاد المادة، ومعنى كل مادة من المواد. كما لا نعرف اذا كان هناك شبه ولا اقول تماثل Analogie بين روح الباري او العلة الأولى وبين ما نجده في العلة الثانية من ابعاد.
من جانبي:علما بأنني اعترف بأني انا نفسي لم اجد الجواب القاطع في هذه المسألة، حتى بعد ان اكون قد قررت ان لا اتكلم عن الروح سوى الروح الذي يظهر لنا في اية مادة والذي يعد بعدا من ابعاد المادة نفسها ومعناها او ماهيتها، اذا جاز لنا هذا التعبير، هذا واتجاسر ان اقول: بأني ارى نفسي موفقا في اختياري هذا، بحسب القاعدة الأساسية التي تقول بأن لا احد يستطيع ان يعرف شيئا عن طبيعة الله، سوى انه موجود.
شهودنا: هنا لا يسعنا سوى ان نستشهد ب/ فيثاغورس وبالقديس توما الأرسطي الفلسفة، كما نستشهد بـ/ هيجل، وان كان هؤلاء جميعا يعودون الى الفلسفات القديمة والحديثة المغرقة في الأيديولوجية. ومن جهة أخرى، نرى ان ما يجعل الروح يتصاعد نحو اوميغا بتصاعد جدلي Dialectique مستمر، يجعل اقوال الأب تيار واضحة وصحيحة. علما ان الاب تيار كان عالما، وفيلسوفا ولاهوتيا، كما هو معروف. لكننا هنا لسنا بصدد تقييم تيار ده شاردان.
وهنا قد يسعفنا سؤال يقول: ترى ماذا كان يمكن ان يكون الكون كله لو لم يكن مادة؟ ونجيب قائلين: نعم ماذا كان يمكن ان يكون الكون، وماذا كان يمكن ان يكون عالمنا لو لم يكن مادة؟ وماذا كنا نكون نحن البشر، وكل الأحياء الأخرى التي سبقتنا في الوجود، لو لم نكن مادة حية. هل كنا سنكون ارواحا؟ ارواحا لا تأكل ولا تشرب ولا تتناسل ولا تموت؟ رباه ما هذا الخيال الأهوج الخاص بأناس يتكلمون عن نفس الانسان الروحية هكذا، بحجة الايمان. اما التوجه الوجداني نحو الاله فلا نتكلم عنه الآن، وانما سنجد الكلام عنه في مقالات اخرى من هذا الكتاب ومن الكتاب الثاني الموسوم:قواعد انثروبولوجية لظهور الروح وحركته وارتقائه.
هذا، مع العلم أن كل الصفات التي توجد فيما تسمى البنى العليا للإنسان، قادمة الينا من عالم المادة، ومن سلة الأحياء البشرية التي وصلت الينا عن طريق التناسل، وليس عن طريق آخر، كما ان صفات الأحياء الحيوانية والنباتية، كل حي بحسب نوعه، قد اتت، هي الأخرى، من سلة ذلك النوع، سواء كان نباتا ام حيوانا، نزولا حتى آخر ذريرة حية قادرة ذاتيا على ان تتحول الى اول منظومة حية، قادرة بدورها ان تتعقد شيئا فشيئا وتنقسم الى منظومات نباتية ومنظومات حيوانية، وصولا الى النباتات كمـا نعرفها اليوم والى الحيوانات التي تملأ اليوم عالمنا، ووصولا الى عالم الانسان ذي التطور العجيب.اما هذا التطور كله فقد استغرق مليارات السنين. علما ان ملاحظتنا هنا، هي ان المادة الأولى هي اقل شأنا في الحياة من المادة المتطورة، التي اخذت صورا متحركة وقابلة للتطور، وإتيان بصور جديدة الى الحياة.
حقائق عن الروح: وهكذا نلاحظ ان الروح تتعاظم وتكبر وتسيطر مع تقلص المادة، مما يجعلنا نؤكد ان الروح ليست اكثر من بعد من ابعاد المادة التي تحددها الجينات التي يستلمها الانسان من امثاله البشر، الى جانب الجينات الشخصية التي تأتيه عن طريق التناسل وبحسب قواعده. وبما ان الروح بعد من ابعاد المادة الشخصية التي تتحدد عن طريق الجينات الخاصة، فهذا يعني ايضا ان لا مكان لأي عنصر غريب يأتي عالمنا الارضي ويصبح بعدا مستديما، وحتى مؤقتا عند الانسان.
الروح يأتي بشكل متدرج: وبهذا المعنى يمكننا ان نؤكد ان ما دأبنا على تسميته بالروح يأتي الانسان بشكل متدرج، وأن جميع الأحياء الأخرى تقبل الروح عينه كما نفهمه اليوم، وفهمه قبلنا الأب تيار ده شاردن، وكما فهمه بعض الفلاسفة، مثل فيثاغورس و هيجل وماركس وغيرهم، مع اختلاف وجهة نظرهم مع وجهة نظرنا، ومع بعضهم البعض. وبما ان الأمر هو هكذا فقد يفهم القارئ معنا ان النظرة الواقعية تسهل كلامنا عن الروح وعن النفس كثيرا.
المادة مكمن الروح: فهل يمكن ان نسمي المادة اليوم، بمكمن الروح، ونسمى الانسان بـ/ حامل الروح؟ الجواب: نعم نستطيع، ولكن كل انسان يستجيب للروح بقدر ما اعطي له بالوراثة ومن المجتمع ومن المجهود الشخصي من نعمة الوصول الى الروح. علما بأن هذا الروح لا يتجاهله الا الذين لا يريدون ان يظهر الروح في حياتهم ولا يسيطر عليهم، قائلين في سرهم مع من قال: يا روح الله لا تدخل لأني اخشى تيارات الهواء. Esprit de Dieu n'entrez pas, je crains les courants d'air مع ملاحظة وجود لعب على كلمة الروح والريح والهواء، ووجود شبه، مجرد شبه، بين هاتين المفردتين.
بعض الالتباس: Ambigüitéومع ذلك نرى ان مصطلح مكمن الروح قد يؤدي الى شيء من الالتباس والخلط بين ما كتبنا اعلاه وبين الفكر التقليدي الأفلاطوني والسقراطي، بينما نرى نحن ان الروح هو صفة من صفات المادة، ولاسيما المادة الحية، حيث يكون الروح بعدا من ابعادها، مع ان الروح يظهر حتى في عالم الجماد بشكل تماثلي وقليل الكثافة، الأمر الذي يشعرنا اننا نقترب بهذا الطرح من الفكر الهيجلي الفلسفي، وفكر الفيلسوف انكسامندريس، وفكر الفيلسوف فيثاغورس مع فكرة المونادة الخلاقة، مما يستدعي اضافة لاهوتية تقول ان روح الباري المجهول لدى البشر، يصاحب عملية خلق العلة الثانية من العدم، لكي تبقى العلة الثانية او الكون بقوانينها مسئولة مسئولية تامة عن ذاتها. بعد إن تخلى الباري عن مسؤوليته الكاملة لها، الأمر الذي يجعلنا نقول ان الواجب الذي استلمه الانسان، كممثل واع للعلة الثانية، واجب خطير ومشرف للإنسان وللبشرية كلها.
سؤال آخر: وهنا يخطر ببالنا ان نسأل سؤالا آخر يقول: يا ترى هل يمكن ان تكون المادة غير المحددة التي قال بها الفيلسوف انكسامندريس، هي نفسها في اساس ما يسمى الروح في الفكر المعاصر؟ اما جوابنا الشخصي على هذا التساؤل فهو ان المادة التي قال بها لافوازيه والتي لا تفنى ولا تستحدث، والتي هي غير محددة فعلا، قد تقترب اكثر من المادة الأولى، لكنها ليست هي الروح، مهما كانت صفاتها تقترب من صفات الروح الذي بدأنا نتكلم عنه، منذ ان دافع الأب تيار ده شاردان عن فكرته في مسألة الروح.
المادة والروح: فالمادة بالحقيقة هي مادة وليست روحا، ولكن يمكنها فقط ان تكون حاملة Substrat للروح. ففي الحقيقة لا يظهر الروح كبعد في المادة الا بعد ان ترتدي هذه المادة صورة Forme محددة. حيث ان الروح يظهر في الصورة، او في الفكرة Idée وليس في المادة التي تحمله. ولذلك نقول عن الروح انه بُعد في المادة، وفي رأيي الشخصي، يكون الروح بعدا في الصورة نفسها، هذا اذا لم نقل ان الروح هو الصورة نفسها.
الصورة والمادة: اما كلامنا اعلاه فيعني ان الصورة هي التي تتحرك وتتغير، وليست المادة، وان الروح مرتبط بشكل كامل مع الصورة، في حين ان الكل، في نهاية الأمر ابعاد في المادة نفسها، هذا الروح الذي يأتي على قدر ما تستطيع المادة ان تحمل منه. فالحجر المرمر الأملس يستطيع ان يحمل صورة معبرة عن الانسان، في حين ان بعض الأحجار المجدرة، مثل الأحجار التي كان اجدادنا يستخدمونها ك/ رحى منزلي صغير، لا يمكن ان تنحت فيها صورة انسان، بجسمه الأملس. والأمثلة كثيرة، كما يعلم القارئ. فهل يشبه هذا القول، ما كان اللاهوتيون يقولونه بصدد النفس البشرية؟ طبعا هو يشبه كثيرا، اذا عرفنا ان النفس البشرية لا تملك استقلالا خاصا بها، بل تبقى روحا، بمعناه الذي سبق ان تكلمنا عنه، والذي وجدنا آثاره في كل الموجودات الأخرى.
تصرفات المادة: ويقينا ان العلماء قد سبق ولاحظوا ان المادة الأولى تتصرف بشكل لم نكن نعرفه قبل ان يعرفنا به العلماء والفلاسفة. غير اننا نشاهد ان المادة الأولى تتصرف تصرفا يشيَ ( من وشى ) ويظهر قدرات المادة الاولى هذه، حيث نرى بأم اعيننا كيف تنتقل المادة المروحنة من صورة الى اخرى، بدون تدخل الهي خارجي. وهكذا لا يسعنا سوى ان نقول ان الروح، مثل الحرية والعقل والحياة الاجتماعية والنفسية هي اعلى صفات الانسان وأكثرها رقيا وابتعادا عن صفات المادة الجامدة. مع تأكيدنا على ان هذا الروح كان كامنا في المادة نفسها منذ الخلق الأول، ولا تبقى للعلة الثانية ( ونحن البشر منها ) غير مهمة اخراج الروح الى الوجود الفعلي، صورة بعد صورة، حسب القوانين الموجودة مسبقا في العلة الثانية. علما هذا الكلام كله عبارة عن متاهة اليس كذلك؟
المادة والروح:وأخيرا،وليس آخرا، يكون قبولنا لحقيقة الكون المادي والأنثروبولوجي،مساعدا جذريا لنا على التخلص من كل غيبياتنا، Absentéisme، هذه الغيبيات التي يمكن ان تأتينا من توجهنا الانطولوجي، عند كلامنا عن الانسان، حيث نعرف ان التوجه الانطولوجي غالبا ما يقود الى صنع المعتقدات الباطلة والأساطير، لأنه لا يقبل بأي تحليل بنيوي يحترم تعددية البنى والأبعاد، ويعطي لكل بعد حقه من الكلام والتعامل. كما ان توجهنا الأنثروبولوجي والبنيوي يخلصنا من مشكلة النفس البشرية الخالدة التي قبلها اللاهوت الكنسي في ازمنة وحضارات بدائية، مع ما فيها من توجه معتقداتي وأسطوري، كما تنقذ كوننا المادي، من اساطير أخرى كثيرة، دخلت الينا مع الفلسفات واللاهوت الغيبي البدائي وحضارته، هذه الحضارة التي كانت تسود العالم، عندما بدأ المفكرون يحددون طبيعة ايمانهم المسيحي.
حقائق واضحة: فما اقوله الآن اذن، حقيقة علمية واضحة، ولا يمكن دحضها علميا بمجرد ثرثرة كلاميـة ولغو Blabla من قبيل الايمان وتعليم الكنيسة الرسمي، وعصمة البابا والعقيدة التي لا يجوز ان يخالفها احد،هذه العقيدة التي تكلم عنها قداسة البابا فرنسيس، منبها ايانا بأن لا نجعل منها صنما لا يمس Tabou. هذا مع قناعتنا بأن اغلب القسس والأساقفة التقليديين لا يعرفون العقيدة الا بشكل سطحي، قد حفظوه عن ظهر قلب، وهم لا يتعصبون للعقيدة نفسها، ولكنهم يتعصبون لما تعودوا عليه، كما يتعصبون خوفا على امتيازاتهم التي هي متعلقة بلاهوت عقائد رفعته الكنيسة الرسمية الى مقام الايمان، بدون وجه حق، ولا يبرره مبررغير العقلية الحضارية السائدة في عصور جاهليتنا، وبالأحرى في عصور جاهليتهم.
يبقى البعض في فكره السلفي: وعليه يكون من الطبيعي ان نخشى دائما ان يبقى الناس، ومنهم كثير من رجال ديننا المسيحي، لكي لا اتكلم عن غيرهم، سادرين في فكرتهم الثابتة الضحلة عن المادة، هذه الفكرة التي اتتهم من حضارة القرون الوسطى، ومما قبلها، حيث لم تكن حضارة تلك الحقب تبالي كثيرا بالعلوم وبواقعيتها، لأن تلك العلوم لم تكن اصلا موجودة في ذلك الزمان، لا بل كان الاتجاه العلمي آنذاك محاربا بوحشية في الكنيسة، في كثير من الأزمنة.
اما اليوم، وفي اماكن كثيرة من العالم، ولاسيما في شرقنا الكنسي، فلا زالت المؤسسات الكنسية الرسمية، تحارب اي تجديد لاهوتي علمي، الى وقت قريب، لا بل الى يومنا هذا، في كثير من الأمور التي تخص العقائد، وبحجة عصمة العقيدة نفسها، كما لا زال اغلب رجال الدين، سواء كانوا صغار العمر ام كبارا، يتكلمون بلغة ما قبل المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، في زمن وصلت العلوم الى المستوى الذي نعرفه ودخلت كل بيت في الشرق والغرب والشمال والجنوب.
صعوبة التحول الى الثقافة العلمية: غير اننا هنا، لا ننكر وجود صعوبة لدى كثير من الناس، في التحول من ثقافة تستند الى المعتقدات الغيبية الى الثقافة العلمية الواقعية. وهنا لا ننسى ان حركة العلة الثانية وحركة الحياة وحركة الفكر هي في غاية البطء. وعليه فان مثل هذه الجماعات الأمية في ثقافتها الروحية واللاهوتية والإيمانية، تقبل اي كلام يأتيها باسم الله، حتى لو لم تفهم شيئا منه، نظريا وعمليا، الأمر الذي يدلل على ان هؤلاء الناس، ومنهم رجال دين صغارا وكبارا، لا يفهمون بعمق ما يأتيهم باسم الله، او هم لا يفهمون منه شيئا على الاطلاق.
ولذلك يبقى هؤلاء الناس غير قادرين على اكتشاف ابعاد الروح الخلاصية، لا بل يبقون بعيدين عن اكتشاف الابعاد المقدسة في حياتهم الشخصية والاجتماعية، في عالم المادة نفسه، وليس خارجه. طبعا سوف يقال لنا بأن منهجيتنا تزيل صفة ما هو فائق الطبيعة Surnaturel من الانسان، ولكننا نحن ايضا نسأل بدورنا ونقول: ترى هل في الكلام التقليدي السلفي شيء مما هو فائق الطبيعة، وهل في الافتراضات الغيبية التي تأتي بالتلقين شيء من الحياة فائقة الطبيعة؟! الجواب كلا لا يوجد شيء من ذلك، ولا نرى في المادة اية علامة تدل على الحياة فائقة الطبيعة. كما اننا لا نرى في المدافعين عن الحياة فائقة الطبيعة اي اثر لهذه الحياة المزعومة عندهم.
يتبع ...
1175 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع