اسماعيل مصطفى
الأصمعي الجديد "الومبي" / الجزء السادس
في هذا الجزء نتطرق إلى عدد من الشخصيات الظريفة التي ولدت وعاشت في الومبي وتركت بصمات في تاريخ هذه المنطقة المتميزة في البصرة:
كريم عبود
كان في منطقة الأصمعي شخص اسمه "كريم عبّود" وهو ذو بشرة سمراء ويتميز بأن يديه وأصابعه أطول من الحد المألوف.
عُرف هذا الشخص بالكثير من المواهب التي يصعب حصرها منها أنه كانت له القابلية على عزف "السلام الجمهوري" خلال مراسم "رفع العلم العراقي" في نهاية كل أسبوع في مدرسة الفكر العربي - إحدى المدارس الابتدائية العريقة في الومبي - وذلك باستخدام لسانه وأصابعه فقط، إذ كان العلم يرفع على أوتار حنجرته وكأن جوقاً موسيقياً متكاملاً قد قام بهذا الدور وليس كريم وحده.
ومن الطريف أن هذا الشخص الطويل القامة كان له صديق قصير بشكل غير اعتيادي اسمه صمد، وكان هذا الثنائي المتميز قادر لوحده على احياء الحفلات في المدارس والأعراس وتقديم مقطوعات غنائية ممتعة دون الحاجة لأدوات موسيقية لأنهما يستخدمان أصابعهما ولسانيهما بحرفية عالية للقيام بهذا الفن الذي يُعرف في عموم البصرة باسم "الخشّابة".
ومن الطريف أيضاً أن كريم كان لا يتمكن من هضم الدروس والمناهج الدراسية بسهولة. فعلى سبيل المثال عندما يسأله المعلم عن جدول الضرب يجيبه بسرعة بأن يضع الأرقام المضروبة بجانب بعضها البعض ويعطيه الجواب بأقل من ثانية واحدة، فمثلاً عندما يُطلب منه أن يضرب (6 X 7) فيكون جوابه على الفور (76)، وهكذا إذا سُئل عن حاصل ضرب (8 X 9) فيكون جوابه (98)، وحتى لو كان الرقمان المضروبان صغيران مثل (2 X 3) يكون جواب كريم (32) دون أدنى تأخير.
وعندما كان يسأله معلم التربية الدينية عن اخوانه ويفترض أن يكون الجواب "المؤمنون أو المسلمون" يقوم كريم بذكر أسماء اخوانه الذين يعيشون معه في نفس البيت، كأنه في خارج المدرسة وليس في "درس الدين".
ومن طرائف كريم أن والدته كانت تأتي به إلى المدرسة رغم أنه كان أكبر سنّاً من باقي الطلاب، وتجلب معها "مطّارة ماء" وتبقى تنتظره في الظلّ من بداية الدوام وحتى انتهائه كي ترجعه إلى البيت.
ومن الطريف أيضاً أن نذكر أن والدة كريم أرادت منه في إحدى المرّات أن يبيع رمّان وقالت له الوحدة بخمسة فلوس، فكان هو يمتنع من بيع رمّانتين بعشرة فلوس ويبقى يتساءل "إذا الرمّانة الوحدة بخمسة شلون يصير أبيع اثنين بعشرة؟!".
ومن الطرائف الأخرى كان في الومبي رجل اسمه "أبو دايم" يبيع مختلف أنواع الحلويات، فكان كريم يزحف أمام الناس ويوصل نفسه إلى الحلوى ويمد لسانه ليأكل منها ما يشاء دون أن يراه صاحب المحل، لأنه كان يتميز بخفّة غير اعتيادية. كما كانت له القدرة على وضع عدد كبير من البسكويتات الكبيرة في فمه وغلقه ومن ثم اخراجها منه دون أن تتعرض البسكويتات للثلم أو الكسر.
وكان كريم الوحيد في المنطقة الذي يتمكن من صناعة طيّارة ورقية بدون ذيل (كنا نطلق عليها اسم صاروخ)، إذ كان يبقيها تطير لعدّة أيام دون أن تقع، وكان الناس يتمتعون برؤية صواريخ كريم من على سطوح المنازل التي كانت تستخدم في السابق للنوم ليلاً هرباً من حرّ الصيف في البصرة.
ومن الأمور الأخرى التي تميز بها كريم هي قدرته على اصدار أصوات من صدره تشبه الانفجارات وهدير المدافع ولا أحد يعلم كيف يفعل ذلك.
بصيو
كانت في الومبي عائلة مكونة من ثلاثة أشخاص فقط "أخَوان وأخت" اسماؤهم بصيو وعُبيدان ودومة. وكانت هذه العائلة لاعلاقة لها بأحد إلّا ما ندر. وفي السابق كان بعض أطفال الومبي يقومون بطرق أجراس وأبواب المنازل أو ضربها بالحجارة ويهربون نتيجة الجهل تارة ولسد أوقات الفراغ تارة أخرى. في إحدى المرّات وفي وقت كانت فيه الكهرباء مقطوعة والظلام دامس ذهب طفلان من المنطقة وقاما بضرب باب بيت بصيو بالحجارة وهربا، وبعد أن اطمأنا بأن لا أحد سيلحق ويمسك بهما أخذا يتمشيان في الظلام إلى أن تفاجأا بأن بصيو "وهو ذو بشرة سمراء وسمين جداً" قد كمِنَ لهما وتمكن من الامساك بهما وقام بضرب رأس أحدهما برأس الآخر بقوة، فأخذ الطفلان يتصارخان لعدّة أسباب؛ أولها أن ضربة "الرأس بالرأس" مؤلمة جداً، وثانياً أن الظلام الدامس لم يترك لهما مجالاً لمعرفة ما حصل، والسبب الثالث وهو الأهم أن الضربة كانت مباغتة جداً ولم تخطر ببالهما أبدا.
أبو طبيلة
كان في الومبي شخص اسمه محسن وكنيته "أبو طبيلة" لأنه كان يطبّل لإيقاظ الناس لسحور شهر رمضان المبارك مستخدماً تنكة "دهن الراعي" الشهيرة. وعُرف عن هذا الشخص أيضاً أنه كان يبيع المرطبات المثلجة التي كان يصنعها بنفسه من الزبيب مطلقاً عليها اسم "الماي لولة"، واللولة كلمة فارسية تعني باللغة الدارجة "الحنفية أو الطرمبة".
وأثناء تجوال أبو طبيلة في الأزقة والشوارع لبيع الدوندرمة كان يطلق صيحات وهوسات جميلة تثير اعجاب الناس وتستقطبهم لشراء "الماي لولة" من بينها "ماي لولة والشايب ناجح الأوله صفّگوله وهلهلولة، ويذكر درجاته: بالانكليزي ميّة، بالعربي والجغرافية صفر، وبالرياضيات والكيميا هم صفر".
وفي إحدى الأيام تعرض أبو طبيلة لحادث أدى إلى قطع أصابعه، لكنه لم يفقد معنوياته وبقي محافظاً على روحه المرِحة في بيع "الماي لولة" التي كان الجميع يشتريها منه وينتظرها بفارغ الصبر إذا تأخر هذا الشخص عن المجيء في الموعد المحدد.
أصحاب الطرائف والنكات
كان في محلة "الومبي" الكثير من أصحاب الطرائف والنكات التي لاتصدق والتي كانوا يطلقونها بين الحين والآخر لغرض الترفيه تارة، وقضاء أوقات الفراغ تارة أخرى.
نبذة من هذه الطرائف
- ذكر أحدهم أنه كان طيّاراً في القوة الجويّة العراقية وشارك في حرب الـ 67 ضد إسرائيل، وخلال إحدى المهمات تمكن من مطاردة مقاتلة إسرائيلية وعند الاقتراب منها فتح إحدى نوافذها ووجّه صفعة قويّة "راشدي" لطيّارها فقتله في الحال وتحطمت المقاتلة الإسرائيلية التي لم يعرف عن مصيرها شيء حتى هذه اللحظة.
- ذكر أحدهم إنه اشترى صخلة "ماعز" وصحبها معه في إحدى سفراته إلى "بغداد" بالقطار الصاعد من البصرة، وعندما وصل القطار إلى الناصرية أصابه عطل، فغمزت له الصخلة بحاجبها كي يركب على ظهرها، وعندما نفّذ طلبها انطلقت به بسرعة فائقة وأوصلته إلى بغداد بأقل من نصف ساعة، أي قبل وصول القطار بحوالي ثمان ساعات.
- ذكر أحدهم إنه سمع في إحدى المرّات أصوات انفجارات قويّة تنطلق من بيته، فأسرع ليعرف ماذا حدث، وعندما وصل وجد زوجته واضعة ولده الصغير في حجرها وتقوم بتصگيع الگمل "القمل" فعرف أن الأصوات القوية التي كانت تهز المنطقة بين الحين والآخر سببها قتل القمل الذي كان يعشعش في رأس ولده.
- ذكر أحدهم إنه فقد ذات مرة حصانه الذي كان يستخدمه لبيع النفط، وبعد ثلاثة أيام جاءه شخص وقال له بأنه عثر على الحصان ينتظر في محطة الوقود "البانزين خانة" لملئ الخزان الذي يجره لأنّ البلد كان في حالة تقشف ولا يمكن الحصول على النفط إلّا بشق الأنفس.
- ذكر أحدهم بأنه قام بتربية نملة في علبة من الشكر، وعندما كبرت وأصبحت بحجم منطقة الومبي انفجرت وماتت، وعندما قال له الناس بأنهم لم يسمعوا بذلك ولم يروه، أجابهم على الفور بأنهم كانوا صغاراً ولا يتذكرون وعليهم أن يسألوا آباءهم، مؤكداً بأن الحادثة أعلنت عنها كافة وكالات الأنباء في حينها.
بقلم / اسماعيل مصطفى
806 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع