سيف الدين الألوسي
شارع حيفا هو المرحلة الأولى من مشروع كبير هو مشروع تطوير الكرخ , وهو مشروع من ثلاثة مراحل يشمل المنطقة الممتدة من نهر دجلة ولغاية شارع 14 تموز الموازي للمحطة العالمية .
في نهاية السبعينيات باشرت أمانة بغداد ( أمانة العاصمة سابقا ) ووزارة الأسكان والتعمير, بحملة أعمارية كبيرة جدا ولمشاريع ضخمة منها ما كان مصمما سابقا في خطط مجلس الأعمار ومنها ما هو صمم لاحقا , في مدينة بغداد بدأ بتنفيذ مشروع المرور السريع في الرصافة والزوراء وجسر الأعظمية وجسر السنك ومشروع العمارات السكنية في الصالحية , والبياع , وباب المعظم , والبتاويين وغيرها , بالأضافة الى تشييد عدد من الفنادق ذات المستوى الرفيع , وكانت من الأسباب المهمة لهذه النهضة العمرانية أقرار عقد مؤتمر قمة عدم الأنحياز في بغداد سنة 1982 والذي لم يعقد بسبب نشوب الحرب .
كانت أمانة بغداد تضم عددا كبيرا من المهندسين المختصين ومجلسا أستشاريا للأمانة يضم عددا من الشخصيات البغدادية المثقفة ومنهم على سبيل المثال المرحومين نافع قاسم ( وكيل وزارة الأوقاف الأسبق ) والشيخ جلال الحنفي والفنان الرائد أسماعيل الشيخلي والأستاذ الدكتور خليل الآلوسي وعدد أخر من الشخصيات المرموقة , كان هذا المجلس يجتمع شهريا بحضور أمين بغداد ووكلاءه وكبار المستشارين للنظر بمشاريع أمانة بغداد وسبل الحفاظ على تراثها وبيان الرأي بخصوص ذلك , أستمر وجود هذا المجلس الأستشاري الى بداية التسعينيات على ما أذكر .
تم تكليف السيد سمير الشيخلي بمنصب أمين بغداد ( لا علاقة لما سوف أذكره في هذا المقال بالسياسة ولا بشخصية الرجل السياسية ), كان أمين بغداد أداريا حازما ولديه قدرة على العمل في الليل والنهار , وله خاصية بعدم التدخل بالشؤون الفنية والهندسية للأمانة , ولهذا السبب فقد أستعان بخيرة الأستشاريين العراقيين وقسم منهم كان محكوما وسجينا ولأسباب مختلفة فتوسط لأخراجهم من السجن للأستفادة من خبراتهم ومنهم المهندس المعماري الكبير الأستشاري رفعة الجادرجي الذي أصبح مشتسارا للتصاميم , والمهندس الأستشاري المدني هشام المدفعي الذي أصبح وكيلا للأنشاءات بالأضافة الى طاقم الأمانة الكفوء من مهندسين أستشاريين كبار معروفين بالخبرة والنزاهة مثل الاستشاري المهندس عبد الحسين الشيخ علي وكيل الأمين والمهندس الأستشاري المعروف بسمو الأخلاق والكفاءة المرحوم رشيد الدبيسي مدير هيئة تنفيذ المقاولات ثم معاون الأنشاءات لاحقا والمرحوم الأستشاري سلام عسكر والمهندس الأستشاري المعماري صباح العزاوي مدير التصاميم , والمهندس الأستشاري القدير عدنان جابرو مدير عام أسالة الماء والمهندس الأستشاري للتشجير والفضاءات زاهر محمد بهجت الأثري وغيرهم من المهندسين الأكفاء في الطرق والخدمات والوحدات والمجاري .
نرجع الى بداية الموضوع شارع حيفا , كانت أمانة بغداد قد باشرت بمشروع البنايات السكنية المعروف بالبنايات الهولندية والذي سمي الجزء الثامن ومن قبل مديرية الأنشاءات فيها وذلك قبل بقية أجزاء الشارع التي نفذت لاحقا .
عرضت مديرية التصاميم مسابقة للمشروع وقد فاز بالجائزة الأولى مكتب الدراسات الفنية للأستشاري معاذ الآلوسي ومشاركوه وعدد أخر من المكاتب الهندسية العراقية والعربية والعالمية .
أعطيت تصاميم الجزء السادس للمشروع وهو بنايات سكنية والذي كان هو أكبر الأجزاء مساحة لمكتب الدراسات الفنية الفائز الأول , وأعطيت تصاميم الجزء السابع والذي كان مصمما على بنايات مكاتب وشركات وأصبح ( وزارة العدل والحكم المحلي لاحقا ) الى المركز القومي للأستشارات الهندسية ( المهندس الأستشاري المعماري المرحوم هنري زيفبودا والمهندس المعماري معن سرسم ) , وفاز مكتب الأستشاريون سامي وعلي الموسوي بالجزء الخامس والذي كان عبارة عن مراكز تجارية وتسوقية (مولات بمفهوم اليوم ) أصبح مركز الفنون وهيئة السياحة لاحقا ) , والجزء الرابع كان سكنيا فاز به معماري من مالطه على ما أتذكر ولم يكمل تنفيذه , أما الجزء الثالث فكان عمارات سكنية وفاز به الأستشاري راسم بدران مع مجموعة معمارية معه , أما الجزء الثاني السكني فقد فاز به مكتب أستشاري أجنبي لا أتذكره مع الأسف , والجزء الأول وهو سكني أيضا ومن تصميم مكتب بلجيكي على ما أتذكر فقد وزع الى اللاجئين السياسيين السوريين .
كلف مكتب الدراسات الفنية للأستشاري الأستاذ معاذ الآلوسي ومشاركوه بأدارة وتنسيق المشروع باكمله وكذلك بالأشراف الهندسي عليه وبتشكيل فريق لتطوير بقية مراحل منطقة الكرخ .
تم تشكيل فريق للأدارة والتنسيق من قبل مكتب الدراسات الفنية حيث كان المهندس الأستشاري معاذ الالوسي هو مدير عام المشروع ( تم رسم بورتريت شخصي له من قبل الفنان القدير الأخ علاء الشبلي مدير المتحف البغدادي حيث كان بدقة كبيرة و قد علقت فوق منضدته بحيث أحد العاملين جلب له الجاي كونه معاذ !! ) وفريقي الادارة والأشراف والمهندس الأستشاري فيصل الجبوري مدير تنفيذي للمشروع والفريقين , وكان فريق الأدارة والتنسيق يضم أقسام هندسية منها القسم المعماري بأدارة الأستشاري فيصل الجبوري والقسم المدني بأدارة الأستشاري المرحوم عبد الوهاب الصافي وقسم الهندسة الكهربائية والميكانيكية بادارة الأستشاري اللبناني المرحوم تشارلي قربان , وقد ضم الفريق عددا كبيرا من المهندسين المعماريين والمدنيين والكهربائيين والميكانيكيين وغيرهم من الأختصاصيين أذكر منهم المهندسات والمهندسين ساهاك وندى زبوني ورائدة ومعن الراضي وعفيف زاري وسعد الجودي وياسين الخضيري وياسر القيسي ونيشان وعمر الالوسي وعامر وعدد أخر أرجو أن يعذروني لتقادم الذاكرة ولكون فترتي في العمل بالمشروع كانت تعتبر قصيرة بالنسبة لفترة أنهاء المشروع وبسبب خدمتي العسكرية .
كذلك تم تنسيب عدد من مهندسي الأمانة للعمل سوية مع فريق الأشراف والذي كان يضم عددا من الخبراء التابعين لمكتب موللرو رانيكه الأستشاري الألماني والذي كان متعاقدا مع مكتب الدراسات الفنية لتقديم بعض الأستشارات الهندسية وأدخال نظام الحاسوب والأدارة الحديثة للمشاريع , تم تنسيب هذا العدد من مهندسات ومهندسي الأمانة للعمل والتنسيق بين دوائر الأمانة والمكتب الأستشاري وللأستفادة من الخبرات الحديثة في أدارة المشاريع وأذكر منهم المهندسات ماجدة ونضال والمهندس سعد جواد البزاز والذي أصبح مديرا فنيا لمكتب الأمين و المهندس عبد الرضا وغيرهم ممن لم تسعفني الذاكرة على تذكرهم للأسف ..
كان فريقي الأدارة والتنسيق والأشراف يضم كادرا أداريا وسكرتاريا كفوءا وتحسن أداؤه بكل أقتدار بعد فترة بسبب زيادة الخبرة .
نفذت المشاريع من قبل عدة شركات عالمية رصينة وقد أدخلت أساليب عمل حديثة أستفاد وتعلم منها الكادر العراقي جميعا وهذه الشركات هي وولف أند موللر الألمانية للجزء السابع وهيونداي الكورية للجزئين السادس والخامس , وسكس سي أف أي الفرنسية للجزئين الرابع والثاني ( تركت العمل بعد البدء به بفترة وجيزة لعدم توفيرها تمويل) وبقت الأجزاء غير منفذة الى أن تم تنفيذ قسم منها بصورة غير جيدة في التسعينيات وحول الجزء الثاني الى قصر رئاسي قرب ساحة الطلائع . أما الجزء الثالث فقد نفذته شركة هايليت أند وورنر العملاقة الألمانية والتي نفذت جزء من المرور السريع داخل بغداد وأقسام كبيرة من طريق المرور السريع الدولي , والجزء الأول نفذته شركة هانك يانغ الكورية .
من أهم الأحداث التي أتذكرها أثناء العمل في هذا المشروع سقوط صاروخ أيراني على أحد الأبنية السكنية القديمة في شارع حيفا وسقوط عدد كبير من الشهداء ومن بينهم أطفال ونساء , وكانت هذه البناية تقع في وسط أبنية الجزء الثالث التي كانت تنفذها شركة هايليت أند وورنر حيث بادرت هذه الشركة بالمساعدة على أنقاذ الشهداء وبأشراف مديرمشروعها الرجل الكبير الوقور كوردرويتر وكذلك العمل على تكملة المشروع بالوقت المحدد دون أي تأخير وتسليمه للأمانة , في ذلك الوقت كان قد تم أستلام عدد من الأبنية من الشركة ومن قبل لجنة الأستلام المشكلة من مهندسي أمانة بغداد وفريق الأدارة , تضررت تلك الأبنية المستلمة من شبابيك وأبواب وسقوف ثانوية مما أستوجب أعادة تأهيلها وقد تمت عملية أعادة التأهيل بسرعة قياسية , ومن محاسن الصدف أنني كنت و الأخوة عفيف زاري وياسين الخضيري في زيارة موقعية روتينية للجزء الثالث , لفت نظرنا عدد من الزجاج المهشم بسبب الأنفجار , كانت الشبابيك في هذا الجزء (Double Glazing ) أي من طبقتين خارجية وداخلية للزجاج وبينهما فراغ عازل وذلك للحصول على أفضل عزل حراري وصوتي للساكنين في الشقق , كان تندر المقاولة ينص على 6 ملم من الزجاج البرونزي للطبقتين الخارجية والداخلية , عند قياس زجاج أحد النوافذ المهشمة أكتشفنا أن الطبقة الخارجية هي بسمك 5 ملم والداخلية بسمك 4 ملم وكأننا أكتشفنا كنزا, حيث عدنا جميعا بسرعة الى المكتب وكان مديرنا التنفيذي المهندس فيصل الجبوري ومدير القسم المرحوم المهندس عبد الوهاب الصافي والمسؤول المهندس عفيف زاري , حيث عمل أجتماع على وجه السرعة ومن ثم ذهبنا أنا وأخي الصديق ياسين الخضيري الى موقع العمل ثانية لتكسير عدد من الشبابيك ومن نقاط مختلفة للتأكد من سمك الزجاج وبواسطة الفيرنيا الجهاز المبسط لقياس السمك , فتأكدنا أن جميع الزجاج هو 5 و4 ملم وهو غير المواصفات المثبتة في العقد . كانت تلك اللحظات من أسعد لحظات الفريق العامل وخصوصا مع هذه الشركة القديرة التي لم نجد عليها أي مخالفة بعكس الشركات الكورية كهونداي( فقهاء بعلم الكلاوات الهندسية وتبديل النماذج المصادق عليها ) , تم الألتقاء مع مدير الموقع الألماني العجوز الطيب كوردرويتر وتمت مكاشفته بالأمر ! فأرسل مستعجلا على جميع مهندسيه المعنيين بالأمر وخلال ساعة أو أكثر بقليل كانت كل التبريرات الهندسية والعلمية جاهزة , حيث أن هذا الفرق في السمك لا يؤثر بتاتا على العزل الحراري والصوتي للأبنية ولا فرق بينه وبين ال 6 ملم!لم يقتنع اعضاء الفريق الهندسي العراقي بتلك الحجج ليس علميا ! ولكن لأخذ بعض المكاسب المادية من الشركة لأخلالها بالشروط الهندسية , كان هنالك أجتماع يومي لكل أعضاء الفريق وأجتماع أسبوعي يحضره معاون الأنشاءات ومدير عام المشروع ورؤساء الأقسام ومدراء المشاريع للشركات المنفذة , وأجتماع شهري دوري يحضره أمين العاصمة ووكلاؤه ومدير عام المشروع ومديره التنفيذي ومدراء الشركات , لم يكن أمام الشركة إلا إعادة جميع الشبابيك والزجاج في المشروع ككل الى المانيا وتبديله أو أنقاص سعر المقاولة حيث تمت المفاوضات على أبقاء الأمر كما هو (بعد التأكد من عدم تأثيره على المواصفات القياسية ) , وتحويل مبلغ الغرامة والتي كانت تقدر بنصف مليون دولار الى قيام الشركة بعمل كل الخدمات الكهربائية وتأثيث الشارع والأنارة وعمل الأرصفة مجانا ولحساب أمانة العاصمة . وقد قامت الشركة بالفعل بهذه الأعمال وجلبت الأنارة وأعمدتها من أرفع الشركات ( سيمنز ونوكيا )وقامت بنصب المصاطب وتأثيث الشارع بحاويات الزهور وحاويات النفايات وغيرها مجانا .
عند أستلام أحدى الشقق في نفس المشروع وكان يتم تنظيفها بكل دقة , دخلت اللجنة الى المرافق الصحية وقد تبين وجود بعض الأوساخ داخلها , مما سبب أحراجا كبيرا لمدير المشروع كوردرويتر وأحمر وجهه وهو يناهز السبعين عاما , فطلب بسرعة أسم من أستعمل تلك المرافق فتبين له أنه أحد العمال الفليبينيين , فطلب أنهاء عقده وتسفيره خلال 24 ساعة مع الأعتذار من اللجنة وبرغم ترجي كافة أعضاء لجنة الأستلام بالعفو عنه ...!
هنالك أمر قد لا يعرفه الكثير من العراقيين , وذلك بأن السبب الرئيسي للكلفة العالية لشقق شارع حيفا رغم أنها كانت من أفضل ما بني في الوطن العربي والشرق الأوسط في ذلك الوقت , هو وجود ملجأ نووي على طول أبنية الشارع ومن ساحة المغفور له الملك فيصل الأول ملك العراق الى ساحة الطلائع , وهو من الأسباب الرئيسية لزيادة الكلف وتوزيعها على بقية المشروع .
لقد ذكر الأستاذ الأستشاري المعماري معاذ الآلوسي الكثير والكثير من الحقائق والأحداث في كتابه حكاية شارع في بغداد وكذلك عن تطوير أماكن أخرى من بغداد كمدينة الثورة والكاظمية وباب الشيخ وغيرها , ولكن كل ما ذكرته اليوم في موضوعي هذا يعتبر جزءا يسيرا وقليلا من مشروع كان يعتبر نواة حقيقية لتطور تلك المدينة الخالدة الغالية ...
حفظ الله تعالى العراق وبغداد .
1145 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع