ترجمة : د.ضرغام الدباغ
اليد السوداء
(الصوة : لوحة تمثل حادثة الاغتيال)
مثلت حادثة ااغتيال ولي عهد النمسا فرانتز فرديناند (Franz Ferdinand) وزوجته يوم 28 / حزيران ــ يونية / 1914 في مدينة سراييفو الشرارة التي أطلقت الحرب العالمية الأولى. ترى هل قام الفاعلون بعملهم تنفيذاً لمهمة، أم كانت العداء التاريخي ..؟
أعتقل غافريلو برنسيب (Gavrilo Princip) في نفس الليلة التي قام بها بأغتيال ولي العهد النمساوي فرانتز فيرديناند. وفي نفس الليلة أيضاً قال وفي أول تحقيق أجري معه " إن العمل الذي قمت به له طبيعة فردية ". والحكومة النمساوية في فيينا اعتقدت أن صربيا هي وراء العمل، العدو الرئيسي للأسرة الملكية الهابسبورغية في البلقان. ولكن في التحقيقات اللاحقة، توصل التحقيق بسرعة إلى أن المتآمرون قد حصلوا على الأقل على المساعدات من صربيا. ترى من كان خلف المتآمرين، أم ترى أن الحكومة الصربية وراء المؤامرة ..؟ ولكن بسبب اندلاع الحرب، فإن معرفة الحقيقة أصبحت تكتنفها المصاعب
وبرنسيب هذا الذي احتفلت به الصحافة الصربية كبطل قومي، كان قد ولد في مدينة غراوفو في شرق البوسنة يوم 25 / تموز ــ يوليه / 1894. وكانت البوسنة والهرسك تابعتان رسمياً لإمبراطورية النمسا والمجر. والسكان كانوا يتألفون من المسلمين، الذين كانوا يعتبرون كمجموعة سكانية، ومن الكرواتيين، والصربيين.
كان برنسيب (القاتل) ينتمي إلى المجموعة الثالثة (الصربيين)، وفي عام 1911 انتمى إلى عصبة الشبان البوسنيين، والصربيون كانوا يريدون التخلص من الهيمنة أسرة هابسبورغ الحاكمة. وفي عام 1912 طرد من المدرسة لاشتراكه في تظاهرة سياسية، لذلك قام باجتياز الحدود متوجهاً صوب بلغراد، حيث انظم هناك كفدائي في مجموعة من الشبان الصربيين للمشاركة متطوعاً قي الحرب البلقانية. ولكن طلب برنسيب رفض بسبب هيئته النحيلة، وفي العام الذي تلاه، أنهى الدراسة الثانوية وعاد إلى قريته في البوسنة.
وخلال التحقيقات أعترف برنسيب بأنه قد قام بسفرة أخرى إلى بلغراد بتاريخ 13 / شباط ــ فبراير / 1914 مستخدماً جواز سفر مزور. وتجول في عدة أماكن مع أصدقاؤه تريفكو غرابيتش، ونيدلياكو كابرينوفيتش، حيث يتواجد ويلتقي رفاق لهم من الحركة الصربية القومية. وفي شهر مارس / آذار تلقى كابرينوفيتش إشعاراً من سرايفو، بأن ولي العهد النمساوي فرنتز فرديناند سيقوم بزيارة إلى سرايفو خلال الصيف لحضور مناورة.
وهنا نضجت في أذهان المتآمرين الثلاثة مخطط لتنفيذ عملية اغتيال. فتولى برنسيب تدبير السلاح من فدائي سابق الذي كان قد تعرف عليه في بلغراد عام 1912 وسكن معه في بيت واحد، تمكن من تدبير 6 قنابل يدوية و4 مسدسات له. بعد ذلك ابتدأت المجموعة بالتدريب على إطلاق النار بإشراف مقدم في الجيش الصربي.
في 28 / أيار ــ ماي، غادروا بلغراد، وفي الطريق واصلوا تدريبهم ليتجنبوا حدوث أي خطأ. كابرينوفيتش كان يسافر بأسم مزور إلى البوسنة، فيما كان برنسيب وغرابيتس يتحركان بواسطة مهرب ومستخدمين الخيول في اجتياز الحدود. وبعد وصولهما إلى سرايفو، أبلغا مدرس وأسمه دانيلو إليتش الذي كان قد أعد بضعة متآمرين آخرين لينظموا إلى الخلية التي تولت عملية الاغتيال.
في 28 / حزيران توزعوا الأدوار فيما بينهم، وقد اتفقوا الانتشار على امتداد الطريق الذي سيسلكه الضيف الكبير (ولي عهد النمسا وزوجته). وفي الساعة 10,26 قذف عضو خلية التنفيذ كابرينوفيتش قنبلة، والتي ارتدت من سيارة ولي العهد، وانفجرت تحت السيارة التي تلي سيارة ولي العهد وجرحت عدة أشخاص، وحالاً تم تغير وجهة السير، إذ قام سائق السيارة التي تقل ولي العهد، وكأن الأمر مخطط له، بالاستدارة عند كل منحنى، وعند زاوية كان يقف فيها برنسيب (ضمن خطة توزيع أفراد زمرة التنفيذ)، وبحركات مرتبكة في شارع لم يكن عريض بما يكفي. وكانت الساعة تشير إلى 10,50 اشهر برنسيب سلاحه وسدد بأتجاه ولي العهد وأطلق النار عليه عن قرب الرصاصات القاتلة.
حركات سرية تتجه صوب صربيا
بين حركات الشباب الصربيون، جرت مناقشات كثيرة حول توجيه ضربات إرهابية. وفكرة اغتيال ولي عهد النمسا، وفي هذا الإطار، يحتمل أن تكون هذه الفكرة قد دارت في رأس برنسيب ورفاقه. ولكن كان يجب إيجاد السلاح اللازم، وإقامة الصلات مع شبكة من المنظمات القومية الصربية الأخرى، وهكذا فقد تبين أن السلاح تم تأمينه من قوات عسكرية صربية، والعناصر التي قامت بمساعدتهم، كانوا أعضاء في منظمة سرية " اليد السوداء ".
وقد سميت هذه المنظمة السرية أيضاَ " الوحدة أو الموت " كانت قد تأسست عام 1911 في صربيا وقد حصلت هناك (في صربيا) على نفوذ سياسي مهم. تحرير كامل التراب الصربي، بما في ذلك تلك الأجزاء التي كانت تحت الهيمنة التركية أو أسرة هابسبورغ في جنوب سلوفينيا وتوحيدها ضمن امبراطورية صربيا الكبرى. وقائد منظمة اليد السوداء كان دراغوتين ديمتريافيتش (Dragutin Dimitrijevic) المولود عام 1876 في العاصمة بلغراد، والمتوفي في 26 / حزيران / 1917 في سالونيك اليونانية، والذي يطلق عليه "أبيس" وكان ضابطاً برتبة عقيد في الأركان العامة، ورئيس الاستخبارات العسكرية الصربية.
وهناك مؤشرات تدل أن زمرة التنفيذ كانت على صلة بلجنة في الخارج في كانون الثاني ــ يناير / 1914 في فرنسا. بل وأن برنسيب أفاد بأنه قبيل سفرته إلى بلغراد لم يكن يعلم شيئاً عن مؤامرة وتآمر. وكن هذا الحال تغير عند أجتيازه الحدود في شباط ــ فبراير، مستخدماً جواز سفر مزور. وهذا قد يمنح القرينة بأنه كان منذ ذلك الوقت يتم تحريكه وقيادته من قبل اليد السوداء.
أما مساهمة العقيد ديميتريافيتش فقد أثبتها التحقيق، عندما حضر اجتماع الحكومة الصربية في المنفى، في سالونيك (اليونان) عام 1917 وشارك في محاولة اغتيال الأمير الصربي الكسندر وأدين وحكم عليه بالإعدام ونفذ فيه الحكم. وقام بإيصال تقرير إلى المحكمة الحربية أعترف فيها بمسؤوليته عن عملية سرايفو التي راح ضحيتها ولي عهد النمسا وزوجته. ولكن هل كان دوره ينحصر بدعم المؤامرة، أم أن كافة خيوط العملية كانت بيديه، فهذا ما تختلف عليه الآراء حتى يومنا هذا.
(الصورة : اعتقال برنسيب حال تنفيذه الاغتيال)
وفي أقواله كانت هناك الكثير من الأدلة والاكتشافات، ومن تلك أن الملحق العسكري الروسي كان يقدم الدعم حتى مالياً لمنظمة الكف الأسود، وأنه على قناعة بأن روسيا ستقوم بمساعدة صربيا بتقديمها السلاح في حال وقوعها تحت هجوم نمساوي. وفيما إذا كان القيصر الروسي على معرفة بخطط المؤامرة لاغتيال ولي عهد النمسا في سرايفو أم لا، أم أن الدعم الروسي للمنظمات الصربية ومنها الكف الأسود، مسألة تدور في إطار ضيق من كبار الدبلوماسيين، فهذا أمر لا يمكن معرفته والتأكد منه.
ماذا علمت الحكومة ؟
من المؤكد أن رئيس الوزراء الصربي باشيك، كان قد أستعد قبل حلول يوم 28 /حزيران ــ يونيه وكانت المعلومات لديه بأن مجموعة إرهابية بوسنية قد تحركت صوب سرايفو وعبرت الحدود وقد حصلوا على الأسلحة. إذ أن الرجل الذي عبر المتآمرين من زمرة التنفيذ الحدود قاطعين نهر درينا، لم يكن من منظمة اليد السوداء فحسب، بل كان في نفس الوقت عميلاً للجهات الحكومية الصربية.وقد ابلغ ما عنده من المعلومات، وهكذا وجدت الأوراق حسب التسلسل، طريقها إلى مكتب رئيس الوزراء الصربي باشيك.
لم تكن هناك كلمات واضحة في خطط زمرة التنفيذ، ولكن مؤشرات وقرائن في التعليمات كانت واضحة خلال النصوص، وقد أمر رئيس الوزراء باشيك بإجراء التحقيق، ولكن لم يتم التوصل إلى معرفة بأن طاقة حيوية وبأي درجة نجاح قادوا العملية.
وبدا من الواضح أن حكومة فيينا لم تكن مقتنعة بتحقيقات بلغراد الصربية قد بذلت جهودها بالحيلولة دون وقوع حادث الاغتيال ونجاحه. وما تبقى هو الظنون والشكوك. وطالبت الحكومة النمساوية ــ المجرية (كانت النمسا والمجر دولة واحدة بأسم امبراطورية النمسا والمجر) الأطلاع على التحقيقات التي تجريها الحكومة الصربية، وهو طلب رفضه باشيك رئيس الوزراء الصربي، وهكذا تواصل التصعيد ليبلغ الحرب العالمية الأولى.
في 28 / تشرين الأول / 1914 حكم على برنسيب وكابرينوفيتش وغربيتس بالسجن لمدة 20 عاماً، الذين كانوا عند قيامهم بعملهم بالكاد يبلغون العشرين من العمر، ولكن برنسيب توفي بمرض السل في السجن، وزميلاه توفيا بعده عام 1916.
ــــــــــــــــــــــــــ
1.صورة الغلاف : شعر منظمة اليد السوداء، وهي تمثل راية الموت جمجمة وعظمتين، ويد ترفع الراية، والكلمات بالصربية تعني " الوحدة أو الموت ".
1372 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع