القس لوسيان جميل
كيف نتكلم عن الأنسان
المقدمة وتعريف بالكتاب والكاتب
عزيزي القارئ! قرأت يوما نكتة عن المقدمة تقول: ان المقدمة تكتب في آخر الكتاب، وتوضع في اوله، لكنها لا تُقرأ، لا في اوله ولا في آخره. غير اني بالحقيقة، لا اعرف دقة هذه النكتة الهادفة، اي اني لا اعرف اذا ما كان القراء عندنا في العراق وفي الشرق الأوسط، يقرؤون المقدمـة في بداية مطالعتهم لأي كتاب، ام يقرؤونـها في اي وقت آخر، ام انهم لا يقرؤون المقدمـة، لا في بداية الكتاب ولا في نهايته. وبما اني احب ان اكون قريبا من القارئ، فاني اطلب منه السماح، لكي اخاطبه بلغة الضمير الشخصي، آملا بأن تكون هذه المخاطبة مخاطبة ودية ومحبوبة لدى القارئ، بشكل افضل من مخاطبته من خلال ضمير المتكلم الجمع" نحن ". هذا، مع اني لا يمكنني ان اعد جميع القراء بأن يقرؤوا كتابي هذا كما يقرؤون رواية تاريخية او ادبية، مثلا.
ما اتمناه: غير اني اتمنى لقراء كتابي هذا، ان يقرؤوا هذه المقدمة، في بداية قراءتهم لهذا الكتاب " المنهجي " الذي يحوي امورا جديدة عليهم، حيث تصير هذه القراءةَ ضروريـةً لفهم ما يحويه هذا الكتاب فهمـا جيدا، خاليا من العقد السلفية التي صارت، وكأنهـا قدرٌ علينا. كما ان ضرورة قراءة المقدمة هذه، تأتي بسبب ما فيها من تعريف بالكاتب، وما يمكن ان يجده القارئ فيها من افكار لاهوتية، ومن فكر علمي وفلسفي وإنساني عام، ومن كيفية التعامل مع هذه الأفكار في شتى مناحي الحياة، ولاسيما اني اعرف ان الفلسفة ليست رائجة ومرغوبة عندنا في العراق، وربما في كثير من البلدان العربية.
منهجية هذا الكتاب: فالمنهجية التي بنيتها من خلال كتبي، بشكل عام، ومن خلال كتابي الثالث هذا، بشكل خاص، هي منهجية تزاوج بين الفلسفات والعلوم التجريبية، مع اعطائي مكانة خاصة لعلوم الانسان، وترك الباقي على ذمة الفلسفة. كما ان القراءَ بحاجة ماسة الى معرفة الكاتب بشكل كاف،لاسيمـا وانه لا يملك شهادة علمية تعرفه لهم بشكل جيد وسريع، مع العلم ان الشهادات ليست دائما معيارا لثقافة الانسان، حتى اذا كان هذا الانسان يملك تخصصا علميا معينا.
اسباب تأليف هذا الكتاب: وبناء على ذلك، وفي بداية هذه المقدمـة، اود ان اقول لقرائي الأفاضل، بأن فكرةَ تأليف كتاب منهجي عن الانسـان بعنوان: كيف نتكلم عن " الانسان " اليوم، كانت تراودني من زمن بعيد، بعد ان كان قد طُبع لي كتابان بعنوان: وجه الله لاهوت خارج الأسوار، وكيف نتكلم عن الله اليوم: منهجية ولاهوت خارج الأسوار، في حين ان فكرة تأليف كتاب منهجي عن الانسان، كانت قد جاءتني منذ ان تم طبع كتابي الثاني: كيف نتكلم عن الله اليوم، حيث كنت قد قلت لبعض اصدقائي: بقي لي ان اؤلف كتابا منهجيا آخر بعنوان: كيف نتكلم عن الانسان اليوم.
طبيعة هذا الكتاب: ويقينا أن كتابي المنهجي الثاني: كيف نتكلم عن الله اليوم، كان كتابا لاهوتيا، يتكلم بحسب منهجية لاهوتية انثروبولوجية عن الله، وضعتها بنفسي، لكنه كان يتكلم عن الانسان ايضا. اما هذا الكتاب الذي هو الكتاب االثالث، فيتكلم بشكل خاص عن الانسان، ولكنه يتكلم عن الله ايضا، من خلال تكلمه عن الانسان، حيث ان المنهجية الأنثروبولوجية التي وضعتها، لا تضع حدا فاصلا بين الله والإنسان، كما بينت ذلك في كتابي الثاني: كيف نتكلم عن الله اليوم، وكذلك في كتابي الأول: وجه الله، منهجية انثروبولوجية خارج الأسوار، وفي كتبي الأخرى، وفي كثير من مقالاتي، وكما ابينها الآن ايضا، في كتابي الثالث هذا. علما بأن الله المقصود هنا، هو الله، كما يمكن ان نعرفه، نحن البشر، معرفة انثروبولوجية، وليس الله بحد ذاته الذي لا نعرف شيئا كثيرا عنه Dieu en soi – In se.
ما دعاني لتأليف هذا الكتاب: ومما لا شك فيه، أن ارادة تأليف مثل هذا الكتاب، الذي يزاوج بين الفلسفة وبين علوم الانسان خاصة، دون استثناء العلوم الأخرى، ويزاوج بين الفكر اللاهوتي والفكر الانساني، كانت قد جاءتني، من رغبة شديدة، كانت ولا زالت تلح علي ولا تفارقني، وهي الرغبة في المساهمة في عملية تخليص فكر الانسان من المنهجيات المعرفية الانطولوجية الثنائية الأفلاطونية التقليدية، ومن سيطرة المعتقدات الغيبية والأساطير على فكر البشر اللاهوتي والإنساني، الأمر الذي استوجب ابعاد البشر عن الفكر الانطولوجي، والتوجه نحو الفكر الأنثروبولوجي بخصوصياته المعرفية وقواعده الواعدة، مع ان الأنثروبولوجيـا، اي علم خصائص الانسان، تستطيع وحدها ان تعرفنا بأمور الانسان، بدون تدخل الانطولوجيا: الوجود بحد ذاته، L'être en soi، في حين ان هذا الكائن البشري عينه، وكموضوع للمعرفة الانسانية الاعتيادية، يمر عبر مرشح Filtre قوى المعرفـة عند الانسان، ويخرج من هذا المرشح، وقد توشح بوشاح القوى البشرية، وطبيعتها الميالة الى التفكيك والتحليل Analyse، الأمر الذي يسهل معرفـة الانسان، سواء نظرنا اليه من جهـة بناه التحتيـة Infra structures او نظرنا اليه من جهة بناه العليا Supra structures وكذلك سواء نظرنا الى هذا الانسان من جهة بناه الكبرى Macro structures او نظرنا اليه من جهة بناه الصغرى الدقيقة والدقيقة جدا Micro structures، او ما يمكن ان ندعوه ايضا Ultra fine structures ( هذا التعبير الأخير من عندي اقتبسته من التصوير الفوتوغرافي الذي كان يتكلم عن الحبيبات الدقيقة والحبيبات الدقيقة جدا Ultra fine graines )، يوم كنت امارس هواية التصوير الفوتوغرافي. وهكذا ننظر نحن البشر الى الانسان كمنظومة تتعلق ببنيانها التحتي كما تتعلق ببنيانها العلوي. مع العلم ان كل ظاهرة كوننا هي على هذه الشاكلة ايضا، بحسب النظرة البنيوية العامة في عالمنا وفي الكون كله.
كتاباتي على الانترنيت: ولكن، وبسبب انشغالاتي بكتابات أخرى، كنت اعدها في غاية الأهمية، بسبب بعدها" الأخلاقي "، لم استطع ان اقرر البدء بتأليف هذا الكتاب، الا بعد ان اوقفتُ، لأسباب صحية وغيرهـا، تلك الكتابات، التي كنت اعدها بمثابة تبشير اخلاقي انساني وروحي، ليست له علاقة بأي دين وبأي مذهب وبأية طائفة، وبأي خيار سياسي، بل كانت كتابات تستند الى الفضائل الانسانية المشتركة بين كل البشر، ومنها فضيلة العدل واحترام الانسان وكرامته البشرية، وفضيلة محبة الوطن، التي تشبه فضيلة محبة الوالدين ومحبة الولد، وغير ذلك من المقالات التي كانت تتكلم عن التضامن الانساني، وعن مجانية العطاء، كما كانت تتكلم عن ظلم الاحتلال للعراق وخطيئة المحتلين والمتعاونين معهم، من خارج العراق ومن داخله، ومنهم بعض القسس وبعض الأساقفة ايضا مع الأسف.
بعد الاستقرار في مدينة دهوك: غير اني، وبعد ان تم استقراري، في مدينة دهوك، بعد ان تركت بلدتي العزيزة تلكيف، بشكل اضطراري، بسبب الظروف الأمنية المعروفة، بدأت بالتفكير الجدي بتأليف هذا الكتاب الذي كان تأليفه املا يراودني باستمرار. وعليه فان هذا الكتاب، هو الاخر، كتاب " منهجي " يتكلم عن الانسان، من خلال منهجية علمية انثروبولوجية واضحة. ومن هنا، لا يمكنني ان اقدم مشروع كتابي هذا على انه كتاب علم، متخصص بالفرع الفلاني او الفلاني، واني عالم بالعلم الفلاني او الفلاني، وبأنـي املك الشهادة الفلانية او الفلانية، لأن الحقيقة ليست كذلك. ولكن، في الحقيقة، ارى اني لست مجرد هاو للفلسفة وللدراسات اللاهوتية، ولأي علم من العلوم، لكنني استطيع فقط، ان اقدم نفسي، كقسيس له اهتمامات فلسفية ولاهوتية وعلمية، اوصلته الى ما هو عليه الآن، حتى انه يستطيع ان يقول عن كتابه الثالث هذا، انه كتاب آمل، ان يبني منهجية لاهوتية وإنسانية، تستند الى معطيات علمية، ومنها علوم الانسان، لكي يجعل من الانسان المجهول، انسانا معلوما في اغلب ابعاده.
المعهد الذي تخرج منه الكاتب: علما بأن معهد تخريج القسس الذي تأهلَ فيه الكاتب للقسسية، لم يكن يعطي للمتخرج اية شهادة من الشهادات المعروفة في العراق، او خارجه، على الرغم من ان الدراسة والتأهيل الروحي في المعهد استغرق احدى عشرة سنة، بعد السادس الابتدائي، كانت السنوات الخمس الأولى منها تركز خاصة على اللغات: العربية والسريانية الفصحى، واللغة الفرنسية، وقليل من اللغة اللاتينية، قيل للتلاميذ في حينه، انها تفيدهم في الدراسات اللاهوتية. اما اللغة الفرنسية فقد كانت لغة التخاطب والدراسة في المعهد المذكور، هذا المعهد الذي كان الآباء الدومنيكان الفرنسيون يديرون فيه شؤون التدريس والتوجيه الروحي المستمر، كون المعهد المذكور كان شبه دير مغلق لا يغادره التلميذ الا بعد التخرج، وفـي العطل الصيفية، هذا فضلا عن بعض القسس العراقيين الذين كانوا يعطون للتلاميذ دروسا في اللغة العربية والسريانية الفصحى، وشيئا من التاريخ والرياضيات، في حين ان الألحان الطقسية كان يعطيها التلاميذ البارعين في هذا المجال.
من شجع الكاتب على نهجه: وجدير بالذكر هنا هو ان من شجعني على الاستمرار في المنهج الاستقلالي والنقدي، كان انعقاد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، في بداية الستينيات من القرن المنصرم، هذا المجمع الذي كان قد حاول ان يضع قوانين وتوجيهات تساعد الكنيسة الكاثوليكية على مواكبة التقدم الحضاري الثوري الذي بلغ ذروته في الثامن من ايار 1968، في حين ان روح الاستقلال عندي كان قد حثني، هو الآخر، على السعي للاطلاع على علوم الانسان بشكل خاص، وعلى اي علم يقدم امورا جديدة في مجال الانسان، ولاسيما في مجال الكون وعلوم الحياة، والعلوم السياسية والاجتماعية، وحتى في المجال الفلسفي او اللاهوتي، الذي كنت اطمح لتحويله الى علم من علوم الانسان.
الكون وعلوم الحياة: ولكن، وعلى الرغم مما ذكرت، فقد بقيت معلوماتي عن الكون وعن علوم الحياة قليلة وسطحية، وان كنت اراها كافية في الوقت الحاضر من اجل اقامة منهجية لاهوتية وإنسانية معاصرة، تستطيع ان تبعد المفكرين عن فكرهم المبني على المعتقدات الغيبية، هذا الفكر الذي جاءنا من العصور القديمة والمتوسطة. ويقينا ان استخدامي لعلوم الحياة وحتى لعلم الكون Cosmologie، هو استخدام فلسفي اكثر من كونه استخداما علميا، لكن هذه الفلسفة بدأت عندي تقترب كثيرا من علوم الانسان، بحسب منهجيتي الأنثروبولوجية، علما بأن علم الحياة Biologie قد فتح لي طريقا ملوكيا، لا مثيل له، للكلام عن الانسان.
هذا الكتاب وبعض علوم الانسان: وعليه فان كتابي هذا يتكلم عن الكون وقوانينه، وعن وحدته وتعدديته، وعن طبيعته الفيزيائية والكيمائية والحياتية، كلاما لن يكون كلام مختص بهذه العلوم، وإنما سيكون كلام مفكر مقتنع من أن هذه العلوم هي خير ما يوصل الناس الى حقيقة الله والإنسان، وحيث ان المنهجية المذكورة، اذا ما أُخِذت بالحسبان، تستطيع ان تجعل الانسان معلوما، بعد ان كان مجهولا، بسبب هيمنة المعتقدات والفكر الغيبي والعقائدي الديني، على لاهوتنا المسيحي، وليس على ايماننا بمعناه الدقيق.
اعتذار: هذا، وبما اني اتبع عين الاسلوب المنهجي الذي اتبعته في كتابة كتبي الأخرى، ارجو هذه المرة ايضا ان يعذرني القارئ اذا ما لم اذكر مصادري بشكل حرفي ودقيق. ففي الحقيقة، انا لا اعمل اطروحة جامعية، اظهر فيها براهيني ومصادري، لكي ترضى عني لجنة الممتحنين، وإنما اكتفي، بشكل عام بذكر غالبية المصادر من الذاكرة فقط. ففي هذا الكتاب ايضا، أحاول ان اكتفي بما قد بقي عالقا بذهني، مما كنت قد اقتبسته من هذه الجهة او من أخرى، منذ ايام الدراسة في معهد مار يوحنـا الحبيب لتنشئة القسس، ومن مطالعاتـي لبعض الكتب والمجلات العلمية والفلسفيـة واللاهوتيـة، بعد التخرج والرسامة القسسية، وكذلك من ايام تدريسي، فيما كنا نحن قسس ابرشية الموصل، نسميه الدورة اللاهوتية، هذه الدورة التي كانت مدة الدراسة فيها ثلاث سنوات دراسية، لكل وجبة، حيث كانت الأبرشية تعطي فيها دروسا في الفلسفة واللاهوت، وعلم اباء الكنيسة Patrologie، وتاريخ الكنيسة وال ليتورجيا، ومواد اخرى ثانوية. اما حصتي في تلك الدورة، فكانت تدريس مادتين اساسيتين فيها هي: مادة تاريخ الفلسفة، ومادة اخرى لاهوتية كانت مختصرة من الكتابين المنهجيين المذكورين: وجه الله، وكيف نتكلم عن الله اليوم، والعائدين لكاتب هذه الأسطر.
ملازم تدريسية: هذا وقد كنت قد اعددت لمادة الفلسفة ملزمة اسميتها: الف باء الفكر الفلسفي اليوناني والحديث والمعاصر، حيث كنت اركز في تلك الملزمة، على الفكر الفلسفي تركيزا عموديا، يسعى الى اعطاء الطلاب فكرة مركزة عن كل فيلسوف. اما الملزمة الخاصة بلاهوتي الأنثروبولوجي المعاصر، فلم تكن من اعدادي فقط، ولكنها كانت من تأليفي ايضا، اي انها كانت تبغي ان تقدم لطلاب المرحلة الأخيرة مـن الدورة، مختصرا مركـزا ايضا عن المنهجية اللاهوتية المعتمِدة على معطيات الأنثروبولوجيا، كما نراها في الكتابين المذكورين اعلاه.
مدة الدراسة: اما مدة الدراسة في تلك الدورة فكانت يوما دراسيا واحدا في الاسبوع، لمدة ثلاث سنوات دراسية، وذلك على مدى خمس وعشرين سنة دراسية. علما ان تدريسي في تلك الدورة قد ساعدني على ان اكون متمكنا من العلوم والفلسفات التي واظبتُ على تدريسها، لكل هذه المدة الطويلة، حيث يقول المثل اللاتيني Fabricando fit faber اي بممارسة الحدادة يصير الحداد حدادا، وأقول: بممارسة التدريس، يصير المدرس مدرسا محنكا، او يصير عالِمـا، وبالكتابة يصير الكاتب كاتبا ماهرا او اديبا، وهكذا.
اضافة فكرية: وهكذا، وعلى الرغم من كبر العمر، حيث اني من مواليد 1934، وعلى الرغم من ان ذاكرتي بدأت تعيق سرعة عملي كثيرا، رأيت ان ابدأ بكتابة هذا المؤلف، الذي أعده بمثابة اضافة فكرية مهمة الى مؤلفاتي المنهجية الأخرى، وتعميقا مهما لمنهجيتي، حيث كانت قد خطرت ببالي فكرة عميقة جدا عن الله وعن علاقته بالإنسان، كما كانت ولا زالت فكرة مكملة لما جاء في كتابي:وجه الله منهجية انثروبولوجية خارج الأسوار 192 ص حرف 12 وكتابي الآخر: كيف نتكلم عن الله اليوم ( 540 صفحة A 4 ).
هذا الكتاب: هذا، ومما يجب ان اعترف به، هو ان هذا الكتاب الذي احاول ان يكون واضحا على قدر المستطاع، ربما لن يكون بمستوى كتبي المنهجية الأخرى المذكورة، بسبب مشكلتي الصحية ومشاكل ضعف الذاكرة عندي، وكذلك بسبب وسع المواد المتعلقة بالإنسان، التي يهدف هذا الكتاب الى معرفتها. وربما لذلك فضلت ان يكون الكتاب مجموعة من المقالات، الأمر الذي يساعد على بعض السهولة في الكتابة، ومع ذلك سوف تكون الفصول الأخيرة مجموعة كتابات قصيرة تقدم بعض الأفكار التي تعرف بالإنسان عن كثب.
اهمية هذا الكتاب: الا انه، ومهما يكن من امر، ارى ان خروج كتابي هذا الى النور مسألة تستحق ان يبذل الانسان ما يستطيع من مجهود لأجلها، كون ما اقدمه في هذا الكتاب، اضافة فكرية جديدة، تزاوج بين الفلسفة والعلوم، من اجل استنباط فكر جديد يعرّف الانسان تعريفا جديدا، خاليا من امور الحضارة الغيبية، دون ان يؤثر هذا الطرح على الايمان، بمعناه الوجداني الحقيقي، ودون ان يصطدم بشكل عبثي مع من يسمون انفسهم علمانيين وملحدين، ودون ان يكون هذا الكتاب كتابا توفيقيا، بين المؤمنين بالله وبين الملحدين، بشكل مقصود، الأمر الذي لم يكن، كما اظن، محلولا في اي مكان حتى هذا اليوم.
خصوصية ما يقدمه هذا الكتاب: فما يقدمه هذا الكتاب اذن، ليس علم انسان فقط، ولكنه علم حقيقي يشمل الظاهرة الانسانية والظاهرة الدينية والأخلاقية والروحية التي نجدها عند جميع البشر، بحيث استطيع ان اقول بأن منهجيتي عن الله وعن الانسان منهجية شاملة ولن يجد احد فيها اية نزعة طائفية او مذهبية، ولا اي قدر من الأدلجة، كما هو، او كما يجب ان يكون حال كل الكتب والمقالات ذات المنهجية العلمية.
منهجية جديدة: وعليه ارى ان التعب على هذا الكتاب، لا يذكر مقابل الفائدة التي يمكن ان يقدمها، لمن يحب الأمور المعمقة، حتى وان لم يكن هذا الكتاب كتابا علميا بالمعنى الدقيق للكلمة، في حين لن يستطيع كثير من المثقفين، ان يقرؤوا هذا الكتاب بسهولة، حتى وان كان لهم اكثر من تخصص، علمي او اجتماعي، بسبب احتواء الكتاب على مواضيـع توظف الفلسفات المختلفـة، كما توظف كثيرا من علوم الانسان، وشيئا ليس قليلا من الفكر الفلسفي، ومن الفكر اللاهوتي، بكونه
كتابي ليس كتابا علميا: فالكتاب بالحقيقة ليس كتابا علميا، بالمعنى العلمي الدقيق، ولا يمكن عده فلسفة من الفلسفات المعروفة في العالم، كما انه لا يمكن عده كتابا شعبيـا، يقرؤه سواد المثقفين او اشباههم Œuvres de vulgarisation بسهولة، وذلك لأن هذا الكتاب يقدم منهجية تساعد القراء على معرفة حقيقة الانسان وحقيقة الهه، هذه المنهجية التي تكمل المنهجية اللاهوتية والإنسانية، والتي قدمتها في كتبي السابقة، وفي كثير من مقالاتي ومحاضراتي، ولا تتعارض معها، حيث ان هذه الاضافـة لا تمس الله ولا الانسان بشيء، وإنما تُضيف للإنسان امكانيةَ معرفة الله والإنسان بشكل ايسر وأفضل من المعرفة السابقة التي نجدها عند الكتاب التقليديين، على الرغم من ان تلك المعرفة التي ظهرت في مؤلفاتي السابقة، كانت هي الأخرى مؤلفات معمقة ورائدة في مجال معرفة الله والإنسان.
اهم من ذلك كله: ولكن، والأهم من ذلك كله، هو ان هذه المنهجية Méthodologie تخلصُ الانسان من الفكر المعتمِد على الأمور الغيبية والأسطورية، وعلى القصص الدينية الشبيهة بالتاريخ Para historiques والتي تحولها السلطات الدينية الى تاريخ Histoire ومجريات. وهكذا يرى القارئ كيف اقدم للقراء علما، اي معرفة انثروبولوجية، وليس فلسفة، اللهم الا من حيث المصطلحات، وأيضا كمقدمات تقود الى العلوم، او كأفكار يمكن ان تغني الموضوع، في حين اني اترك للفلسفة الحقيقية مكانا قليلا، لكي تقول لنا ان الباري موجود، بدلالة وجود العلة الثانية " البرية " ولا تعطينا اكثر من ذلك، اللهم الا اذا كان شيئا من التأمل الصوفي Mystique بحقيقة الله وحقيقة الانسان، وحقيقة الوجود، بشكل عام.
دراسة الله ودراسة الانسان لاهوتيا: بعد هذا نستطيع ان نقول مبدئيا بان عملية التقرب المعرفي من الله، هي اصعب بكثير من عملية التقرب المعرفي من الانسان، من الناحية المبدئية, وذلك لأن عملية التقرب الى الله تقع كلها ضمن الأمور الروحيـة غير المنظورة، في حين تقع عملية التقرب من الانسان ضمن قدرات الانسان المعرفية، ولاسيما اذا كفت الكنيسة عن املاءاتها الغيبية وفلسفتها القديمة، هذه الفلسفة التي ترى اعتباطا ان الانسان مركب من نفس خالدة وجسد، فتقسم الانسان بهذا الفكر تقسيما اعتباطيا، اصبح اليوم مرفوضا.
الكلام عن الانسان والكلام عن الله: ومع ذلك، وعلى الرغم من الكلام اعلاه، ارى ان المنهجية اللاهوتية والإنسانية التي استخدمها للكلام عن الانسان، هي جوهريا عين المنهجية التي استخدمتها في كتابي: كيف نتكلم عن الله اليوم، مع اختلاف بسيط في التطبيق المنهجي، حيث ان الكلام عن الانسان، ليس فقط اسهل من الكـلام عن الله، من وجهة نظر معينة ولكـن هو اطيب ايضا وأفيد للإنسان، وذلك لأننا اذا طبقنا منهجيتنا الأنثروبولوجية عن الانسان، سوف نفهم انساننا هذا فهما يخلصنا من كثير من غيبيات القدماء الاسطوريين، ويخلص حياتنا من كثير من حالات الاستلاب الذي كان القدماء يمارسونه على اخوتهم البشر باسم الايمان.
المنهجية العلمية لا تخلو من صعوبات: غير ان كل ما كتبته اعلاه لا يعني خلو المنهجية التي تتكلم عن الانسان، من صعوبات حقيقية تكاد تصل الى درجة السر الغامض le mystère، الذي يعني اننا، مع الانسان، نبقى دائما نعرف صورته الحسية التي تلتقطها الحواس، ولكن لا نفهم معناه العميق، اي ماهيته وهويته ID. اما اذا فهمنا شيئا عن الانسان، فيكون ذلك ناتجا عن التعلم الاجتماعي فقط. اما اذا اردنا ان نفهم عمق الانسان، فنحتاج الى منهجية خاصة توصلنا الى هذا العمق، او اقله الى شيء منه. علما بأن منهجيتنا تدلنا الى التحليل البنيوي للإنسان، والذي يوصلنا الى ابعاد منظومة الانسان كلها او بعضها. مع العلم ان ابعاد الروح المتعددة والمختلفة تماثليا، هي نفسها ابعاد في المادة الجسدية الانسانية، وهي ليست كينونة سماوية.
سيبقى الايمان قائما: هذا وإننا نطمئن القراء، في هذه المقدمة المدخل، الى ان حقيقة الايمان ستبقى قائمة، حتى وان احتاجت الى قليل او كثير من التأويل Interprétation والتأوين Adjournamento، واحتاج اللاهوت الذي نبتعد عنه، الى شيء من ازالة الاسطورة démythification الموجودة في مبنى النص الايماني، وليس في معناه. ويقينا ان مبنى نص منظومة الانسان، يحتاج الى تعامل معين، ولاسيما عندما يكون هذا المبنى معتمدا على نصوص كتابية والى تاريخ غير مقيد بالعلوم، والى ادعاءات علمية غير صحيحة، لكي لا يبقى غير " معنى النص " بصفائه الذاتي الناتج عن المشاعر الذاتية Subjectives والمحمولة على لغة تعبيرية لا تعود الى اية جهة غيبية، بل تعود الى كـاتب الكتب المقدسة، او تعود الى الاسلوب الأدبي Genre littéraire المستخدم في اي نص سردي، يسمى نثرا ايضا La prose، او يظهر في نص شعري واضح المعالم، او يقع بين الشعر والنثر، حيث لا مناص من التمييز بين المبنى والمعنى، في حدودهما العليا والدنيا.
كتاباتي ليست انجيلا جديدا: فالكتاب بالحقيقة، ليس انجيلا جديدا، لكنه منهجية لاهوتية وفكرية جديدة، تساعدنا كثيرا، جنبا الى جنب مع افكار أخرى معروفـة، على " قراءة " جديدة لكتبنا المقدسة ولعقائدنا، ولكل اعمال الآباء الروحية والفكرية، ولكل الأعمال الأدبية النثرية والشعرية الانسانية. كما تساعدنا على كتابة لاهوت جديد، ينير ايماننا في جميع ابعاده الالهية والإنسانية، مع تأكيدنا، على ان اللاهوت الجيد والعلمي والبعيد عن الغيبيات، يساعد على فهم حقيقة الايمان، ولا يعرقلها، كما يدعي السلفيون.
الكلام الواقعي: ويقينا ان كتابي هذا، يساعدنا على الكلام الواقعي عن الانسان وعن الله، بعيدا عن اي معتقد غيبي. هذا وان كتبي السابقة كانت تتكلم عن الله وعن الانسان، ولكنها كانت تتكلم عن الله اكثر من الانسان، اما هذا الكتاب، فيتكلم عن الله والإنسان ايضا، لكنه سوف يتكلم عن الانسان اكثر مما يتكلم عن الله، حيث ان، لكل من الله والإنسان، مكانته الخاصة به، وان لم يكن الكلام عن الله دقيقا او صحيحا، بمعزل عن الكلام الجيد عن الانسان. فالله، في الحقيقة، وبحسب منظور معين، بعد انثروبولوجي وبنيوي من ابعاد الانسان. طبعا انا لا اتكلم عن الله بذاته الخاصة، Dieu en soi ولكن اتكلم عن الله، كما نستطيع نحن البشر ان نعرفه، من خلال قوانا المعرفية الأنثروبولوجية، ومن خلال آثار الله او علاماته وعلامات المقدس الأنثروبولوجية.
مقالات مفرحة: وعليه نأمل ان يسرَ بهذا الكتاب الذي هو جله على شكل مقالات مستقلة، كل من يحمل احتراما حقيقيا للعلم ولنتائجه الانسانية والروحية العميقة، فضلا عن مطالبه الاجتماعية والنفسية والجسدية. اما من سيقرأ كتابي هذا، ويقول، كما قال من قبل، رجال كنيسة في مراتبها العليا، بأنهم لم يفهموا شيئا من كتابي، فإني اصرح لهم ومنذ الآن، كما صرحت بذلك لرجال الكنيسة هؤلاء، بأن هذه هي مشكلتهم وليست مشكلة الكِتاب الذي لا يفهمونه، اذ ان كل ذنب الكِتاب هو انه اعلى او اعمق من القدرات المعرفية لأنصاف المتعلمين هؤلاء، من الذين لا يعرفون ان يقرؤوا الا في كتابهم، والذين يستندون كأول وآخر سلاح لهم، الى السلطة التكفيرية العنيفة التي يحسبون واهمين انهم يمتلكونها شرعا.
ملاحظة: منذ بداية هذا الكتاب والى نهايته، نعلم قراءنا الكرام بأن استخدامنا مصطلحات مثل ان شاء الله والحمد لله، والشفاء بيد الله، والعلم عند الله، وغيـر ذلك من التعابير الغيبيـة، والتي تأتينا من مرحلة حضارية تضع بيد العلة الأولى ( الله ـ الباري) ما يعود الى العلة الثانية ( البرِية )، هو استخدام شعبي وتقليدي، لا يعني لنا شيئا من الناحية اللاهوتية.
الكتاب الثاني: اما الكتاب الثاني الموسوم: قواعد انثروبولوجية لظهور الروح وحركته وترقيه. فسوف نضع للقارئ مقالات منه، بعد إن نضع على موقع الكاردينيا عدة مقالات تعرف القارئ بأهم محتويات الكتاب الأول، او الكتاب الثالث من حيث ترتيب مؤلفات الكاتب. لكن هنا نقول إن الكتاب الثاني سوف يتكلم عن قواعد ظهور الروح وحركته وارتقائه، وتطبيقات هذا الروح الروحية.
المؤلف
الگاردينيا: نرحب بالأستاذ القس لوسيان جميل في حدائقنا ، مسرورين جدا بأرسال أولى كتاباته القيمة ،ننتظر منه الأستمرار في الكتابة فالمجلة مجلة الجميع..ومن الله التوفيق.
1195 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع