بقلم/ حامد خيري الحيدر
شجون الحمائم - حكاية من خيال بلاد ما بين النهرين القديمة
رغم أن الوقت كان صيفاً والشمس في أوج ضيائها، لكن ظلمة حالكة غريبة خنقت المكان، مُنبئة الأيام القادمة بحداد طويل الأمد، الوجوم خيّم على وجوه الجميع، قطرات بطيئة من محلول لا لون له كحال أيام شعب (سومر) أخذ أحد الرفاق يسقيها فم الرجل الممدد داخل خيمة مهلهلة عند طارف المدينة، ظن الجميع أنها ستبقيه معلقاً بخيط الحياة الواهي، بعد أن مزقت السهام صدره... أنفاس رتيبة هادئة ونبضات آخذة بالتباطؤ شيئاً فشيئاً، عكس قلوب المحيطين بالرجل التي كادت تخرج من صدورهم خوفاً وقلقاً، مثلهم أخرون يقفون خارج الخيمة، أفئدة غاضبة يعتصرها الألم، صمت، ترقب، خصلات الشعر ما كانت تصمد بوجه التوتر، الجميع ينطرون، يدعون، يبتهلون لجميع الآلهة، ذاكرين عن مضض كهنتها ودجلهم وما يرددوه من زيف الكلام، عل ذلك يأخذ بيد مصابهم و يُعجّل بعافيته... الحركة تزداد، همهمات عالية، يتوافد الرفاق للدخول بسرعة الى الخيمة، فجأة يتوقف كل شيء النبضات، الأنفاس، صرخة مدوية، يتبعها صرخات هستيرية متوالية، بكاء، عويل، أنتهى كل شيء، لتنسل الروح الطاهرة النقية من ردائها متحدية الجميع، سالكة طريقها الفسيح حيث خلود الآلهة.
أيام، شهور، سنون تمضي، دهر كالحة دقائقه يلف الجميع، قطرات الدمع ما توقفت، آهات الفراق ما صمتت، حسرات الوداع ما انقطعت... أم متعبة صابرة لم تنحن هامتها أو يتهاون صمودها مُذ عرفت درب زوجها الشهيد وأفكاره السامية الحالمة بخلود (سومر)، بعين ترنو الى تضحية رفيق حياتها وفراغ في بيتها الصغير أحدثه غيابه الابدي، عجزت أن تعوضه غزارة دموعها الدافئة، وبأخرى تحنو على أربع حمائم صغيرات، تفتحت عيونهن على غياب أب شجاع حنون، لم يتبق منه سوى طيف هائم يظلل بجناحيه على صغيراته، لترافق مسيرة طفولتهن حيرة وسؤال عن سر ذلك الغياب... البصائر بدأت تستفسر، الأسئلة أخذت تتوارد على الام المفجوعة، بعد أن ظلت طيلة ما مضى من أيامٍ عجاف قاسية، كاتمة حزنها والمها، مخبأة جرحها النازف أمام حمائمها، اللواتي بدأن يفهمن الواقع الأليم، لم يعد الانكار واختلاق الحجج يجديان نفعاً مع الحمائم المتلهفات للمسات حانيات من أب مبتسم عطوف، لتكتشف مرارة الحقيقة وهول الفاجعة وعظم المصاب، رحيل دون عودة، غياب بلا رجوع، سفر نسي الاياب، ضريبة قاسية فرضها وطن جريح على ابنائه الاوفياء، ليفضّل ذلك الفارس المترجل عن صهوة جواد الحرية، دروب النضال ووحشتها على نفسه وعائلته رغم الحب والشوق... كانت أرض الرافدين أغلى، ومجد (سومر) أسمى، وسعادة أبناء شعبه هي الهدف والهاجس والغاية، كان مستقبل المسحوقين والبائسين قبل حياته وحياة عائلته، وهم الأولى بالكفاح والتضحية.... لهذا صار الغياب، من أجل ذلك كانت الشهادة وأسطورة الحزن.
ضحكات القتلة الحاقدين يعلو صوتها، الطغيان يزداد يوماً بعد يوم على الارض الصابرة، مخالب مجرمي وأعوان الملك تغور أكثر فأكثر في جسد الشعب الجريح الصابر، قوافل الضحايا تسير موازية لأنهار دماء الشهداء.. (سومر) ملتهبة ثائرة، مدن الرافدين تغلي، مهالك الحروب في الاقاليم البعيدة تحرق يابس الوطن وأخضره... طيف الشهيد يظهر لحمائمه محتضناً اياهن بدفئه السرمدي، لا فائدة، غدت (سومر) سجناً كبيراً لأبنائها.. كلاب الملك في كل مكان، ملاحقات، مداهمات، اغتيالات، عوائل الرافضين لحكم الطغاة تحت رحمة العيون والأبصار، لا مجال بعد الآن للعيش في غابة الذئاب، الهجرة الى بلاد أخرى هي العلاج والدواء، النظر من بعيد الى وطن يشتعل أهون من الحياة وسط أستعار اللهب... رغم قسوة القرار لكنه كان، لم يأخذن من بيتهن الدافئ شيئاً سوى بضع حاجات عتيقة للشهيد وجرح ندي محال أن يندمل... لتأتي سنوات قاسية أخر، تجري معها دورة أفلاك الغربة وذلها، حياة باردة ، بطيئة، رتيبة، مملة، أفكارها، عواطفها، أخلاقها، باردة برودة الموتى، هي الغربة أينما كانت وتكون، قطع للجذور وابتعاد عن المنبع، لتظل عيون الحمائم ترنو باشتياق الى عشها القديم الجميل رغم ما أصابه من هدم وحروق.
رياح الحرية تهب، نسمة باردة من عبق الانعتاق تلامس وجوه المظلومين، ها هو أخيراً قد أتى، يوم موعود انتظرته جماهير (سومر) على جمرٍ أحّر من مآسي الوطن، تغيّير فرضته قواعد الطبيعة على كل من يسير بعكس مسيرة التطور وإرادة الشعوب وتطلعاتها، يوم أفرزته تناقضات همجية حكم أحمق، وجنون اعمى لملك مستبد لم يستأسد الا على ابناء شعبه الصابر، ساق ارض الرافدين الى غياهب الظلام وعتمة المستقبل... سقط تمثال الملك، ها هي النِعال تنهال على رموزه القبيحة مصحوبة ببصاق شعب أزدرى حقبة مريرة سوداء من عمر الوطن، لتذهب مع صانعيها الى مزابل التاريخ... الملك يُلقى القبض عليه مرتعداً كالجرذ في أحدى الجحور، الأم مع حمائمها تسمع الخبر الذي هزّ الدنيا، فرحة حبيسة في الصدور قد تحررت، أمل يعود لأرض الشهيد، ستنبت براعم الحرية من جديد بعد أن روتها دماء الشهداء، عودة لواحة الخير باتت وشيكة، طيف الشهيد يبعث من عوالم المجد بابتسامته المفعمة بالأمل مرافقاً أهازيج الحرية وفجرها الواعد، مشاركاً شعبه فرحته بغَبش أنعتاقه وأصيل تحرره، ها هي طغمة المجرمين قد ولّت الى غير رجعة، الشعب على موعدٍ مع شمس حياته الجديدة... لقاء النهرين قد حان، ساعة الرجوع دقت أجراسها، هكذا قالت الحمائم وجموع ابناء (سومر) الاوفياء المُبعثرين على خريطة العالم، سنلحق بركب الأخيار الحالمين بوطنهم الأمل ومستقبل أرضه المعطاء... الحمائم عُدن صغاراً كما كُن، يتراقصن حول طيف الشهيد المتوج بأكاليل غار الجنان... أخيراً سيلتم الشمل حتى ولو مع بقعة صغيرة من ارض الوطن احتضنت ذلك الجسد الشريف، هناك سيكون الموعد واللقاء.
لكن ما هذا ؟؟؟؟؟؟؟ احتلال، ضجيج، فوضى، من هذا، من ذاك، من هؤلاء، أقدام غريبة متسخة تطأ ارض الرافدين، أشباه بشر، أنصاف رجال، أفواه عريضة تكشف عن أنياب قبيحة دامية، دماء، خراب، دمار، قطع رؤوس، الموت مرة اخرى، القتل هواية ولعبة ومنهج، الظلم من جديد، لحىً طويلة وملابس غريبة، خواتم ضخمة كالتي في أصابع المشعوذين، تجمعات سوداء لقيطة... غربان الملك بلباس آخر، الملكية البغيضة تنهض من قبرها، الهمجية والتوحش أنبتت لها جذوراً في الارض بعد اقتلاعها أزاهير التمدن، كل يريد فتكاً بنخيل النهرين... طيف الشهيد يظهر مرة أخرى، غاضباً مُتجهماً، عيونه حيرى، يعلو وجهه ذهول واضطراب، متسائلاً بدهشة، أين (سومر)؟ هل سرقت من جديد؟ هل أحرقت أحلام شعبها؟ هل ذبحت طيورها بسيوف الجلادين؟ هل اغتيل الأمل مرة أخرى؟ لتلاقيه لوعة عيون الام المخضبة بالحزن ترافقها دمعات حمائمها المتشحات بآلام السنين، ليس عندهن الاجابة ولا عند غيرهن، لم يكن لديهن سوى سؤال واحد صعب حيّر الجميع، أي قدر هو قدرك يا (سومر)، أي قدر هو قدرك؟ أهكذا يتم قتلك في كل حين، لتغدين مجرد طيف هائم يلامس أنفاس الوجود؟ لتجيب أرض الخير حيرتهن باسمة رغم غور جراحها وايلامها، هل تموت من تعمدت بمياه الرافدين وجرت دماها في سواقيها؟ قد أموت مرات ومرات، لكني سأظل دوماً أبعث من جديد، ممزقة كفني، صارخة بوجه الأيام، حالمة بفجرٍ وليد وشعب باسمٍ سعيد.
827 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع