الحياة في حقول البترول / الحلقة الخامسة عشر

                                             

                   بقلم / المهندس أحمد فخري

 الحياة في حقول البترول /الحلقة الخامسة عشرة الموظف المفقود

     

في احدى ايام الصيف الحار وقع امر جلل هز الحقل باكمله لانه كان بامكانه ان يعرض حياة اي انسان للموت المحقق علماً اننا لم نعرف بالامر شيئاً الى بعد ان انتهى كل شيئ، ساقص عليكم ماحدث من البداية:

انطلقت طائرة هليكوبتر من مدينة ابوظبي محملة بعشر ركاب متجهة الى حقلنا حقل زاكوم. ومن ضمن ركابها احد مهندسي الانتاج الذي جاء للحقل ليبدأ عمله لليوم الاول إذ لم يسبق له ان زار الحقل من قبل.
في الطريق الى البارجة حطت الطائرة على احدى المنصات فصعد منها 3 اشخاص الى الطائرة وبنفس الوقت هبط خطأ صاحبنا المهندس المصري على تلك المنصة ظناً منه انه وصل مبتغاه وعليه أن يهبط على البارجة السكنية. اقلعت الطائرة تاركة ورائها ذلك المهندس المصري بمفرده على المنصة البترولية. نزل الى الطابق السفلي للمنصة مستقلاً السلم الحديدي ونظر حوله فلم يجد أحداً، فظن أن هناك فريق عمل آخر يعمل في الطوابق السفلية فهبط الى الطوابق السفلى الواحدة تلو الأخرى فلم يجد أي شخص معه. علم وقتها انه قد أخطأ في مغادرة الطائرة وإن عليه أن يعود الى الطائرة كي تقله الى البارجة السكنية. لكن الطائرة كانت قد رحلت فعلاً وبقي هو وحده يتصارع مع الواقع المرير. ظل يتشبث بفكرة مفادها انهم سوف يفتقدوه عاجلاً ام آجلاً وسوف يأتون لنجدته. إلا ان توقعاته هذه كانت خاطئة تماماً لان احداً لم يفتقده ابداً. وبقي على المنصة بين الحديد والبحر والسماء. وعندما حل الليل عرف ان الامل في مجيئ طائرة لتنقذه قد تضائل وعليه ان يصارع من اجل البقاء. اول شيئ فكر فيه هو الماء، فالجو في تلك المناطق ساخنٌ جداً حتى في الليل لذلك يجب عليه الحصول على الماء باي ثمن. بحث حوله بالمنصة في كل الطوابق الاربعة ولم يعثر على أي قارورة للماء. سلم أمره لله وقرر ان يبقى ساكناً في مكان واحد كي يحاول الاحتفاض بطاقته وعدم فقدان المزيد من الماء من جسمه.
استيقض المهندس في اليوم الثاني وتمشى قليلاً حول المنصة أملاً في أن يشاهد قارباً او طائرة تمر من فوق رأسه كي يشاور لها فتنقذه الا أن ذلك لم يحصل. صار الجوع والعطش يتعبه كثيراً وهو يعلم علم اليقين انه إن لم يأتي أحداً لنجدته قريباً فانه سيموت لا محال وبالتحديد من العطش. هبط الليل عليه ولم يأتي احداً لإنقاذه فسلم امره لله ونام على الحديد ملتحفاً ببعضٍ من ملابسه التي أتى بها معه في حقيبته.
في هذه الاثناء، لم يفكر أحداً في قسم المواصلات عن فقدان هذا الراكب من قوائمهم. لأن ذلك لو كان قد حصل فعلاً لخرجت طائرات مروحية في كل الاتجاهات تبحث عنه. ولو دققوا قليلاً في قائمة المسافرين القادمين للبارجة السكنية وقارنوها بقائمة المسافرين الذين اقلعوا من مطار البطين بابوظبي لعلموا ان هناك شخصاً مفقوداً في هذه الرحلة، سيما وأن الطائرة لم تقف سوى على منصة واحدة فقط في الطريق لغرض اخذ ركاب ثلاثة منها وارجاعهم للبارجة السكنية كما اسلفنا. يبدو انهم قسم المواصلات كانوا نائمين في العسل إذ تسربت هذه المعلومة من بين اصابعهم وتبخرت دون تدقيق.
في اليوم الثالث صار المهندس في حالة يرثى لها فالعطش أخذ منه مأخذه وصار صاحبنا يفتش في كل طوابق المنصة للمرة العشرين بعد المئة عله يجد قارورة ماء تسعفه وتسد رمقه، لكن هيهات. في هذه النقطة قرر صاحبنا قراراً حاسماً لا رجعة فيه وهو كالآتي: إذا لم يأتي احد لنجدته في اليوم الموالي فانه سيقوم باستعمال قارب النجاة الموجود على المنصة وذلك برميه في البحر فيقوم القارب بفتح نفسه ثم ينتفخ القارب تلقائياً ثم يركبه ويحاول ان يتحرك به ولكن الى أين؟ لا يعلم ذلك طبعاً لكنه وصل الى حالة يصعب عليه التفكير بشكل سليم ومنتظم من الم الجوع والعطش. وفعلاً مرت عليه الليلة الموالية فنام على ارض المنصة الحديدي ولم يستفيق الا في اليوم التالي وقد اصبح يجرجر
اقدامه بصعوبة شديدة. عرج المسكين الى قارب النجاة ورماه في البحر

  

           قارب النجاة موجود على كل المنصاة

وحالما لامس قارب النجاة الماء انفتح تلقائياً وصار جاهزاً لكي يجلس فيه.

   

             قارب النجاة بعد ان ينتخ تلقائياً

ركب القارب وصار يستعمل المجداف الذي بداخله كي يبتعد عن المنصة. وبعد ان سار بما فيه الكفاية توقف عن التجديف إذ خارت قواه واستلقى على ضهره كي يستقبل الموت. كان يعلم تماماً انه إذا ما وضع ماء البحر في فمه فانه سيصاب بالتسمم وسوف يبدأ بالهلوسة. لذا حاول جاهداً أن يبعد فكرة الشرب من ماء البحر.
في داخل القارب اكتشف ان الشمس التي كانت متوارية بداخل المنصة، اصبحت الآن مباشرة فوق رأسه وصارت ترفع من حرارة جسمه الى مستوى عالٍ جداً حتى وصل الى حالة الاغماء. وعندما فقد الوعي سقط رأسه على حافة القارب وتدلت احدى يديه في ماء البحر. صار السمك الصغير يقضم اصابعه فابتدأ الدم يسيل منها. وبعد بضع ساعات وهو على هذه الحالة عثر عليه احد القوارب الذي يحمل طاقم صيانة تابع لقسم الانتاج في حقلنا. فانتشلوه من قارب النجاة وادخلوه قارب الصيانة وعالجوا اصابعه التي كانت تنزف دماً وحاولوا ارجاعه للوعي الا انهم لم يكونوا مؤهلين لاسعافه بشكل صحيح فنقلوه مباشرة الى البارجة السكنية، ومنها نقل بطائرة مروحية الى مدينة ابو ظبي حيث تلقى العلاج اللازم في المستشفى وبعد مضي اسبوع عاد والتحق بعمله في الحقل. وهنا صار يحكي قصته لزملائه فانتشرت القصة في الحقل كالنار في الهشيم. وبذلك اصبح حديث الساعة، وكما تصفها المسلسلات المصرية (صارت قصته قضية رأي عام). وابتدأت التحليلات ذات اليمين وذات الشمال. وعندما سألوني عن رأيي بما حدث قلت، يبدو ان الاخ المهندس المصري لم يكن على دراية كافية بنظام العمل في حقل زاكوم ولم يكن قد أدخل الى اي دورة تدريبة تخص اجهزة ومعدات البحر او طرق السلامة. والسبب في ذلك هو انه كان بامكانه الصعود الى الطابق العلوي في المنصة من اول يوم، وفتح جهازنا جهاز الحاسوب RTU والقيام بغلق مفتاح التشغيل فيه OFF. لان ذلك سيجعل جرس الانذار يضرب عندنا في غرفة السيطرة في الطابق الخامس بالبارجة السكنية وبذلك نقوم بزيارة المنصة فوراً لاصلاح ما يبدو انه عطل كلي في جهازنا. وهذه في نظري اسهل طريقة لارسال صرخة استغاثة.
النقطة الثانية وهي الاهم، ان قارب النجاة يحتوي على عدة تسمى بالنجليزية water desalination kit تمكن ركاب القارب من تحلية ماء البحر والتعليمات مكتوبة بعدة لغات منها العربية. فكان بامكانه ان يغرف من ماء البحر باستعمال الحاوية البلاستيكية الموجودة بداخل العدة ثم يضيف عليها بعض السوائل الموجودة بداخل العدة فيتحول ماء البحر الى ماء صالح للشرب. الا ان ذلك لم يخطر بباله او انه لم يكن يعلم بذلك اساساً.
كان هناك احتمالاً ثالثاً لكنه يأخذ وقتاً طويلاً. ويلخص في ان يكتب رسالة ويضعها في قنينة ويرميها في البحر في امل ان يلتقطها احدهم فيقوم بانتشاله من المنصة. (انا امزح طبعاً).

   

المهم في الامر ان ذلك المهندس بعد ان عمل لمدة شهر واحد فقط قرر عدم الاستمرار في العمل معنا فقدم استقالته وعاد الى بلده.
وقع جدل كبير حول اهمية الزام الشركة بنشر قصة هذه الحادثة الى جميع منتسبي الشركة كي تكون عبرة لمن اعتبر يتحذر منها الموظفون وينتبهون لامور قد تهمم شخصياً وتهم سلامتهم وأن لا يتركوا الامور لغيرهم (والمقصود هنا قسم المواصلات) حتى وإن كانوا يقومون بعملهم على افضل وجه. الا ان الشركة تحفظت عن هذا الخبر ووضعته طي الكتمان.
يتبع...

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

https://algardenia.com/maqalat/34823-2018-04-01-16-41-03.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

599 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع