الصراع على السلطة، وسقوط الإمبراطورية الآشورية

                                           

    الأستاذ المساعد الدكتور صلاح رشيد الصالحي

                    تخصص تاريخ قديم

الصراع على السلطة، وسقوط الإمبراطورية الآشورية 

   

صورة خيالية لسقوط نينوى وهي آخر عاصمة آشورية عام (612) ق.م على يد تحالف ميدي –بابلي-اسكيثي

كان الملك اشوربانيبال (آشور-ﭙاني-اﭙلِ)(Aššur-bāni-apli) (669-626) ق.م ابن الملك اسرحدون، معنى الاسم بالأكدية (اشور خلق الوريث)، وقد حكم (43) عاما، وأصبح ملكا على آشور بتأييد جدته نقية زاكتو أو (نجية زاكتو) (Naqi'a Zakitu) ويعني اسمها بالآرامية (نقي)، آخر امبراطور آشوري يتصف بالقوة وعظمة الإمبراطورية، وآخر فعالياته العسكرية تدمير عيلام (640) ق.م التي اعتبرت خطا في الاستراتيجية العسكرية الاشورية، لان هذه الدولة كانت تقف حاجزا ضد القبائل الميدية والفارسية سابقا، وبزوالها فقد التوازن السياسي والعسكري في منطقة عيلام، وكان الميديون والفرس جاهزين لاحتلال مناطق عيلام، وانشاء مدن على انقاض ما دمره اشوربانيبال، والملاحظ توقف نصوص اشوربانيبال عند عام (639) ق.م، ولا يعرف بالتحديد السبب؟ حتى تاريخ وفاته عام (627) ق.م غير مؤكد، ربما حل غضب الإله مردوخ كما يقول البابليين على رأس اشوربانيبال لتدميره مدينتهم بابل، فسقط مريضا يعاني من مرض عضال، كما توالت نكسات الجيش الاشوري في جبهات القتال، ولدينا بعض المعلومات الدينية المتعلقة بالملك الاشوري العجوز وهو يعاني من الامراض المزمنة، وقد ذكر بأنه محاط بالمتاعب، ونفهم منها تدهورا في شؤون الملك الصحية والشخصية، ويمكن إدخال هذا النوع من الأدب باسم (أناشيد التوبة)، فقد أحتوى النص على تعابير فيها تنبؤ بمصيره المحتوم، ومن المحتمل تنبأ بحدوث زلزال يصيب إمبراطورتيه بعد حين! وفي مثل هذه الحالة تكثر في القصر الدسائس والمؤامرات ويتصارع أبناء الملك للاستحواذ على السلطة، ويبقى القليل من مؤيدي الملك وهم يرون تدهور وضعف الملك والدولة معا، وهؤلاء لا يشكلون قوة تقف بوجه صراع الأبناء لتقسيم تركة الاب، وهكذا توفي اشوربانيبال في شهر سيمانو (حزيران) سنة (631) ق.م، لأن آخر وثيقة معروفة حاليا تعود إلى سنته الثامنة والثلاثين، واستعمل اشور- اطل-ايلاني عبارة في وصف وفاة والده هي (ايل-لي-كو نام-مو شي-شو) والتي تعني (موته في الليل)، وبعد وفاته تسارعت الاحداث وحدث نزاع على العرش الاشوري بين ثلاثة أمراء وهم:
1-الملك اشور-اطل-ايلاني (Aššur-etil-ilâni) (626-623) ق.م: ابن الملك اشوربانيبال، حكم (3) سنوات، معنى اسمه (آشور بطل الآلهة)، لكن هناك عقد من مدينة نيبور أَرخ إلى سنته الرابعة، خاض حروب ولمدة أربعة سنوات ضد منافسيه، وحكم نينوى وحصل على تأييد سكان المدينة والمدن المحيطة بها ولم يكن بينه وبين الاشوريين ثقة يعتمد عليها ربما لان تجربته في الحكم وشخصيته كانت ضعيفة، عموما كان الصراع مرير على العرش، إذا عرفنا بان المشكلة الصعبة التي تواجه الباحثين هي الغياب الكامل للمصادرِ المدونة للإمبراطورية الآشورية التي تغطي هذه الفترة العصيبة من الفوضى في عهد هذا الملك، ويمكن القول بانه حصل على تأييد قادة الجيش، ولكن في نفس الوقت انفصلت ممالك عدة عن السيادة الاشورية، ولذلك خلع عن العرش عام (623) ق.م.
2-الملك سين-شومو-ليشر (Sin-shumu-lishir) (266) ق.م: كان مغتصبا للعرش، وأحتل منصب جنرال (تورتان) (Turtanu) في الجيش الاشوري في عهد اشور-اطل-ايلاني، ورد اسمه في قائمة الملك من اوروك، كما ذكرته نصوص من نيبور (Nippur)، ولم يسيطر على الدولة الاشورية بكاملها انما حكم بابل لمدة سنة واحدة وربما أقل من ذلك، ثم خلع عن حكم بابل بعد قتال ضد سين – شار-اشكن، مما ترك المجال لنبو-بو-لاصر الكلدي أن يسيطر على بابل.
3-الملك سين- شار- اشكن (Sin-shar-ishkun) (627 – 612) ق.م: أبن الملك اشوربانيبال، ومن المحتمل أَخو الملك الآشوري الأخير آشور- اوبالط الثاني (Ashu-ruballit) (612-605 ) ق.م، وقد ذكر في الوثائق البابلية، والقليل يعرف عنه بسبب قلة المصادر في عهده، يبدو بأنه اعتلى العرش في وقت ما حوالي عام (627) ق.م، بعد موت اشوربانيبال، وخاض حروب أهلية ضد منافسيه للسيطرة على العرش، عرف عنه قسوته وشدته وتمكن من عزل المغتصب سين-شومو-ليشر، وخلال الحرب الاهلية استغلت الولايات التابعة حالة الفوضى فانفصلت عن آشور، وأكثرهم أهمية للإمبراطورية الآشورية هم: الكلدانيون (البابليون)، والميديين(Medes) (الفرس)، والاسكثيون (Scythians)، والسيمريين (Cimmerians).
وفي السنة الثالثة من حكم سين-شار-اشكن حوصرت مدينة (نفر) ربما من قبل نبو-بو-لاصر ملك بابل، وقد استمر الهجوم خلال شهر حزيران وإلى تشرين الأول وحتما كان الحصار على (نفر) صعبا جدا حيث انه من دون شك باعت الطبقات الفقيرة اطفالها وارتفعت أسعار الشعير بحيث ذكرت إحدى الوثائق أن القا (qa) الواحد من الشعير كان سعره شيقل واحد من الفضة، أي ثلاثة اضعاف مما كان عليه قبل الفوضى، وهذا يدل على أن حصار نفر كان شديدا جدا، وتذكر وثيقة الأخبار البابلية وصول جيوش اشورية إلى الجنوب أرسلها في أكثر احتمال اشور-اطل-ايلاني لتحرير (نفر) مخافة وقوع المدينة في ايدي نبو-بو-لاصر، وتمكن الجيش الاشوري من تخريب مدينة (شازناكو) (تقع في منطقة ديالى)، واحرق معبدها، ثم تقدم نحو مدينة كيش التي اخليت من سكانها، هذه الاحداث أجبرت نبو-بو-لاصر على رفع الحصار عن (نفر) وتراجع نحو اوروك، واعتبرت هذه الحملة العسكرية محاولة آشورية يائسة لاستعادة الجنوب وانهاء الوجود الكلدي في بابل عام (627) ق.م.
وهكذا كان الصراع على السلطة قاسيا ليس فقط على كيان الدولة انما انعكس على سكان الإمبراطورية الآشورية بين مؤيد لهذا ومعارض لذاك، وكانت هذه الاحداث وما تلاها سببا في نشوء مملكة كلديه قوية في بابل بزعامة نبو-بو-لاصر عام (626) ق.م، وانتفضت الشعوب التي كانت سابقا تدين بالولاء لآشور مكونتا تحالف عسكري شمل الميديين أو (المان-هوردس) (اومان ماندا) وملكهم (كي اخسار) من جهة والبابليين وملكهم (نبو-بو-لاصر) (Nabopolassar) بالأكدية (Nebû-apal-usur)، والقبائل الاسكثية (بالآشوري اشكنازي) (Scythian) من جهة أخرى، وكان الميديين والاسكثيين من الفرسان الأقوياء لان اصولهم قبائل بدوية تمتهن الترحال والتنقل، اما البابليين فيجيدون حصار المدن وتدمير الاسوار، هذا التحالف الرهيب أسقط المدن الاشورية الواحدة بعد الأخرى، ويعلق الباحث (ارنولد توينبي) بان (المقاتل الاشوري الواقف على اسوار نينوى عام (612) ق.م وهو بكامل أسلحته وملابسه المدرعة يفتقد إلى الثقة بالنفس وروح القتال نتيجة للصراع على السلطة ولا يمكن مقارنته بالمقاتل الاشوري العنيد والصلب في عهد آشورناصربال الثاني (Aššur-nâṣir-pal) (883–859) ق.م رغم قلة تجهيزات المقاتلين)، وهكذا تساقطت العواصم الاشورية (أربائيلو، وآشور، وكالخو، ونينوى) الواحدة تلو الأخرى عام (612) ق.م وعانت من التدمير، وهجر الكثير من الاشوريين مدنهم متجهين نحو البوادي كأنصاف بدو، ومنهم من سكن مدينة الحضر، وعند مرور القائد والمؤرخ اليوناني اكسنفون منسحبا مع القوات اليونانية أو من بقي منها بعد خسارة ومقتل كورش الصغير في معركة كونكسا (Cunaxa) عام (401) ق.م قرب مدينة قديمة (بالأكدية URU-ul-li-a ki) تقع شمال غرب بابل قريبة من نهر الفرات، ضد اخية ارتاكزركزس الثاني (404-359) ق.م الملك الاخميني، قدم اكسنفون وصفا شيقا عن سير الحملة وانسحاب المرتزقة اليونانيين على طول نهر دجلة في كتاب (حملة العشرة الاف) أو ما يعرف باسم (Anabasis) حيث أشار بانهم مروا على مدينة تدعى (موصيلا) (نينوى القديمة) وتعجبوا من بقايا اسوارها العالية وابوابها التي تتسع لمرور عربيتين حربيتين معا، وقصورها الفخمة التي كانت مقر امبراطورية كبيرة فيما مضى وأصبحت الان خاوية تعوي فيها الذئاب وابن أوى كان هذا الوصف عام (401) ق.م.

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

662 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع