بقلم " علي المسعود
(ألحياة الوردية ) كذبة اديث بياف في
La Vie en rose
كذبت علينا اديث بياف عندما أخبرتنا بأن الحياة وردية، بل كانت حياتها سلسلة من المعارك بين الغناء والبقاء، بين العيش والحب وهذا كشفه لنا أوليفر داهان مخرج فيلم الحياة وردية الذي يحكي حياة إديث بياف إنما برؤية مغايرة غايتها فهم بياف وتقديم إحساسها وإبداعها وليس عرض فصول حياتها فكان ناجحاً بكل المقاييس بحيث تجعلنا مقتنعين بأسطورة فرنس المغنية أديث بياف او مايطلق عليها الفرنسيون ( العصفورة الصغيرة ), La Môme, الإبداع يولد دائماً من رحم المعاناة، وأن الفنانين ربما خلقوا كذلك بسبب أرواحهم الحساسة الشفافة قصيرة العمر، وبأنهم على الرغم من كل شيء، دائماً ما يملكون هذه النظرة الوردية للحياة، رغم أنها غالباً لا تكون كذلك فعلاً.
صوتها يثير الشجن والفرح والألم والبهجة وكل الأحاسيس، يكسر القلب حين يكون فرحاً ويلمّه حين يكون مفتتاً. صوتها يعكس حياتها المأساوية وعذابها الذي عاشته منذ ولادتها في أحد شوارع باريس الفقيرة، وهجر أمها ذات الأصل المغربي الإيطالي المغنية في الشوارع، التي تركت ابنتها لجدتها عائشة التي أهملتها ايضاً وتسببت في مرضها، ثم انتقالها لجدتها لأبيها التي تملك ماخوراً في نورماندي التي رعتها كما ينبغي إلا أن الأسى لم يرحمها فأصيبت بالعمى بسبب التهاب في عينيها وهي لم تتجاوز الخامسة، ثم أخذها أبوها معه إلى السيرك الذي يعمل فيه كبهلوان متجول إلا أنه طرد منه بسبب سكره وعنجهيته. وظل يحوم في شوارع باريس وطفلته إديث معه محاولاً كسب عيشهما من حركاته البهلوانية التي لم تكن تلفت انتباه الناس. حتى جاء يوم وهو يؤدي حركاته طالبه الناس بأن يجعل ابنته تقدم شيئاً فأجبرها على التصرف ولم تكن تجيد سوى الغناء الذي كسبته من جريها وراء أمها وهي في التاسعة ومن النساء في الماخور. فغنت وأذهلت أبيها وأذهلت الناس ومن يومها أصبح الغناء حرفتها. تحولت إلى مغنية شعبية في أزقة باريس تكسب قوت يومها وترعى أبيها السكير. ثم موت ابنتها وهي بعمر الثانية التي تركتها برعاية أبيها ولم تكن في هذا بأحسن من أمها التي وجدت أن حياة الشارع لا تناسب تربية طفلة،إلى زواجها وطلاقها المتكرر عدة مرات ونجاتها من ثلاثة حوادث مميتة، إلى موت الشخص الوحيد الذي أحبته وتعلقت به، إلى إدمانها وإصابتها بالسرطان وموتها المبكر . تعلمت كيف تعيش بمرح وكيف تستخدم صوتها بعد أن طارت من قفص أبيها الذي ارتزق من عذوبة ذلك الصوت لسنوات، فكانت تجوب طرقات باريس تغني وتصدح بأغنياتها في صخب ومرح وانسجام فتستوقف المارة شغفاً وإعجاباَ. لم يكن يهمها شيء ولا تعيش لشيء، وحين تغني تحلق في سماء صوتها ,
انطلقت للعالم على يدي لوي ليبلي Louis Leplée تغني فأسرته وأقنعها بالغناء في الملهى الذي يملكه ويرتاده الناس من مختلف الطبقات. وبالرغم من شخصيتها المضطربة إلا أنه لم يستسلم وظل مخلصاً في تقديمها للناس مقتنعاً بطاقتها، وأطلق عليها اسمها الفني هذا الذي يعرفه بها الناس حتى اليوم: العصفورة الصغيرةLa Môme Piaf والذي رافقها في مسيرتها الفنية , بعد ذالك كانت المؤلفة والموسيقية مارجريت مونو ( Marguerite Monnot ) التي أمنت أيضأ بقدرة بياف فكتبت لها معظم اغانيها ورافقتها لوقت طويل. كانت إديث تحب لوي ليبلي كثيراً وتعتبره أباً لها، إلا أنه مات مقتولاً ولسوء حظها أنها اتهمت بقتله فهاجمها الناس والصحافة وطردت من كل مكان تغني فيه بالرغم من إثبات براءتها حتى رآها رجل الأعمال والملحن والمؤلف الموسيقي رايموند أسو Raymond Asso الذي أخذ بها تماماً وقطع على نفسه وعداً بتعليمها الغناء والأداء الجيد كما يليق بفنان عظيم، وإيصالها للشهرة. كانت إديث وهي تغني جامدة لا يتحرك إلا فمها فعلمها رايموند أن تعطي ليديها الحياة وهي تغني، أن تمثل الحالة وأن تجسد الإحساس، فنجحت في ذلك مما زاد ثقتها وقوتها. بعد ذلك قدمها في أول حفل موسيقي راق بقاعة أي بي سي الشهيرة. لم تكن تلبس إلا الفساتين السوداء التي أصبحت علامتها البارزة وكأنها تنقل للسواد الضوء من روحها وصوتها. نجحت في ذلك الحفل نجاحاً باهراً وأصبحت حديث الصحافة الفرنسية، وكانت نقطة التحول في مسيرتها الفنية.
في بداية الأربعينات، بدأت إديث بياف تستقر وازدادت شهرتها وأصبحت حديث الناس والمنتجين والمؤلفين وأصبح لديها الكثير من الأصدقاء المشهورين من ممثلين وفنانين وشعراء. إلا أن الشاعر الفرنسي جان كوكتو كان من أعز أصدقائها، حتى أنه حين تلقى خبر وفاتها قال: لن أستطيع أن أتنفس بعد الآن”، وبالفعل مات بعد ذلك بساعات. أحبت إديث بياف جان كوكتو وقد كتبت له مرة رسالة تقول فيها: ” أريد دائماً أن أحميك من قسوة هذه الحياة، لكن كلما رأيتك شعرت بك تمنحني الحياة”.
لاقت إديث من منتصف الأربعينات و بداية الخمسينات شهرة ساحقة في فرنسا وأمريكا والمملكة المتحدة بالرغم من تدهور صحتها وإدمانها وعنادها الدائم وعدم الأخذ بنصائح الأطباء. كانت شغوفة بحب الناس لها ولم تكن تعتذر عن الغناء مهما كانت ظروفها، فقادها هذا الحب للوقوع في آخر حفلة لم تقبل الاعتذار عنها مع أنها كانت بالكاد تقف.
“أعطني قلبك وروحك لتظل الحياة وردية للأبد…هذه الكلمات من أشهر أغنياتها ” الحياة وردية La Vie en Rose”التي غنتها أثناءالاحتلال الألماني لفرنسا في منتصف الحرب العالمية الثانية، وهي أكثر اغنيتها شهرة وتداولاً لارتباطها بحدث تاري, في الواقع الحياة لم تكن وردية جداً مع إديث جيوفانا غاسيون، الفتاة الصغيرة التي هجرتها أمها المغنية في سبيل تحقيق شهرتها، هذا الهدف الذي لم يتحقق بأي حال من الأحوال، كل ما حدث أنها تحولت إلى سيدة بائسة تستجدي الناس من أجل الطعام، بعدما حولت ابنتها إلى أتعس طفلة في العالم كانت تحاول خداع نفسها مرة اخرى عندما غنت آخر أغنياتها، “Non, je ne regrette rien” أو “لا..لا أندم على شيء”، الحقيقة أن الندم والقهر هما ما قتلا العصفورة الصغيرة في سن السابعة والأربعين، بعد سلسلة من الأحداث المآسوية، لم تنجح بعض لحظات السعادة والنجاح التي تخللتها في تبديدها ولو قليلاً , والحديث عن فيلم الحياة الوردية وبالفرنسية
La Vie En Rose , الفيلم يتابع حياة المغنية الفرنسية الشهيرة ( أديث بياف ), والفيلم يسرد حياتها منذ مرحلة الطفولة الى آخر أيام حياتها , قامت الفنانة Marion Cotillard ماريون كوتيارد ) بأداء دور المغنية Edith Piaf في الفلم , وكان أداء مميز للغاية حيث انها اكتسبت أوسكار كأفضل ممثلة في دور رئيسي في سنة 2008 . طبعاً فلم كهذا و الذي يوثق حياة واحدة من أشهر وأفضل المغنيين يحتاج له مخرج قدير بإمكانه اظهار حقيقة حياة Edith Piaf بالشكل المطلوب والصورة المناسبة للمشاهد وكان للمخرج الرائع Olivier Dahan طريقة عرضه الأحداث مميز جداً وقد ركز على تجربة فقدان البصر كانت هامة جداً في حياة بياف، أعتقد أنه كان سبباً في زيادة نمو حواسها الأخرى، يبدو أنها كانت ترى فعلابقلبها، الأمر الذي صاحبها بعد ذلك طيلة حياتها، وجعلها تملك كل هذا القدر من الإحساس والعاطفة , وكذالك
عندما عاد والدها من الحرب، وصحبها معه في جولاته كفنان شارع، على الرغم من القسوة التي صوّر بها الفيلم والدها، إلا أنها كانت قسوة التعساء، في الواقع، أحبت إديث بياف والدها بشدة، والدها الذي لم ينسَ نظرتها إلى دمية أعجبتها في واجهة عرض محل ليشتريها لها بعد ذلك، هذه هي اللحظات التي تتذكرها السيدة على فراش الإحتضار بعد عشرات السنوات، وليس لحظات القسوة والبؤس والفقر,
الناقد السينمائي علاء المفرجي في كتابه الذي يحمل عنوان "أفلام السيرة الذاتية: يعريُعرِّف المفرجي الـBiographical movie بأنه «فيلم يُصوِّر ويُمسرِح حياة شخصية تاريخية مهمة من الزمن الماضي أو الحاضر.... ويروي قصة حياة بدرجات متفاوتة من الدقة» (ص11)، ويمكن أن نضيف بأن هذه الشخصية تستعمل اسمها الحقيقي ولا تتوارى خلف اسم مُستعار. لا يشترط الناقد أن يكون هذا الشخص السيري مَلِكاً أو زعيماً أو عالما أو فناناً حسب، بل يمكن أن يكون مجرماً أو تاجر مخدرات أو شخصاً خارجاً على القانون لذلك تنوّعت أفلام السيرة الذاتية وجمعت بين الملحن، والطبيب، والمُخترع، والمُغامر، ورجل الدين، والبطل الرياضي وما إلى ذلك. جدير ذكره أن بعض هذه الأفلام يركّز على مراحل الطفولة والصبا والشباب، وبعضها الآخر يتناول إنجازات الشخصية السيرية بعد مرحلة النضج والبلوغ الذهني. من المشاهد التي تترسخ
في الذاكرة والتي لابد ان تترك اثرأ جماليا عند المشاهد في فيلم ف (الحياة الوردية ) بالتحديد حين تعتلي (بياف) -أو العصفورة الصغيرة خشبة المسرح لأول مرة بدلاً من رصيف الشارع وخشبة الحانات القذرة, وبتلاعب ذكي من االمخرج الذي جعل موسيقى الفيلم الهادئة خلفية لهذا المشهد بدل صوت الطائر المغرد .
كهولة (إديث بياف) لم تكن أكثر إختلافاً عن ماضيها, فبحثها المستمر عن حبها الضائع والمتمثل بشخص الملاكم (مارسيل سيردان) قادها إلى الهاوية وأبكر بإنهاء مشوارها الفني في عمر قصير (48 عاماً), ولكن “لا أندم على شيء” كما تقول (بياف) في إحدى أشهر أغانيها.
عندما أحبت إديث الملاكم مارسيل سيردان رغم أنه كان متزوجاً ولديه أطفال، لم تستطع السير وراء العقل والمنطق بأن مصير حبهما بالتأكيد هو الفراق، بل اندفعت ورائه بكل مشاعرها، حبها لمارسيل كان أقرب لحب طفولي عارم وعميق، حب منحها القطعة الناقصة في أدائها على المسرح، وهي العاطفة والشعور بكل كلمة، وله غنت أغنيتها الأشهر، الحياة وردية، التي كتبت كلماتها بنفسها. حتى أيامها الأخيرة، التي وقفت فيها مزهوة على المسرح، تغني أغنيتها
الأخيرة من تأليف الشاعر العظيم شارل دومون، الأغنية التي جعلتها تغير رأيها بعد الإعتذار عن حفلها المنتظر على مسرح أوليمبيا، لتمنحنا هذه القطعة الآسرة من العاطفة الخالصة النقية. ولتحاول إثبات قوتها وانتصاراتها لنفسها وللعالم، معلنة عدم ندمها على أي شيء.
لا .. لا شيءَ قَطُّ !
لا .. لستُ نادمةً على شيء!
لا الخيرُ الذي قدموه لي
ولا الإساءات ..
فكلها .. صارت لديَّ سواء !
لا .. لا شيءَ قَطّ
لا .. لست آسفة على شيء
قد دُفِعَ الثمن ، ومضى، وصار طيَّ النسيان
وأنا .. سعيدةٌ بماضيَّ..
في هذا الفيلم الذي يستذكر حياة أسطورة الغناء الفرنسية شهدنا ولادة حسناء هوليود (ماريون كوتيارد) في دور لبسته من قمة رأسها إلى أخمص قدميها, والجمهور في ذهول. وأعتقد أنه ليس من باب المبالغة عندما أقول أن تجسديها لشخصية (إديث بياف) يمكن إدراجه كأفضل أداء في إقتباس السيرة الحياتية لفنان من الجانب النسائي, بالطبع هذا الآداء المدهش والعبقري من كوتيار، والذي أهلها للحصول على جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة عام 2008 باستحقاق وإجماع، كأننا نشاهد فيلما تسجيلياً عن اديث بياف ورحلتها مع البؤس والألم منذ وجدها والدها العائد من الحرب وهي ملقاة على سرير حقير في بيت جدتها لأمها تعاني البرد والجوع والإهمال، وحتى عندما أودعها بعد ذلك في منزل والدته و كان في الحقيقة بيتاً لبائعات الهوى،
ملاحظة أخيرة, لم يكن المكياج فقط ذو الفضل في تحويل ماريون إلى امرأة أخرى، لكنه كان الذوبان في هذه الشخصية وسحرها، لتقدم أفضل فيلم سيرة ذاتية صنع حتى اليوم برأيي ورأي العديد من النقاد .
علي المسعود
المملكة المتحدة
2141 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع