أ.د. ضياء نافع
قراءة في كتاب (سماء بغداد القرمزية) بترجمة د. الحمراني
هذا كتاب مهم جدا في تاريخ العلاقات الروسية – العربية عموما وتاريخ العلاقات الروسية – العراقية خصوصا, وذلك لأن مؤلف هذا الكتاب الراحل فيكتور باسوفاليوك كان خبيرا كبيرا في شؤون الشرق العربي واللغة العربية و الترجمة من الروسية الى العربية وبالعكس , وعاش سنوات طويلة في العراق واليمن ومسقط و سوريا وتدرّج في العمل بالسفارة السوفيتية ومن ثم الروسية في تلك البلدان كل هذه الفترة الطويلة اولا , وثانيا , لانه كتب هذا الكتاب على شكل سيرة ذاتية تفصيلية وليس كدراسة اكاديمية لاحداث سياسية معينة , اي انه كتب سطورا وصفحات لم يتوجه بها الى قارئ محدد , وانما كتبها على شكل خواطر ووصف لاحداث عايشها ( ..اعود مرة بعد اخرى الى احداث اعوام 1990 – 1991 . وها اني اجلس اخيرا لاقوم بوصفها , لكني لا اعرف متى سأستطيع نشرها . ان قول الحقيقة بصورة سافرة دائما محفوف بالخطر , والاكثر خطورة ما يتعلق بمنطقة الشرق الاوسط ... )ص. 23 , ولم يسمح له القدر ان يكمل تلك الصفحات او يعدّلها او يصلحها او يشذبها او يجعلها ملائمة لهذا الطرف او ذاك , ولهذا فانها رسمت بشكل مباشر وطبيعي وغير مصطنع بتاتا وبصورة حقيقية وواقعية ومطابقة تماما لكل ما رآه وسمعه من كل العرب والروس الذين كانوا يحيطون به طوال هذه الفترة الطويلة , منذ سفرته الاولى للعمل مترجما في السفارة السوفيتية باليمن عام 1964 والى حين وفاته عام 1999 في موسكو , عندما اصبح وكيلا لوزارة الخارجية في روسيا وممثلا آنذاك للرئيس الروسي يلتسين لشؤون الشرق الاوسط .
يقع هذا الكتاب في 302 صفحة من القطع الكبير , ويضم في بدايته مقدمة خاصة بالطبعة العربية كتبها بوغدانوف ممثل الرئيس الروسي بوتين الى الشرق الاوسط و نائب وزير خارجية روسيا الاتحادية الآن , وهذه المقدمة بحد ذاتها تعني وتؤكد الاهمية المتميزة لهذا الكتاب , والقيمة الخاصة التي توليها الدولة الروسية الحالية لما كتبه باسوفليوك باعتباره ( .. تصور شخصي عميق لرجل لم يفهم وحسب – بوضوح ودقة – تلك الاحداث , ولكنه بالدرجة الاولى عايشها بعقله وقلبه وروحه .) كما جاء في مقدمة بوغدانوف تلك . وكتبت ارملة المؤلف في بداية الكتاب ايضا كلمة أشارت فيها الى وقائع مهمة جدا حول الكتاب , منها, ان مخطوطة الكتاب ( ..بقيت فترة طويلة ملقاة على المنضدة ..بعد رحيل زوجي في الاول من اغسطس 1999 ..وعدت الى المخطوطة عام 2008 ..) , وتذكر , ان زوجها ( ..كان يشك هل بوسعه نشر ما كتبه ..).
يتناول الكتاب عدة مواضيع كبيرة ومتشعبة جدا في تاريخ العلاقات العربية – الروسية بشكل عام , ولكن العراق يشغل المكان الاوّل في تاريخ تلك العلاقات , وذلك لان المؤلف عمل على مدى سنوات في السفارة السوفيتية في بغداد , ثم أصبح سفيرا لبلاده بعدئذ , وبالتالي فقد عاصر احداث العراق الجسيمة وتعايش معها . ان المواضيع التي يتناولها هذا الكتاب لم يسبق ان كتب حولها لا المؤرخ العراقي ولا المؤرخ الروسي , منها مثلا , الصورة التي رسمها باسوفاليوك لصدام حسين , ولنقرأ في ص. 25 ما يأتي – ( كنت أنظر لصدام طيلة سنوات تعرفي عليه اي منذ بداية 1969 , بهدوء. وبدوره تعامل معي بمودة . وعلى كل الاحتمالات ابتسم لي , وخاطبني باسمي , ومن وقت الى آخر ربّت على كتفي . ولكني في هذه المرّة في 25 يوليو 1990 لم أشعر فقط – وبشكل مفاجئ– بعدم ارتياح شديد تجاهه , وانما شعرت بالخوف منه. كانت عيونه في هذه المرّة مرعبة , ولاح فيها شرّ خارق للعادة . بعد ذلك أدركت انه في تلك الساعات بالذات تبنى أصعب قرار في حياته , وعانى من الشكوك , هل سينجو من العقاب على المغامرة الكبرى التي يخاطر بها ) . او لنقرأ جملة اخرى حول صدام في ص. 28 – ( .. وللأسف حتى أنا الذي عرفته سنوات طويلة , لم أقيّم فيه روح المغامرة المنحرفة التي لا تستأصل) . او لنقرأ هذه الكلمات في ص. 92 – ( وأنا لست من محبي عبقرية ستالين كقائد عبقري , فضلا عن هتلر , ولكن خلفهما انتصارات عسكرية , اما صدام فخلفه فقط الهزائم او الانتصارات المشكوك بها , مثل النصر على ايران . وعلى العموم ان صدام كان (فذّا) بسطحيته, فهو لم يعرف اي شئ على مستوى مهني .... وأتذّكر حينما كان صدام يدرس ( يقصد المؤلف عندما كان صدام يؤدي الامتحانات في كلية القانون بجامعة بغداد ) , نشرت الصحف المحلية مقالاته حول .... دور حزب البعث العربي الاشتراكي وبناء الدولة والعلاقات الدولية . لقد كانت نقاشات مدهشة بتفاهتها وبسطحيتها وابتذالها ) . او لنقرأ في ص. 94 – ( اي كلام يمكن ان يدور عن اداء عمل مهني بشكل حسن اذا كانت الوسيلة الوحيدة – تمت بافضل تقاليد الستالينية – تعتمد على اغتيال الزملاء والرفاق). او لنقرأ في ص. 95 – ( انه برز كشخصية فاشلة كبيرة ومتغطرسة بلا حدود ). او لنقرأ في ص. 96 – ( ان صدام وحش لا يمكن تدجينه ) . او لنقرأ في ص. 101 – ( ..واؤكد بمسؤولية ان صدام ..لم يفهم شعبه ومزاجه وميوله الحقيقية ومستوى حيويته ) . لقد كتب باسوفاليوك كل هذا الكلام في زمن صدام وحكمه , اذ انه توفي عام 1999 . ولا يمكن التوسع أكثر بالاستشهاد حول هذا الموضوع الذي لم يتبلور لحد الان لا في الوعي الاجتماعي الروسي ولا في الوعي الاجتماعي العربي ايضا , والامثلة على ذلك كثيرة جدا ويعرفها العراقيون اثناء اختلاطهم بالروس او العرب , ولا مجال في اطار هذه المقالة طبعا حتى الاشارة الى تلك الامثلة او اسبابها , بما فيها طبعا الفشل الذريع للنظام الطائفي الحالي في العراق . ان التقييمات الموضوعية للمؤلف حول صدام تجسّد فصلا صغيرا ليس الا في هذا الكتاب المهم , اذ توجد مواضيع اخرى كبيرة هناك , بل يوجد فصل باكمله في الكتاب بعنوان – ( تأملات حزينة عن العراق ودكتاتوره وعن العلاقات السوفيتية – العراقية ) من ص 88 الى ص 128 , وهو فصل يحتاج الى دراسة معمقة بلا شك. اضافة الى ان باسوفاليك قد تناول في هذا الكتاب مواضيع تخص روسيا و الاتحاد السوفيتي وبيروقراطية أجهزته وقادته والوضع في وزارة الخارجية الروسية وووو..
وبدل الخاتمة لهذا الكتاب توجد كلمة ليفجيني بريماكوف رئيس الحكومة الروسية السابق يتحدث فيها بكل حب وتقدير عن باسوفاليوك , وقد ذكرتني جملته عنه – ( .. وعموما , علي ان أقول, اني لم التق طيلة حياتي مترجما متألقا من العربية مثله , لقد تمتع بموهبة خاصة كأنه اختفى خلال المحادثة التي يترجمها – وهيّأ للمتحدثين التصور بانهما يتحدثان بلغة واحدة , وبهذا بالتحديد يظهر المستوى الرفيع للمترجم ) , أقول , ذكرتني هذه الجملة بمقالتي , التي كتبتها عن باسوفليوك في بغداد عندما سمعت بخبر وفاته عام 1999 , واتصلت بالراحل أمير الحلو وكان آنذاك رئيسا لتحرير مجلة ألف باء وسألته – وبحذر – عن امكانية نشر تلك المقالة هناك , فأجابني أمير بشجاعته المعروفة بانه سيحاول باخلاص نشرها , ونشرها فعلا في الصفحات الاولى لمجلة ألف باء , وحازت تلك المقالة على اعجاب الاصدقاء كافة , ولا امتلك الآن نسخة منها مع الاسف , الا اني أذكر, اني تحدثت فيها كيف عملنا – باسوفليوك وانا – لثلاثة ايام في ترجمة المباحثات العراقية – السوفيتية الثقافية في عام 1972 بوزارة الاعلام , وكيف التقيت به صدفة في احدى الحفلات الموسيقية بعد فترة طويلة عندما اصبح سفيرا لبلاده في بغداد , ولم اقترب منه طبعا , ولكنه القى نظرة على الجالسين في القاعة وشاهدني , فرفع يديه تحية وهو يبتسم , واضطررت طبعا ان انهض واتوجه اليه , وقلت له بالروسية – ( مساء الخير يا سيادة السفير) فقال لي مبتسما- ( وهل نسيت اسمي يا ضياء ؟) , فاجبته – (لا طبعا يا فيكتور , ولكنك الان سفير ) فقال لي ما معناه , ان المناصب لا تجعلنا ننسى الاصدقاء...
الشكر الجزيل للدكتور فالح الحمراني , الذي اختار هذا الكتاب وترجمه عن الروسية بمهارته الدقيقة والعلمية المعروفة , وقدّم بذلك الى المكتبة العربية مصدرا مهما وكبيرا جدا من مصادر المعرفة .
632 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع