العراق ما بعد داعش الجزء (٣)

                                       

                  الدكتور مهند العزاوي *

العراق ما بعد داعش الجزء (3)
الحوكمة ونهضة العراق

يعد مذهب الحوكمة من أبرز وأهم المسالك الاستراتيجية التي يستوجب تطبيقها في المؤسسات الحكومية فضلا عن المنظمات الإقليمية والدولية , , وقد أسست لسياسة الإدارة الرشيدة الضامنة لحقوق كافة اطراف الحوكمة , وبرزت أهمية الحوكمة بعد سلسلة الإخفاقات الحكومية والأزمات المالية المختلفة التي حدثت في العديد من دول شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وروسيا في عقد التسعينات من القرن الماضي , وكان سوء الإدارة والفساد المالي وسوء استخدام السلطة وافتقارها للرقابة والخبرة والمؤهلات فضلا عن غياب الشفافية ومنظومة التشريعات والقوانين المتعلقة بها وآليات تطبيقها , مما استوجب الاحتكام الى مذهب الحوكمة الرشيدة ( الحكم الرشيد) ، الذي يتلخص بوضع الضوابط القانونية والوسائل الرقابية التي تضمن إدارة الدول والمؤسسات دون تعرض حقوق الأطراف للاستنزاف والفساد والسرقة وسوء الإدارة , وعندما نتكلم عن الأطراف فان الطرف الأكثر أهمية في الإدارة هي قيادة الدولة وكادرها المتخصص الذي يملك المؤهلات القيادية والإدارية والخبرة بعيدا عن المحاصصة السياسية والمحسوبية والفئوية التي أضحت سمة العمل السياسي والمؤسسي في العراق , وبالرغم من وجود عدد من المؤسسات التي تتصف في جوهرها بالمنهجية الحوكمية الا انها معطلة بسبب النظام السياسي المعتمد على الخصخصة السياسية للمؤسسات الحكومية وانتشار ظاهرة (عوئلة المؤسسات)[1] مما جعل ظاهرة الفساد تستفحل بشكل كبير وتتصدر المؤشرات الدولية للفساد لتصل الى ارقام فلكية لم يألفها التاريخ القديم والحديث للعراق .

الحوكمة والعمل المؤسسي
يشكل مذهب الحوكمة دليل عمل مؤسساتي متقدم وحديث , يضمن الإدارة الفعالة الرشيدة وجودة الإنتاج المتميز وفقا لمعايير الجودة العالمية , فضلا عن المتابعة الدائمة لسير تحقيق الأهداف الاستراتيجية من خلال تحقق مبادئ الحوكمة كالشفافية والافصاح والمراقبة والمتابعة والمسؤولية والمساواة والمسائلة , وتلك المبادئ عند مراجعتها تعطينا انطباع اننا امام فلسفة الإدارة الراشدة لمؤسسات الحكومية ومتابعتها عبر رقابة محكمة تؤمن انسيابية العمل المؤسساتي , وتضمن توافق الفرد مع المؤسسة لإنتاج افضل أداء يتميز بالجودة المؤسساتية .
تضمن استراتيجية الحوكمة معرفة متقدمة بالهياكل المنتظمة والعمليات المبرمجة اللازمة لتوجيه عمل مؤسسات الدولة والشركات ومراقبتها ومسائلتها , وتهتم الحوكمة المؤسسية بالعلاقة بين اطراف المحيط التفاعلي الداخلي والخارجي , أي شكل العلاقة بين الدولة ومؤسساتها وشكل الالتزام القانوني والمعنوي والأخلاقي مع طاقم الإدارات العليا المؤهل للقيادة الإدارية , وأيضا ترسم العلاقة بين المدير وطاقمه الوظيفي , وجمهور المؤسسة العام والخاص , وتحقق الحوكمة المسارات الاستراتيجية والمنهجية الفاعلة في إدارة الدولة .
متلازمة الفساد والإرهاب في العراق
تؤكد الوقائع وفقا للمؤشرات الرقمية والنوعية في الواقع السياسي العراقي ان هناك علاقة جوهرية وعميقة بين ظاهرتي الإرهاب والفساد, وتشير الوقائع ان الفساد السياسي والإداري والمؤسسي اضعف مؤسسات الدولة العراقية التي عرف عنها بالكفاءة والمقدرة لاسيما بعد بدء الحصار الاقتصادي 1990 وقد القى بضلاله على العمل المؤسسي الحكومي وفتح منافذ الفساد المختلفة , وبعد عام 2003 اتسعت هذه الظاهرة وأصبحت سمة ملتصقة بالعمل السياسي والمؤسسي بل وأضحت القاسم المشترك في كافة مجالات التفاعل المؤسسي الحكومي والخاص وبرزت على الشكل التالي
1. غياب الحوكمة المؤسساتية بالرغم من ان بعض مسارتها كان معمول قبل 2003 بشكل منفرد ولعل ابرزها الرقابة والمحاسبة والشفافية والمسائلة .
2. غياب التشريعات والقوانين الحوكمية التي تحدد الصلاحية وجودة الأداء والإنتاج
3. اشغال المناصب الإدارية العليا من قبل اشخاص لا يمتلكون المؤهلات العلمية والعملية ورصيد الخبرة التخصصية في هذه المجالات واعتماد (الخصخصة السياسية) في اشغال المناصب القيادية والإدارية في مؤسسات الدولة
4. انتشار ظاهرة مزج الفساد السياسي والإداري والمالي في منظومة فساد واحدة تعمل بشكل عنقودي دون الاكتراث بالنتائج والعواقب الخطيرة والقانونية منها المتعلقة بسرقة المال العام واستغلال المنصب وتحويل مؤسسات الدولة الى خصخصة عائلية .
5. انتشار ظاهرة المصارف المالية الحزبية والشخصية والتي بلغت ارقام كبيرة لا توازي حجم التوزان المالي وتعد اول ظاهرة فساد فريدة من نوعها وتحتل الصدارة العالمية في نشر وتشريع الفساد المالي المحصن سياسيا .
6. أتاح الفساد بيئة خصبة للإرهاب والتغلغل للعراق , بل اصبح الإرهاب والفساد يتبادلون المواقع لأجل الديمومة والبقاء متربعين على عرش تدمير راس المال الوطني العراقي وتفكيك البنى التحتية المؤسسية والمنهجية الوطنية والتلاحم المجتمعي مع الدولة .
7. تشكل عصابات الجريمة المنظمة الوافدة والمحلية الحزام الناقل للفساد والإرهاب ويعملان بشكل منظم لتدمير البنى التحتية العراقية
8. يشكل الإرهاب عامل الخداع الاستراتيجي للتغطية على منظومة الفساد العاملة بالعراق والتي تعمل بشكل عنقودي من الداخل الى الخارج لتهريب أموال الشعب العراقي والخزينة العراقية الى خارج العراق دون مسائلة دولية او محاسبة
9. تشكل بيئة الفساد العامل الأساسي والمحوري لنمو مناخ الإرهاب لاسيما في ظل حصانة الفاسدين والمفسدين وتعاظم سطوتهم التي اضجت تفوق سلطة الدولة العراقية.
على ماذا تعتمد الحوكمة
تعد الحوكمة وبمختلف أنواعها على نظام قيادة وإدارة رشيدة محكمة ينتخب الأهداف الاستراتيجية ويجانسها مع البيئة العاملة والموارد الطبيعية والبشرية والمالية , بعيدا عن (الخصخصة السياسية) الجارية في العراق منذ عام 2003 , وتشكل الدولة منظومة متكاملة من المشاركة المجتمعية لتحقيق المسائلة والعدالة والمساواة والاستقرار السياسي والأمني وفعالية الحكومة وجودة التشريع وسيادة ثقافة القانون وترسيخ سلطة القانون ومراقبة الفساد ومحاربته , لتحقيق الترابط الهيكلي طويل الآمد ما بين الاقتصاد والطاقة والبيئية والمجتمع وصولا الى النمو الاقتصادي (رأس المال المادي) إلى التنمية البشرية (رأس المال البشري) ثم إلى التنمية المستدامة (رأس المال الاجتماعي – الوطني ) ويتطلب هذا مايلي :
1. فلسفة قيادة وإدارة رشيدة
2. حوكمة فاعلة وأهداف استراتيجية متناسقة
3. إطار تشريعي فاعل ومتجدد ويراعي المرونة ومتطلبات التطور
4. إطار مؤسسي فاعل ومتجانس وفق وحدة الهدف والتنظيم
5. تنظيم برامج التطوير والإبداع في المؤسسات الرسمية والخاصة بما يؤدي للاستخدام الأمثل والأكفأ والفعال للموارد والمصادر
6. تكامل السياسات وتناسقها بين مختلف المؤسسات الحاكمة التشريعية والتنفيذية والأمنية ، وتحسين التفاعلات بين المؤسسات الحكومية وغير الحكومية ، وإيجاد خطة حكومية طويلة الآمد للاقتصاد والمجتمع ، وتوفر الإرادة السياسية لكل ذلك
7. تنمية الموارد البشرية
8. تنمية الموارد المالية
9. تنمية وتطوير الكوادر الوظيفية
10. تعزيز منظومة الخبراء والمستشارين
11. تطوير وسائل وأساليب منظومات الرقابة الخارجية والداخلية
12.تطوير وسائل وأساليب منظومات الشفافية والمسائلة
13.تطوير النظام الإداري للمؤسسات الحكومية بما يتناسب وحجم التطور الحاصل
14.تعزيز ثقافة الحوكمة الرشيدة
15. تداخل مراحل بناء قدرات الحكومية
16.تطوير وسائل الاتصال والوصول الجماهيري
17. التوعية الوظيفية والمجتمعية الواجبات والواجبات
18.ترسيخ شبكة العلاقات بين الحكومة والمؤسسة والإدارة والجمهور
19.توفير وتحديث قاعدة البيانات والمعلومات
20. محاربة الفساد وتعزيز الثقة بالمؤسسات
تجتاز دول العالم نكباتها وازماتها من خلال الايمان بوجود الدولة واهميتها , ووجود الإرادة الصلبة في معالجة الفساد والظواهر المرتبطة به , كما وتلتزم الدول بتطبيق بنود العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع , وضرورة تنمية الانسان ولا تجعله وقود حرب لصراعات سياسية تمتد جذورها الى الإقليم , وهناك تجارب عالمية كاليابان وألمانيا والهند وكندا وأستراليا ودول أخرى تخطت ازماتها عبر حوكمة عمل مؤسساتها , ووضع آليات تطبيقية لإيقاف استنزاف الدولة والمجتمع , والعراق مقبل على نهضة ما بعد الركام ولابد من تطبيق آليات الحوكمة لتحقيق العدالة والشفافية والمسائلة وإيقاف النزف المجتمعي وتحسين أداء مؤسسات الدولة بما يحقق التنمية والازدهار للعراق وشعبه .
*خبير حوكمة منظر ومؤلف كتاب الحوكمة المؤسسية قيد الإنجاز
دراسة العراق ما بعد داعش الجزء (3)
‏الجمعة‏، 01‏ كانون الأول‏، 2017
[1] . نشرت وسائل التواصل الاجتماعي معلومات عن تحول المؤسسات الحكومية الى مؤسسات عائلية ترتبط بتأثير السياسيين والمدراء حيث يجري تعيين أقارب المسؤول والمدير بشكل جماعي دون الاخذ بنظر الاعتبار عامل التوازن والمؤهلات والخبرة مما جعل المسارات المؤسسية معطلة ومرتهنة بقرار مدير العائلة وليس الدولة , وهذا مخالف لكل معايير العمل الإداري والمؤسسي والوطني نظرا لان مؤسسات الدولة تعمل لصالح الشعب وليس لمصلحة السياسي او من يعنيه في الادارات العليا.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1170 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع