زعماء ليسوا زعماء

                                              

                         إبراهيم الزبيدي

زعماء ليسوا زعماء

إن الذي اتفقت عليه البشرية، وصار من ثوابتها، أن الزعامة تولد مع البعض، جينةً من جيناته، لا تُصَّنع ولا ُتوَّرث ولا تُشترى. 

ومعلوم أيضا أن هناك نوعين من القادة، الأول تمشي إليه الزعامة، حتى وهو لا يريدها ولا يسعى إليها. والثاني متطفل عليها يظل في نظر الجماهير التي تسلق على مناكبها، بالقوة أو بالمصادفة أو بالوراثة، أشبه بنفاية عالقة بثوب الزعامة، وعالة على الزعماء.
هناك من يراه الناس زعيمَ أمة، حتى وهو بلا سلطة لا مال ولا سلاح ولا مليشيا ولا مخابرات أجنبية تقف وراءه.
وأخر، حتى وهو في السلطة، وبيده أموال قارون، وأخطر وأحدث سلاح، وعشرات المليشيات، يظل عابرَ سبيل في عالم الزعامة والرياسة.
وبعضٌ من الرجال يمنح كرسيَّ الرئاسة قيمةً وهيبةً وكرامة، وحين يتركه لا ينقص قدْرا وهيبة وكرامة.
وبعضٌ آخر يحط من قدر كرسي الرئاسة ويُهينه. ولعلمه اليقين بأنه لو نزل عنه لن يكون أكثر من سقط متاع، فإنه يمسك به بأسنانه وأظافره، وقد يموت وهو يقاتل من أجل البقاء عليه.
ونحن في العراق لدينا زعماء، وهم خارج السلطة. ولدينا أدعياءُ زعامة كثيرون يُسوِّدون وجوهَ الزعماء.
والذي شاهد آخر لقاء تلفزيوني لرئيس كردستان (المتنحي)، مسعود البارزاني، على شبكة سي إن إن لابد أن يكون قد صُعق، مثلَ كثيرين، بالمنطق الكارثي الذي اعترف في المقابلة بأنه أدار به معركة (الاستفتاء) الأخيرة، وأوصل شعب كردستان إلى المأزق المحزن الذي وصل إليه.
يقول في المقابلة، "إن الاستفتاء كان عذرا لحكومة بغداد فقط. وخطة بغداد كانت معدة سابقا، ومن وقت طويل، وما فعلته بنا لم يكن مفاجأة لي".
"لكن ما فاجأني هو أن الذين يصفهم الأمريكان بأنهم إرهابيون هاجمونا بأسلحة أمريكية، وهم ينظرون".
فهو هنا يعترف بأنه كان يعلم بما سيحدث لشعب كردستان، سواء بالاستفتاء أو بدونه، ولكنه برغم علمه ذاك كابر وعاند وهدد وتوعد. وهل ينسى أحدٌ إعلانَه المعيب عن أن حدود كردستان لن ترسم بغير الدم؟.
ولو كان قد خرج بمفرده لمبارزة حيدر العبادي، على طريقة معارك الزمن الجاهلي، ويتحمل وحده أوزارها لهان الأمر، ولكنه خارجٌ لقتال حكومات وجيوش ومليشيات وهو يجر وراءه ملايين المواطنين الكورد الذين لن تشوي غيرَهم نيرانُ حربه الخاسرة. أما هو وأبناؤه وأبناء إخوته فلن يمسهم سوء.
أما حديثه عن الأمريكان وعن غدرهم، كما توهم، فله تاريخ طويل تبدأ خيوطه من العام 1990، يوم أقدم الراحل صدام حسين على احتلال الكويت.
فقد أقدم الأمريكان على فرض حظر الطيران Iraqi no-fly zones شمال خط العرض 36 حتى خط العرض 32 جنوبا، بهدف التضييق على نظام صدام حسين، وإضعافه سياسيا واقتصاديا وعسكريا، تمهيدا لإسقاطه، وليس حبا بشعب كردستان.
ولكن زعماء الأحزاب الكوردية اعتبروا ذلك صكَّ غفرانٍ يحصلون عليه من العم سام، وعَدُّوه إيمانا أمريكيا نهائيا وثابتا بحق الشعب الكردي في الاستقلال عن العراق، وكسر أنوف الرافضين الأشداء من العراقيين والإيرانيين والترك والسوريين.
ومن العام 1991 وهم يتصرفون كأنهم كبار يلعبون مع كبار. حكومة داخل حكومة. بل أقوى من أية حكومة. حتى بلغ بهم غرور القوة والغنى أقصى حدوده المحتملة من قبل الآخرين.
وعلى مدى ربع قرن ظل السياسيون الكرد، وخاصة مسعود البارزاني وجلال الطالباني، ينفقون من الجهد والمال، بلا حساب، وبدون وجع قلب، على تعميق صداقتهم بالدولة الأمريكية، وبموظفين مؤثرين في الكونغرس والخارجية والدفاع والأمن القومي والمخابرات.
ويصعب تقدير حجم الذي أفقوه من الهدايا الثمينة، والولائم باذخة، وتكاليف مكاتب ممثلياتهم وقصورهم في واشنطن ونيويورك، وعقودهم مع شركات العلاقات العامة، وما خفي كان أعظم.
وفي لقاءاتنا أيام المعارضة العراقية السابقة كان كبارهم يُباهون بصداقاتهم مع هذا الرئيس الأمريكي، وذلك السناتور والنائب والوزير واالموظف الكبير المسؤول في الدفاع والخارجية والسي آي أي، بما يوحي بأن علاقةتهم بأمريكا أصبحت من ثوابتها التي لن تتغير، مهما تغيرت الإدارات. وكأن كردستان العراق صارت لأمريكا بمنزلة إسرائيل من أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية الراسخة، أو يزيد.
وهذا هو الخلل المميت في مجمل سلوك السياسيين الكرد، ومسعود البارزاني أولهم وأكثرُهم تعلقا بحبال ذلك الوهم الكبير. فقد غاب عنه، وعنهم، أن الصغير حين يلعب مع الكبار لا يتخذون من الصغار أندادا، بل أدوات يستخدمونها عند الحاجة، ووقت الضرورة، وحين تنتهي هذه الحاجة يرمونها في أقرب سلة مهملات. والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى.
وكان على الزعيم البارزاني، وعلى غيره من السياسيين الكرد أيضا، أن يدركوا أن العالم، من أيام أبينا آدم وحتى اليوم، عالم مصالح وحساب ربح وخسارة، ولا مكان لقيم ومباديء وصداقة.
وعلى الزعيم، إن كان زعيما بحق، أن يحسب، وبدقة، ما سيعود على شعبه من أي قرار يتخذه، أو خطوة يقدم عليها. وبدون ذلك لن يكون سوى مقامر لا يستحق أن يقود حتى عنزنتين.
والمحزن الذي كشفته المقابلة التلفزيونية تلك أن البارزاني كان عالما بأن استفتاءه المشؤوم سيجعل الشعب الكردي يخسر موانئه ومطاراته ومراكز حدوده وآبار نفطه و(قدسه) كركوك، ولم يتراجع أو يتواضع، كما فعل غيره قبل ربع قرن من الزمان.
ومؤكدٌ، مئة في المئة، أن من يحلم بأن يظل حاكما حتى لو احترق وطنه كله، ومات أهله أو جاعوا، إما مختل أو منحرف أو مسكون بالشياطين.
بعبارة أخرى، كيف يمكن أن يحكم وأحدٌ دولة ًبلا جيش ولا شعب ولا حدود ولا موانيء ولا مطارات ولا ثروات ولا أمن ولا أمان؟

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1723 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع