د. نسيم قزاز - باحث ومؤرخ تاريخ يهود العراق
إعدام شفيق عدس.- قمة الظلم والإجحاف
محنة يهود العراق
بَدأتْ الحكومة بعد "الوثبة" بملاحقة أعضاء الحزب الشيوعي وانحسرت الدعاية الشيوعية واليسارية في العراق, في حين راجت فيه الدعاية القومية ومعها التحريض ضد اليهود. طلعت صحف "حزب الاستقلال", وفي مقدمتها "اليقظة" و"الاستقلال" بمقالات تنفث سموم العداء والكراهية نحو اليهود, وخاصة صحيفة "اليقظة" المسائية التي اتخذت أسلوبا ومنحى يضاهي الدعاية التي كانت تبث ضد اليهود في المانيا النازية. وانفَردتْ هذه الصحف بنشر تقارير مخيفة عن فضائع اليهود, وعن ذبح الأطفال والنساء, وعن تشريد السكان ودعت إلى فصل اليهود من دوائر الحكومة ومؤسساتها وإلى مقاطعتهم اقتصاديا وما إلى ذلك من تحريض وأباطيل دون رقيب أو وازع. ولم يَتصَدَّ أحد للرد على هذا التحريض وعلى هذه الدعاية. فالصحف اليسارية والديمقراطية لاذت بالصمت وامتنعت من السير في اتجاه معارض للرأي العام الذي سيطرت عليه الأحزاب العنصرية المتطرفة. أمَّا الحكومة فلم تحرك ساكنا للحيلولة دون نشر تلك الدعاية ووقفها عند حدها., وبات من الواضح أن الحكومة راضية عن هذا التهجم على اليهود وربما كان بتشجيع منها.
جابَهَ اليهود آنذاك محنة شديدة, واتخذت حكومة الپاچچي (26 حزيران 1948 - 6 كانون الثاني 1949) إجراءات تعسفية ضد أبناء الطائفة واستمرت الملاحقات وتصاعدت التحريضات.ووجهت إليهم الإتهامات الباطلة, وأدانت المحاكم العرفية الكثير منهم بتهمة الصهيونية والشيوعية وزُجوا في غياهب السجون, وأُقُصوا الموظفون اليهود من وظائفهم في الدولة, ومنع سفر اليهود إلى خارج العراق إلا بكفالات مالية ضخمة وفي حالات استثنائية, وقُيدت أعمالهم التجارية, وتقلص نشاطهم التجاري.
شفيق عدس – ضحية الظلم والإجحاف
كان الأخوان شفيق وابراهيم عدس من يهود سورية, قدِما إلى بغداد بعد الحرب العظمى الأولى وعملا في التجارة.فأصابا فيها نجاحا مرموقا. وهُيء لهما الحصول على وكالة فورد للسيارات وسواها من الوكالات المعروفة فأنشآ محلهما في بغداد والبصرة, فكان أبراهيم يدير محل بغداد ويدير شفيق محل البصرة. ولما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها عرضت سلطات الجيش البريطاني والأمريكي أنقاض الحملة العسكرية في جنوب العراق وإيران للبيع, وكانت تتضمن سيارات وآلات ومهمات عديدة أخرى في حالة صالحة أو تالفة. وألف شفيق عدس شركة مع ناجي الخضيري وعدد آخر من رجال الأعمال المسلمين واليهود. فاشتروا تلك الأنقاض وفرزوها وباعوها في داخل العراق وخارجه.
ولما ذهب الجيش العراقي مع سائر الجيوش العربية إلى فلسطين, على أثر إعلان دولة إسرائيل, اتُهم شفيق عدس دون غيره من الشركاء بتصدير لوازم حربية من تلك الأنقاض وبيعها بعد ذلك إلى العدو الإسرائيلي عن طريق وكلاء إيطاليين. وزُعم أن تلك الأنقاض تضمُّنت أسلحة وعتادا. وأُحيل عدس إلى المجلس العرفي الخاص المنعقد في البصرة واقتصرت المحكمة عليه ولم يحاكم أحد من شركائه المسلمين, فحوكم وأُدين وحُكم عليه بالإعدام شنقا. كل ذلك تم بسرعة البرق إذ جرت المحاكمة خلال ثلاثة أيام لا أكثر, من 11 إلى 13 أيلول (سبتمبر). فبعد أن أنهى المدعي العام قراءة لائحة الإتهام وادلى شهود الإدعاء بشهاداتهم أعلن رئيس المجلس, عبد الله النعساني, عن انهاء المرافعة "لأن كل شيء أصبح واضحا ولا حاجة لتضييع الوقت", واحتجاجا على ذلك قدم ثلاثة محامي عدس استقالاتهم. ثم أسرع الوصي على العرش, الأمير عبد الإله, وصادَق على قرار المحكمة ونُفذ الحكم علنا في ساحة أمام قصرعدس في البصرة في 23 أيلول (سبتمبر) من عام 1948. وبقيت جثته مُعلقة أمام داره عدة ساعات.
وكان مِن فقرات الحكم على شفيق عدس مصادرة أمواله المنقولة وغير المنقولة وقُّيِّد ما يتأتى منها لخزينة الدولة. ثم عُين ثلاثة مصفين لتصفية أمواله واستغرقت إجراءات التصفية أكثر من خمس سنوات.
وقد نبَّهَهُ أصدقاؤه الكثيرون أن يهرب إلى إيران بعبور شط العرب فلم يهتم بذلك معتقدا أن له من الشهرة والنفوذ ما يكفل براءته ولا يستطيع أحد أن يمسه بسوء. وهكذا ذهب ضحية لاعتماده على صداقته مع الوصي وغيره من الوزراء وتهاونه الذي أدّى به إلى شر المصير.
شفيق عدس تحت حراسة مشددة
كان لهذه المَأساة أثرها العميق في نفس كل يهودي في العراق, فهلعت قلوب وانكمشت نفوس.
يقول الكاتب اسحق بار موشيه, الذي عايش الأحداث في العراق, في كتابه "الخروج من العراق":
"إن مُحاكَمَة شفيق عدس هي محاكمة رمزية بكل معنى الكلمة. إنها تحْمُل صورة كاملة للمحاكمة التي تريد السلطات إجراءها لكل يهودي في العراق, أو ليهود العراق ككل...الأقلية اليهودية في العراق بريئة من كل التهم التي تنسب إليها. وشفيق عدس بريء هو الآخر من كل ذنب من الذنوب التي ألصقوها به... لقد اشترى الرجل [شفيق عدس] مع شريك مسلم, عراقي صميم, أموالا خردة "سكراب" من البريطانيين, وكانت لديه إجازة شراء رسمية. وبالمُناسبة أخذ الجيش العراقي كل ما هو صالح له من هذه ألمخلَّفات. ولم يترك إلا حدائد صدئة. ثم قام الرجل ومعه شريكه المسلم, الذي هو من عائلة الخضيري, وهو تاجر كبير مثله, بتصدير الحدائد الخردة إلى إيطاليا أو اليابان, بإجازة حكومية رسمية نصت على كل شيء. وكانت العملية شرعية من الألف إلى الياء, كما كانت التجارة في حالتي البيع والشراء, تجارة قانونية. إنَّهم ينسبون إلى الرجل الآن, أنه اشترى مخازن أسلحة من البريطانيين, وأنه باع هذه الأسلحة إلى الصهاينة في فلسطين, الذين حوَّلوها إلى سلاح وحاربوا به العرب والجيش العراقي كله. إنها تهمة سخيفة تنقصها من الأساس, كل الوثائق الرسمية والإجازات...إن شفيق عدس يمثل يهود العراق كلهم... وهو يمثل الطبقة الأرستقراطية اليهودية التي ينظر إليها باحترام , ليس سادة البلاد فقط, بل كذلك كل يهودي. الضربة التي أنزلتها به الحكومة هي إذن ضربة لكل اليهود. إنها تريد أن تقول لنا : أستطيع أن أسحق أهمّ رجالكم وأعلاهم شأنا وأكبرهم مقاما, تحت حذائي....
وأضاف بار موشيه قائلا :
إذا كانوا سيعدمون هذا الرجل سيكون ذلك دفعة عظيمة أو هزة هائلة, لكل يهودي يعيش في هذه البلاد...إننا مجرد أقلية تعيش تحت رحمة قوة ضارِية ...ولدينا حكومة عمياء تتحرك كقوة شَيطانية سوداء خفية...أنا أرتجف في قرارة نفسي وأشعر بالخوف يجمد أوصالي...إن واقع اليهود العراقيين اليوم, قد تغيّر من النقيض إلى النقيض...إنهم يوجهون لنا صدمة كهربائية عَنيفة مدروسة التفاصيل من الألف إلى الياء. ونحن ما نزال نائمين. "
قابل العين عزرا مناحيم دانيال الوصي على عرش العراق وكلمه بشأن شفيق عدس وروبين بطاط, النائب اليهودي الذي سيق هو الآخر إلى المحكمة بتهمة التصديق على وقف للجمعية الصهيوتية حين كان نائب رئيس محاكم البصرة قبل ربع قرن, مع أنه لم يخالف القانون لأن الصهيونية كانت مشروعة آنذاك, فحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات,
فوعد الأمير بإعفاء الأخير ولكنه امتنع من إعطاء وعدا في قضية عدس.
ثم سارع للتصديق على إعدام عدس.
نفوس أمارة بالسوء
إن عدم محاكمة ناجي الخضيري الذي أقام وشفيق عدس الشركة تشير بوضوح أن الضربة كانت مصممة للإطاحة باليهودي دون غيره من الشركاء ومن خلالها إلى جميع يهود العراق, . فلو كانت نية السلطات العراقية صافية لتحتم عليها جر السيد ناجي الخضيري إلى المحكمة, "لكنه من خيل علوان وممنوع مسّه بشئ". ولو كانت المحكمة نزيهة لما استغرق حكم الإعدام فيها 3 أيام فقط ولما أصدرت حكمها على متهم استقال محاموه وبات دون معين. لقد كانت نفوس السلطات الحكومية والقضائية حينذاك أمارة بالسوء. ولا أستثني الوصي الذي أسرع وصادق علي حكم غاشم وغير نزيه.
3066 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع