مقدمة كتاب : المقاومة السوفيتية ضد النازي

                                         

                         د.ضرغام الدباغ

مقدمة كتاب : المقاومة السوفيتية ضد النازي

منذ مطلع شبابي وأنا متولع بقرأءة كتب الثورة بالمقاومة، فكراً وأدباً، وتأريخ حركات المقاومة في العالم، وأدب الرفض، أضافت لها تجربتي السياسية والنضالية الكثير، وفي سنوات السجن الطويل، زارني الصديق والرفيق القديم الدكتور رشدي طالب الرشدي، أستاذ الأدب الألماني (اختصاص أدب المقاومة العربي / الألماني) ورشدي أيضاً زميل لدراسة الجامعية، إذ تزاملنا في مرحلة الدكتوراه في جامعة لايبزغ / ألمانيا، وسألني عما أحتاج، فطلبت منه كتب ألمانية فقط. وفعلاً أهداني عدة كتب أدبية وكلها من أدب المقاومة،  غير التي عندي، فأشت غلت كثيراً في السجن وترجمتها وغيرها إلى العربية، كانت الكتب خير معين لتحمل تلك السنين، فترجمت نحو عشرين كتاباً، وبقدرها أو أكثر كتب تأليفاً. حتى أني طلبت من صديقي الصدوق طيب الله ثراه كتباً باللغة الألمانية، فقلت له أن الكتاب والعمل أصبح بالنسبة قضية حياة أو موت، فغر فاه دهشة رحمه الله، وفعلاً أمدني بالكثير منها، كان يبحث عنها في كل مكان ببغداد.

كنت قد ترجمت في وقت بعيد (1986)، كتاب " الحرب الأهلية الأسبانية "، ووقتها عرض علي مبلغ 10,000 دولار ولم ابيع الكتاب، ولكن عندما طبع ونشر عام 2012، لم أستفد بسنت واحد منه .. لاحظ تغير أحوال الدنيا.. ولكن الكتاب حضي بتقريض كبير. وتوالت أعمالي في تاريخ حركة المقاومة، في العديد من البلدان، في أسبانيا، والمقاومة الفرنسية، وتاريخ الثورة الأمريكية، وتاريخ الثورة الكوبية، وتاريخ المقاومة الألمانية ضد النازي (رواية)، وأخيرا المقاومة الروسية.

الأحداث تتكرر كما أسلفت، وخير من وصف هذه المتوالية التاريخية الكاتب الفرنسي الكبير هنري آمور بقوله " الاحتلال الألماني لفرنسا : مقاومون أبطال  ــ متعاونون خونة " هذه الثنائية تتكرر عبر التاريخ وفي كل البلدان، ومن يتأمل ويفهم التاريخ بوصفه علماً مادياً يفهم هذه الثنائية مع وجود عناصر أخرى جانبية. المقاومون لهم منطقهم أن لابد من الحفاظ على الوطن، المحتل مهمته تدير البلاد، ولم يشهد التاريخ لليوم مستعمراً شريفاً، والقضية لا تحتاج إلى ثقافة، بل غيرة الإنسان على بيته فقط. وأذكر أني قرأت مرة نصاً بليغاً، كان جنرال فرنسي مستعمر يحدث رؤساء القبائل في المغرب أو في الجزائر، يحدثهم ويسهب في الحديث، وأخيراً بعد أن شاهد عدم تفاعلهم حديثه، قال:" أنتم لا تفهمون، نحن سنعمر هذه البلاد ونعلمكم الحضارة ".  فأجابه أحد زعماء القبائل، نحن نفهمك ونريد أن نصدقك، ولكننا لا نرى معكم سوى المدافع والقنابل والطائرات والجنود، ولم نشاهد طابوقة واحدة. ولم تبني فرنسا ولا بريطانيا ولا أميركا ولا إيران، وإيران ليست دولة استعمارية (كوصف علمي، المستعمرون دول صناعية) بل توصف حسب تكوينها وسياستها دولة همجية، فكل ما شاهدناه هو التخريب والقتل ومحاولات لمحونا ...!

مرة سألت بروفسور ألماني في كليتنا، قلت له: نحن ندرك بشكل علمي رياضي، أن الاستعمار والإمبريالية خسروا ويخسرون وسيخسرون كافة مشاريعهم التوسعية، وإذا كنا أنا وأنت نعرفها، ألا يفهمها الإمبرياليون والمستعمرون، قال طبعاً ولذلك تراهم يبالغون في القتل والنهب، ويبتكرون طرقاً جديدة يعتقدون أنها ستنقذ نظامهم.

كتبت وترجمت، وقرأت عن تاريخ ثورات وحركات عديدة، من أميركا الشمالية (الولايات المتحدة) وأميركا الوسطى (كوبا)، وأميركا اللاتينية (فنزويلا) والمكسيك، وأوربا (أسبانيا، فرنسا، بلجيكا، النرويج، ألمانيا، اليونان، جيكوسلوفاكيا، والاتحاد السوفيتي " روسيا وأوكرانيا، وفنلندة، وبيلوروسيا " وفيثنام والصين الشعبية، والمغرب، والجزائر، وليبيا). بهذه الحصيلة الوفية من القراءة والكتابة والترجمة، وسماع أناشيد كثيرة بكلمات بليغة جداً، (كنشيد كومونة باريس، وأغنية التضامن من تأليف بيرتولد برشت وغناء أرنست بوش، ونشيد المقاومة الإيطالية بيلا تشاو، ومشاهدة أفلام وثائقية وسينمائية/ ومشاهدة لوحات تخلد المقاومة والمقاومين والشهداء بعض تلك الأعمال سيبقى خالداً مثل لوحة بابلو بيكاسو لوحة غورنيكا عن القصف الألماني الوحشي للقرية الأسبانية / الباسك غورنيكا، ولوحة فرانسيسكو غويا الأسباني إعدام ثوار، وأعمال الرسام الألماني الكبير آرنو رنك، ولوحة ديلاكروا عن ثورة شعب باريس 1830، وأعمال ونصب وتماثيل وجداريات ذات قيمة فنية هائلة، خلقت لدية حصيلة فكرية وذهنية وتصور إنساني قبل كل شيئ عن الثورة والمقاومة والمقاومين ...

قرأت جملاً كثيرة ومصطلحات وعبارات، قرأت وترجمت أشعاراً في غاية التأثر وصفحات كنت أترجمها وأنا أبكي .. قرأت كتابات وترجمتها تقرع في صدغي لا تقبل أن تغادر فكري وضميري : خطاب القائدة الشيوعية الأسبانية دوريس أيباروري، في وداع المقاتلين الأجانب في الحرب الأهلية الأسبانبة ضد الفاشية،  شعر بول إيلوار،  كلمات لا تنسى للشاعر والكاتب التشيكي  يوليوس فرجيك وهذه نفحات منها :

" كنت أتوقع الموت ولكن ليس الخيانة "

" كنا سنذوق الموت أنا وهو، ولكن سائر الرفاق كانوا سيبقون على قيد الحياة ولواصلوا العمل في الطريق الذي سقطنا من أجله. إن الجبان قد يفقد أكثر من حياته، لقد ضاع، فر من جيش المجد، وألحق بنفسه عار الخيانة والقذارة. وحتى من أجل الحياة ...! الخائن لم يعد على قيد الحياة، لأنه وضع نفسه خارج المجموع، لقد حاول فيما بعد أن يفعل شيئاً جيداً، ولكنه لم يفلح أبداً في محو ما فعله في السجن من فضاعات كما لم يحدث أبداً "

"المخلص سيبقى صامداً، والخائن سيخون، الضعفاء سيصابون بالحيرة، والأبطال يناضلون. في داخل الإنسان تستقر غالباً عوامل القوة والضعف، الشجاعة، الخوف، التماسك، الاهتزاز، النقاء، القذارة، وإلى جانب بعضهم البعض، ولكن هنا، لا يمكن إلا لأحدهم البقاء، أو عندما يحاول أمريء، ويا للعجب، أن يرقص بينهما، فإنه سيكون عجيباً، كالذي يريد أن يرقص بريشة صفراء على قبعته، وبيده عصا ملونة في مسيرة جنائزية."

بوسعكم أن تنتزعوا منا الحياة ... ولكن ليس شرفنا ...!

الرفاق الذين سيبقون أحياء بعد هذه المعركة، والذين سيأتون إلينا، إنني اشد على أياديهم ، فإننا قد نفذنا الواجب. إنني أكرر مرة أخرى: ومن أجلكم سوف نموت

" وما هي الحياة بالمقارنة مع مجد البطولة ...!!"

" أمض بشجاعة في هذا الدرب، أو دع الخوف يتملكك وتنح عن الطريق، إنك لن تقدر على ذلك في كل الأحوال، والفساد لا يتسلل إلا من خلال الخوف فقط "

قبل أن يعدم يوليوس فوجيك بقليل، ينهي دفتر مذكراته " تحت ظلال المشنقة " يقول :
أردت أن لأرسم لكم صوراً، ولكن للأسف لم يتبق إلا ساعات قليلة، أقل مما يكفي لإنشاد أغنية قصيرة ".

إن الأدب الثوري، يعلم الشرف، والوطنية، وأن تكون صلباً بوجه أعتى الأعاصير والمحن، أن يقدم الإنسان حياته بسرور لما يؤمن به، شاهدت صورة يعجز عقل الناس اليوم من فهمها، شاب روسي مقاوم، يعدم مع رفيقته، ينظر إليها وهي تهوي في آخر أجزاء الثانية يبتسم ترى ماذا كان يفكر : لقد ربحت ومت قبلي، أو إلى اللقاء .. أو لن ينسانا رفاقنا .. بل قل أيها الشاب البطل لن تنساكم الإنسانية بأسرها ورفيقتك البطلة .. ها هي صورتكما تظهر بعد  75 عاماً في بلد غريب عنكما هو العراق سيقرأ الناس أمثولتكما، وتضحيتكما لم تضع سدى ..! أمثال هؤلاء الشباب بالملايين لا يعرفهم أحد وهذا البطلان يكتب عنهما بعد 75 عاماً ..

    

(لاحظ الابتسامة الصادقة على وجه الشاب والحبل في رقبته يبتسم لرفيقته)

الأدب الثوري، يعلم الناس القيم الشريفة، قيم تخدم الناس، أمثولات في خدمة الوطن والشعب. لا أدب يخدم الغايات الدنيئة للأفراد، " أضرب ضربتك " اللي ضرب ضرب، واللي هرب هرب " عبر وحكم سخيفة تمجد الانتهازية، والخيانة والسفالة والرشوة والفساد وخيانة الشعب.

إن في قراءة التاريخ بوصفه علم، لا حكايات ومسليات، بل بوصه العلم المادي لفهم التاريخ، بهذه وحدها تتحول القراءات إلى خزين ثقافي علمي يرشد للمواقف السليمة، يعم كيف نفهم الحياة والتطور، وما معنى التراكمات، وتحولاتها، كيف تنضج مرحلة وتسقط أخرى، ولماذا ؟ ما هي المستحقات التاريخية ومت يحين أوانها .. عزيزي القارئ إن تعلمت هذه العبر تصبح وكأنك تعيش الحياة في كتاب مفتوح .. لا أسرار ولا غوامض ولا مفاجئات.
الأعمال التي أقدمها كهذا الكتاب مثلاً، فالمصادر في اللغة الألمانية وفيرة جداً، ولا سيما في الانترنيت، فأنا أقوم بتجميع بحوث، أترجم بعضها نصاً، وأخرى أستقي منها، وفي الأخير أرتبها وفق سياقات القراءة المفيدة، وهناك سلسلة كتب رائعة جداً أسمها التاريخ المصور، كتب مختصرة مفيدة مدونة بشكل علمي موثوق لأن الكتاب كلهم أساتذة في أكاديمية العلوم الألمانية والسلسلة المتوفرة عندي 54 عدد، هناك بعض الأعداد تنقصني، أبحث عنها في الانترنيت لدى هواة الكتب. نحو 10ـ 15 منها كلما أنظر إليها أتأسف ملئ روحي لأنها بعيدة عن متناول القارئ العربي، وسأحاول أن أترجمها بقدر ما يسمح الوقت والصحة.

أريد أن أقول أبضاً: إن مفردات النضالات الثورية قد تكون مفيدة ولكن دراسة العبر السياسية والنضالية هي ما يتبغي التركيز عليها. والواقع التشابه في جوهر مسألة المقاومة هو واحد تقريباً في كل البلدان، لخصها الكاتب الفرنسي هنري آمور " المقاومة الفرنسية : مقاومون أبطال وخونة متعاونون" نعم في كافة البلدان التي أطلعنا على تجاربها، هناك وطنيون تدفعهم غيرتهم للمقاومة، وهناك خونة يلهثون وراء أمتيازات لا يستحقونها في الواقع، وهناك من يخون لأنه منحط يريد من يحترمه ولو كذباً، المحتل لا يحترم المتعاونيين نعم ..  يقبل تعاونهم مقابل شيئ، ولكنه لا يحترمهم.

إقامة التحالفات الوطنية مسألة مهمة،  ينبغي إقامتها والسعي نحوها بلا كلل أو ملل، والطرف القوي هو من ينبغي أن يضحي من أجل إقناع قوى صغيرة، ينبغي التراجع من أجل إحراز تقدم، هذه ليست تكتكات في سوق السياسية، بل هي أن لا تترك قوة لا تعبأها سواء من أجل تحرير الوطن، أو بناؤه وإعماره، والإعمار أصعب من الثورة، لأنك ستكون على تماس مع قوى خارجية هي خارج إرادتك. في الإعمار ينبغي أن تستوعب السياسة بفروعها، والاقتصاد بفروعه، والاجتماع بفروعه .. فما أشق هذه المهام، وما أسهل من يثرثر مجاناً على قاعدة الجهل نور ..!

الثلاثمائة أسبارطي الذين ماتوا دفاعاً يكتب اليوم في موقع بطولتهم ..
" أيها المار من هنا .... عندما تذهب إلى اسبرطة، أعلن هناك: أنك رأيتنا راقدين هنا ... كما يأمرنا به القانون ......."  .

يسرني غاية السرور من يطلب مني كتبي المنشورة وبحوثي ودراساتي السياسية، فالهدف الأول والأخير هو خدمة الثقافة العربية، وهو ما أعمل له بكل قواي دون كلل أو ملل، ودون مرابح شخصية

ضرغام الدباغ

برلين ــ أيلول / 2017


  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1573 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع