لَطيف عَبد سالم
مرافئٌ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي
( الحلقة الثانية )
(( يقولُ أدونيس إنَّ الشعرَ ليس مجردَ تعبيرٍ عَن الانفعالاتِ وَحدها، إنَّمَا هو رؤية متكاملة للإنسانِ وَالعالم وَالأشياء، وَكل شاعرٍ كبير هو مفكرٌ كبير. ولا أخفي سراً أَنَّ تمعّني فِي الرؤيةِ المذكورة آنفاً، كان مِن بين أهمِ الاسباب الموضوعية التي حفزتني للخوضِ فِي غمارٍ - مَا أتيح لي - مِنْ تجربةِ الشاعر الكبير يحيى السماوي بأبعادِها الإنسانية، بعد أنْ تيقنتُ مِنْ سموِ منجزه الشعري المغمس بثراءٍ فكري، فلا غرابة فِي أنْ يكون للإنسانِ وَالحبِ والجمال حضورٌ وجدانيٌّ في مَا تباين مِنْ أجناسِ نصوصِه الشعرية )).
السماوةُ - لِمَنْ لا يعرفها، أو مَنْ تقتصر معرفته بِتاريخِها عَلَى وجودِ صرحاً أثرياً ألا وهو جامعِ السماوة الكبير الَّذِي شيد فِي عام ١٨٩٦ م - مدينةٌ عراقية حالمةٌ قدر لَهَا أنْ تغفوَ منذ أمد بعيد عَلَى نهرِ الفرات، وَالَّذِي نَسَبَ إليه أهلُ العراقُ القدماء مِن السومريين والبابليين صفة القداسة، بالإضافةِ إلى كونه أحد أهم الأنهار الَّتِي ذَكَرَتهَا الأديان، وَتحدثت عَنْها كتب التأريخ. وَغَنِيٌّ عَنِ البَيَانِ أَنَّ نهرَ الفرات - الَّذِي يغذي مَعَ توأمه دجلة رقعة جغرافية نشأت عليها اقدم حضارة فِي التأريخِ الإنسانيّ - ارتبط بعلاقة وجدانية مَعَ الأهالي فِي الحواضرِ الَّتِي أُقيمت عَلَى ضفافِه، وَترامت أطراف مناطقها ومحلاتها عميقاً عَلَى أديمِ أرضٍ يشار إليها فِيمَا مضى باسْمِ بلادِ مَا بَيْنَ النهرين، فلا غرابة أنْ يكون الفراتُ رمزاً لوطنِ السماويّ الَّذِي لا يكف عَنْ مناجاتِه مِنْ أبعدِ أصقاعِ الأرض وهو يذرفُ الدموع متألماً باكياً.
داويـتُ جُـرحـي ـ والـزّمانُ طـبـيـبُ
بـالـصّـبــرِ أطـحـنُ صـخـرَهُ وأذِيـبُ
لا أدّعـي جَـلَـداً .. ولـكـنْ لـلـهــوى
حُـكْـمٌ يُـطـاعُ بـشـرْعِـهِ الـمـحـبـوبُ
أسْــلـمْــتُـهُ أمـري ... وأعْـلـمُ أنـنـي
حَـطـبٌ ... وأمّـا دربُـهُ فـلـهــيــبُ
طـاوَعْـتُـهُ رُغْــمــاً عـلـيَّ ... لأنـهُ
كُـلّـي : صِــبـاً وفـتـوَّةٌ ومَــشِــيـبُ
جَـرَّبْـتُ أنْ لا أسْـتـجـيـبَ فـعـابَـنـي
شَـرَفي وهـدَّدَ بالـخِـصـامِ نـســيـبُ
هو من غصوني طيـنُهـا وجذورُهـا
هـل للغـصونِ من الـجـذورِ هُـروبُ ؟
حـيـناً يُـنيـبُ ضُحايَ عن ديـجـورِهِ
قـسْـراً وحـيـنـاً عن ضُـحـاهُ أنـوبُ
ورأيـتُ أنّ الأصـغـريـن تـعـاضـدا
ضِـدّي وشــدَّ إلى الـبـعـيـدِ قـريـبُ
كُـتِـبَ الـوفـاءُ عـلـيَّ دون إرادتـي
فـالـلـوحُ قـبـل ولادتـي مـكـتـوبُ
أجـفـو نـعـيـمَ الـمـارقـيـن وإنْ سعى
ليْ مـنهُ صـحـنٌ بالـرحـيـقِ خضيبُ
ثلثـــا دمي مـــــاءُ الفراتِ وثلثـهُ
طينٌ بدمــــــعِ العاشقينٓ مٓذوبُ
عَلَى الرغمِ مِنْ شدةِ معاناة أبناءُ مدينته كبقيةِ مناطق العراق الأخرى؛ بفعلِ انتهاجِ أغلب الحكوماتِ المتعاقبة سياسة الإهمال وَالتجويع وَالترهيب، وَغيرها مِن التداعياتِ الَّتِي ترتبت عَلَى تصاعدِ وتيرة التناحر السياسي، الَّذِي عاشته البلاد فٍي مراحلٍ لا يمكن للذاكرةِ الوطنية نسيان جمرِ سنواتها وَعذابات لياليها، إلا إنَّ السماويَ يرى أَنَّ شمسَ المحبةَ ستجعلُ مرايا الغد صافية كما ينبغي أن تكون، والأفق الَّذِي ملأه دخان الحرائق، سيغدو يوماً مطرّزاً بألفِ قوس قزح.
الطوفان
قادم لا محالة
ولكن
يا سجين قلبي المحكومَ بمحبتي المؤبَّدةِ
لا شجرَ فِي الوادي
فكيف يصنع (نوح) السفينة؟.
أهلُ السماوة مِنْ وجهةِ نظرِ السماوي بمثابةِ ملائكةٍ أرضيين (باستثناءِ شيطاناً أرضياً خان الأمانة والصداقة ومكارم الأخلاق)، إلا أنَّ مَا خفف عنه آثار فجيعته هو أيمانه بأَنَّ الثراءَ الحقيقي فِي محبة الطيبين؛ فالسماوي بالاستنادِ إلى مَا اطلعت عليه مِنْ إجاباتٍ عَلَى مواساةِ أصدقائه القدامى له، يحمد الله تبارك وَتعالى؛ لأَنَّه خسرَ مالاً وَمُلكاً، ولَمْ يخسرُ مَاء جبينه، فضلاً عَنْ حمدِه وَشكره الله عز وَجل؛ لأَنَّه كان الجرح وَليسَ الخنجر. وَضمن هَذَا الإطار تعود بي الذاكرة إلى أحدِ أيام شهر تشرين الأول مِنْ عام 2011م، حيث أسرني السماوي آنذاك، أَنَّه حين صعد سفح جبل عرفات قبل نحو عشرين سنة، تضرع لله وَعيناه ممطرتان قائلاً بتهدجٍ: يَا ذا الجلال اجعلني جرحاً لا سكيناً، إلى جانبِ دعائه الأثير وهو يسعى مَا بَيْنَ الصفا والمروة: اللهم اجعلني مظلوماً لا ظالما واخزِ ظالمي، ظاناً أَنَّ الله قد استجاب لدعائِه، فسلّط عليه ذلك الصديق.
هـا نـحـنُ فـي وادي الـسّـمـاوةِ
فـاخـلـعـي الـخـوفَ الـقـديـمَ
الـنـاسُ ـ كـلُّ الـنـاسِ باسـتـثـنـاءِ نـذلٍ واحِـدٍ ـ أهـلـي
وكـلُّ بـيـوتِـهـا بـيـتـي ..
اطـرقـي مـا شِـئـتِ مـن أبـوابـهـا :
تـجـدي الـرّغـيـفَ ..
الـظِـلَّ ..
والـمـاءَ الـقـراحَ ..
ومـا يُـسِـرُّكِ مـن كـلامْ
السماوةُ - عَلَى الرغمِ مِنْ افتقارِها إلى أغلبِ متطلباتِ الحياةِ العصرية - هي المدينة الأحب إلى نفسِه؛ فمهما تجملت عواصم الدنيا وتحضرت مدنها، مَا تَزال مدينة السماوة بعينِه صبية غضة الصبا طرية العود، وَلا منافس لها فِي قلبه وَذاكرته المتعبة.
كل أرصفة الغرب
لا تغوي قدمي على التسكع
وحدها أزقة ودرابين السماوة
تقود قدمي
كما يقود الراعي القطيع
حمامةُ قلبي لا تحلم
بغيرِ نخلتها الفراتيَّةِ الحفيف
أكثيرٌ عَلَى المُتسكِّعِ
أنْ يحلمَ
بأرصفةٍ آمنة؟
لا مفاجأةٌ فِي القولِ إنّ رحلةَ السماوي - وهو يتنقل مَا بَيْنَ معسكرات اللجوء والمنافي - كانت غنيةٌ بالألم؛ فأيامها قاسية وَساعاتها مريرة، وَلعلَّ مَا حملته بعض قصائده مِنْ همٍ وشجن خير مصداق عَلَى مَا تقدم ذكره.
مُــشـَـرَّدٌ وهـمـومُ الـنـخـلِ أمْـتِـعَــتــي
حَـمَـلــتـُها .. وجـراحـاتي مَـحَـطـاتـي
هُــويَّــتي ؟ غَـجَــريٌّ لا بـــلادَ لـــهُ
إلآ ظِـــلالُ بـــلادٍ فــي الـهُــوِيّـــــاتِ
خطـيئةُ العصــر فـي وجهي مُكـَثـَّفـةٌ:
أنـا ابـنُ دجلةَ.. لكنْ : في السِـجـِلّاتِ
عـشـقـتُ دجـلـةَ حتى كـدتُ ألـعَـنـُهـا
وألعـنُ الـوطـنَ الـمـخـبـوءَ في ذاتـي
نَـخَـلـتُ أسْـطــرَ قامـوسي لـعـلَّ بـهـا
مـا قـدْ يُـزيــنُ بـأفــراحٍ عــبــاراتــي
وجدتُ لـفظَ (عـراقٍ) في صحـائـفِـهِ
كما الـفـرات.. ولكـنْ : دون (راءاتِ)
المذهلُ فِي الأمرِ أَنَّ ابنَ مدينة النخيل، وَعلَى الرغمِ مِمَا عاشهُ مِنْ شدةِ الأحزان، لَمْ تظهر عَليه علامات الإحباط أو الشعور بفقدانِ الأمل؛ إذ بقي متسلحاً بالإرادةِ وقوة الشكيمة فِي مواجهةِ تحديات الحياة، والشاق مِنْ متاعبِها، فضلاً عَمَا تخللها مِنْ أوقاتٍ عصيبة مليئة بالصعوباتِ ورُبَّما الَّذِي لا يحتمل مِن العواصف، مدفوعاً بحبِ وطنه، ومستوعباً لأهميةِ دور الأدب فِي استنهاضِ همم بُناة البلاد، وَتحفيز حماس الشباب وَاندفاعاتهم. ولأنَّه مدركاً لدلالاتِ وطنه الحضارية والثقافية والتاريخية، فَمِنْ المحالِ أنْ يمحوَ مِنْ ذاكرتِه صورة وطنه، فإشاراتِه - فِي بوحِه - إلى الأمِ أو النخلة أو القديم مِنْ معالمِ مدينته - البيئة والعادات والتقاليد - أو غيرها، تُشكل فِي واقعِها المَوْضُوعِيّ أيقونات مَشْروع وَطَنِيّ وإنسانيّ متكامل، جهدَ فِي صياغةِ مساراته عَلَى رؤى شاملة، القصد منها الوطن وَإنسانه المبتلى بالهمومِ والمظالم.
ولا جزعـتُ لأنَّ الدربَ شـائـكـةٌ
إنَّ الـثـوابَ على قـدر المشـقـّاتِ
1063 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع