ماهي الحكاية التي ظلت غائبة في حياة ناظم السعود؟

                                                         

                                    زيد الحلي

         

           ماهي الحكاية  التي ظلت غائبة في حياة  ناظم السعود؟

                   

غاب عن المشهد الثقافي ، الاسبوع الماضي ، احد ابرز وجوه الصحافة الثقافية في العراق ، بعد صراع مرير مع المرض وسط صمت حكومي ، رغم المناشدات و ( التوسلات ) لانتشال غول المرض والفاقة والتجاهل،لكن اصوات المناشدة لم تنفع ،فغيّب الموت" ناظم السعود" .. وبموته ودعنا صوتاً ، بحّت اوتاره من نداء العون .. رحمك الله ناظم ، لقد سبقتنا الى دنيا الخلود ، حيث الرحمة الالهية..
ان حياة ناظم السعود ، تصلح فكرة لعمل درامي ، يؤشر عصامية قلّ نظيرها .. شاب عشريني ، من طبقة معدمة ، يغادر وطنه حاملاً معه شهادته الثانوية المصدقة  وما أدخرته عائلته من مال بسيط ، متوجها الى النمسا ، حيث غنت أسمهان ( ليالي الأنس في فينا ) ملتحقا بجامعتها الشهيرة لدراسة " الأدب الألماني " ويكمل سنته الأولى بنجاح  ، لكنه يفشل في الحصول على معين مالي لاستكمال دراسته  ، فيعود خائباً الى بلده تملؤه الحسرة ، فالعوز المادي كان غولا لم يستطع مجاراته ، وبعد مدة من الزمن يعاود النمر الذي بداخله الصراخ ، مناديا  بمعاودة الكرّة  للدراسة خارج العراق ، وأين ، هذه المرة ؟ الى القاهرة بعد ان جمع له الأهل والخلان مبلغاً  من المال توقع ان يكون كافيا لدراسته في مصر ... هدفه الأثير كان الحصول على شهادة عالية من خارج الوطن ، وفي المعهد الازهري ، بدأ اولى خطوات الدراسة ، وما هي إلاّ أشهر حتى يخبره اهله بضرورة العودة اليهم ، فلم يبق عندهم ما يبعثون اليه من مال شحيح .. ويعود  مرغما ، لكن الأمل بإكمال دراسته الجامعية ظل يراوده ، فقرر التقديم الى جامعة عراقية ،  مبعداً عن نفسه طموحه الشخصي بالحصول على شهادة من جامعة عربية او أجنبية ، اليس الدراسة في الجامعات  العراقية ، مجانية وشهادتها محط اعجاب العالم ؟.. ويبدأ بتهيئة اوراقه وبضمنها اوليات دراسته في النمسا ومصر وشهادته الثانوية  ، وفي اثناء التقديم ، كانت الحرب العراقية ــ الايرانية قد بدأت لتوها ،  في ثمانينيات القرن المنصرم  ، ولأن عمره كان ضمن الأعمار المطلوبة للخدمة العسكرية ،   فقد سيق لأداء الخدمة الإلزامية ، وطالت الخدمة ثمان سنوات  ، ومعها توقف الزمن عنده ، وضاعت آماله في الدراسة ، وخبت طموحاته ، فشعر بالوهن النفسي وثقل المسؤولية العائلية ، فألتفت الى حبه المخبوء في دهاليز نفسه .. الأدب والصحافة التي كان مارسها لسنوات قليلة سابقة ، بخواطر ومقالات صغيرة وهوامش دللت على موهبة وذكاء ورهافة حس  تحت اسم ( أسعد العربي )  بدأها بحوار أجراه مع الدكتور علي جواد الطاهر ، نشرته مجلة " وعي العمال" لكن النشر كان " مبتوراً " ومشوهاً ، وغفلت المجلة نشر اسم الصحفي الناشئ ، وكان هذا الاغفال في صالحه .!
وتتداعى  الآن صورته امامي ، حين تعرفتُ عليه اول مرة ، في موقف غريب ، فما هو ؟
في بدايات التسعينيات ، انتهى تصوير فلم ( الملك غازي ) وبانتهائه ، هيأت دائرة السينما والمسرح عرضا فخماً حضره السفراء المعتمدون في العراق ونخبة من المثقفين والمهتمين بالسينما ، كنتُ حينها مشرفاً على الصفحة الأخيرة في جريدة " الثورة " فطلبتُ من إحدى الزميلات في الصفحة ( ... ) حضور العرض ، وكتابة مشاهدتها لأصدائه . وفي اليوم التالي جاءت  تلك الزميلة بموضوع جميل جداً ، في فحواه وطريقة كتابته وأسلوب عرضه ، وقبل ان أدفع به الى النشر ، أعتراني  فرح مهني كبير .. فأمامي صحفية كبيرة  لم أكن أنتبهتُ اليها ، وبسرعة ، ألوم نفسي عليها الآن  ، سارعتُ الى رئيس التحرير طه البصري ، رحمه الله ، وبيدي مذكرة  ، أطلب فيها توجيه كتاب شكر ومكافأة للزميلة المبدعة .. ونشرتُ الموضوع  ، لأكتشف ان كاتبه الحقيقي ليس الزميلة ( .. .) بل  هو احد مصححي الجريدة الجدد ، كانت المحررة  أصطحبته معها لمشاهدة ( الملك غازي ) فكتب لها الموضوع الذي أثار أنتباهي .. كان هذا المصحح ( ناظم السعود ) ... لم أعاتبه على كتابة الموضوع  ونشره باسم غيره ، لكني  سررتُ لهذه الموهبة ذات الأسلوبية الجميلة  في الكتابة ، وهذا عندي أهم من العتاب  .. فطلبتُ منه الاستمرار في رفد الجريدة بموضوعاته ، وقد فعل ..
وبدأت رحلة ( ناظم السعود ) في الصحافة ، كاتبا في صفحات ثقافية ، ناقداً ثقافياُ متمكناُ ، فالحرف عنده كان أقوى من الرصاص الذي شهد لعلعته في الخدمة العسكرية ، والرؤية النقدية أقوى من بارود المدافع وهاونات جبهة المعارك التي شارك فيها ... قلمه كان مرحباً به في الصحف والمجلات .
ودار دولاب الهواء بيّ ... ومع دورانه كنتُ اتابع نشاط " ناظم السعود " بمحبة ، وأتتبع أخباره من الأصدقاء ، حتى صُدمت يوماُ ان " السعود " ضاقت به الدنيا الى الحد الذي أمتهن فيه " الحراسة " في احد مقرات الاتحاد العام لشباب العراق في شارع  الكفاح ببغداد ، من اجل الحصول على غرفة في المقر المذكور تؤويه وعياله مجاناً ... ! يا لنكد الحظ الذي رافق " السعود" منذ بداية مشواره الحياتي ، حتى انتهى به الامر السكن في احدى ضواحي مدينة كربلاء ، بعد ان زحف اليه الشلل ، ثم تكررت عنده ( جلطات ) قلبه الواهن ، حتى تعب ... فودع الدنيا .. وأنني أسأل : كيف ارتبط به لقب "السعود" ، وهو لم يعثر يوماً على السعادة؟
وداعا ناظم .. لقد اديت ما عليك في دنيا لم تعرف الوفاء .. نم قرير العين .. فربما الموت راحة لك ..!
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

987 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع