بقلم: سالم إيليا
مكتبة المفهرست والمعجمي "كوركيس عوّاد" أمانة في أعناقكم
قرأتُ قبل سنة ونصف تقريباً خبراً مفاده إقتناء (شراء) مؤسسة دار التراث في النجف لمكتبة المفهرست والمعجمي الراحل الأستاذ "كوركيس عوّاد" الجالس في صَدرِ ديوان الخلود الأدبي في العراق، وحيثُ وصفها المدير العام لمؤسسة دار التراث الأستاذ علاء الأعسم "من أنها من أهم المكتبات المهمة والنادرة"، وبتوكيده الواضح بذكره لجملة "أهم المكتبات المهمة والنادرة"، يكون قد توّجها وبدون منازع للجلوس على عرش المكتبات المهمة والنادرة في العراق، وحيثُ وصَفَ صاحبها الموسوعي "كوركيس عوّاد" من أنه:
"من نخبة الشخصيات التراثية على مستوى العراق والعالم والذي كَتبَ عنه الكثيرون وأشادوا بعلميته وعِشقه لتراثِ العراقِ وتاريخه ويعد من اهم المفهرسين في العراق بلا منازع بعد ان حصر جلّ اهتمامه في هذا المجال"، وحيثُ يضيف الأستاذ الأعسم في تصريحه بوصفه لمحتويات هذه المكتبة النادرة والعملاقة قائلاً:
"تضمنت المكتبة عشرات الآلاف من الأوعية المعرفية المهمة والنادرة ما بين وثائق وحَجريات وكتب ومراسلات وصحف ودوريات، بالإضافة الى العديد من الوثائق المهمة والنفيسة ولعلّ من أهمها مراسلاته الشخصية مع العلماء والشخصيات المهمة على مستوى العالم وبمختلف الديانات والفرق والمذاهب واجوبتهم عليه"، ثمّ ينهي المدير العام وصفه لمحتوياتها بتصريح: "وقد تم بحمد الله تعالى ضمّها لمكتبة المؤسسة"!!!.
الرابط أدناه للخبر المنشور في 25 شباط/2016م والذي تناقلته معظم المواقع الألكترونية ووسائل الإعلام العراقية وتحت عنوان "دار التراث تقتني مكتبة كوركيس عوّاد ببغداد ضمن خطتها للحفاظ على الموروث الثقافي":
http://www.shafaaq.com/ar/Ar_NewsReader/d1549cc8-d8f4-4470-9397-979cec4d4b01
وسوف لن أتكلم عن الظرف الذي حدا بعائلته الى قرار التفريط بجهد ما يقارب السبعين عاماً لوالدهم في البحث والتقصي والتأليف وشراء النوادر من المخطوطات والكتب من أرجاء العراق وخارجه، إذ أنّ السبب يبدو لي وللجميع واضحاً وحيثُ أنهم جزء من العراقيين بمجمل طوائفهم الذين قرروا المغادرة نتيجة الظروف الغير طبيعية والإستثنائية، وهم من طائفة أُجْبِرت في معظمها بفعل الظروف إلى مغادرة العراق نتيجة القلق والخوف من العنف الذي طال الكثير من مواطنيها، خاصة في المناطق التي كانت تعتبر ساخنة وحيثُ إنتقلت العائلة عام 1984م من منطقة الكرادة إلى منطقة الدورة في بغداد.
إذ أخبرني الراحل الخالد الذكر المؤرخ "جورج البناء" من أنه والراحل الخالد الذكر "كوركيس عوّاد" كانا يجوبان المكتبات المهمة في لبنان وبقية الدول الأخرى خلال زياراتهما العائلية الموسمية لخارج العراق (ترتبط العائلتان بروابط صداقة قوية) بحثاً عن النوادر من المؤلفات لشرائها وشحنها إلى العراق لضمّها إلى مكتبتيهما، جاء ذلك من خلال اللقاء الصحفي الذي أجريته مع المؤرخ جورج البناء في مدينة سان دييغو الأمريكية/كاليفورنيا في اليوم الثاني من عيد الفصح الموافق السابع من نيسان سنة 2010م وقبل وفاته بسنوات قليلة حين سافرتُ اليه خصيصاً لإجراء ذلك اللقاء الذي لم أنشره بعد بإنتظار رد عائلته على بعض المعلومات التي طلبتها عنه بعد وفاته رحمه الله (كُنت قد كتبتُ قبل سنوات مضت مقالة مطوّلة بجزئين عن الراحل المؤرخ جورج البناء التي نشرتها الكثير من وسائل الإعلام المحلية والمهجرية، وحيثُ سَلطتُ الضوء فيها على الكثير من نشاطاته وتاريخه الأدبي ورحلاته السياحية وتقليده وسام رجل عام 2006 من قِبل عمدة مدينة سان دييغو الأمريكية مع منحه أربعة شهادات تقديرية أخرى).
فالذي أرجوه من القائمين على "مؤسسة دار التراث في النجف" تشكيل لجنة متخصصة نزيهة تتسم بالمهنية والحِرفية العالية لجرد مؤلفات المفهرست والمعجمي الخالد الذكر "كوركيس عوّاد" وتدوينها وتوثيقها والإعلان عنها في وسائل الإعلام، خاصة (المخطوطة) منها التي لم تُنشر ولم ترى النور بعد حفاظاً على حقوق مؤلفها ومنعاً للسرقات الأدبية وإكراماً لجهود مؤلفها الذي أفنى سنوات عمره منكبّاً على المصادر ومناهل العلم لتأليف جواهر الأدب والتراث العراقي، ولتوثيق ما وصل اليه فِكره وبحثه عن تراثنا الموغل في أعماق التاريخ وحِقبِهِ الزمنية.
كما أتمنى على القائمين على "مؤسسة دار التراث في النجف" أيضاً تخصيص قاعة تليق بمحتويات المكتبة وصاحبها وكل ما يتعلق به من مقتنياته الشخصية ووضع إسمه على باب القاعة (وردني بشكل مؤكد من أنّ مكتبته قد إحتوت حتى على لعبة النرد/الطاولي الخاصة به أيضاً)، وهذا أقل ما يمكن أن يُكَرِّم به أبناء النجف الأصلاء أصحاب العلم والأدب وأحد جهابذة العلم والمعرفة في العراق الذي أفنى حياته من أجل أن يترك لنا كنزاً ثميناً من المعلومات الموثقة والمُبوّبة والمُفهرسة بدقة متناهية، كما أنني على علمٍ أكيدٍ بما تحتويه مكتبته من نفائس المخطوطات والكتب التي ربما لا يوجد نسخٍ أخرى منها أو نسخ قليلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة ومنها النسخة الأصلية لمطبوع أول مسرحية أو رواية عراقية طُبِعت في مطبعة دير الآباء الدومنكيين الحجرية في الموصل سنة 1893م وهي "رواية لطيف وخوشابا" لمؤلفها (إستخرجها بتصرف عن الفرنسية) الأستاذ الراحل "نعوم فتح الله السحّار"، وحيثُ أنّ العلاّمة الراحل كوركيس عوّاد كان قد عرضها أمامي أثناء تشريفي بترحيبه لزيارتي له في مكتبته العظيمة في دار ولده البكر "سهيل" في منطقة الدورة في بغداد قبل وفاته بسنواتٍ قليلةٍ، إذ كنّا نتجاذب أطراف الحديث عن المقتنيات الأدبية النادرة فأفضيتُ لهُ بإمتلاكي للنسخة الأصلية للرواية المذكورة، فبادرني بالقول من أنه يمتلك نسخة منها أيضاً في نفس اللحظة التي أمتدت فيها يده الكريمة لتستلها من على أحد رفوف مكتبته الضخمة العامرة، وحيثُ ذكر لي حينها من أنه أصبح من المؤكد وجود ثلاث نسخ منها أو ربما أكثر بقليل إحداها بحوزته والأخرى بحوزتي من الأرث الأدبي لوالدي (أي بحوزة كاتب هذه السطور) والأخرى تمتلكها عائلة المرحوم مؤلف الرواية "نعوم فتح الله السحّار" الذي كان معلماً في مدرسة الآباء الدومنكيين حينها.
وربما من المفيد ذكر نبذة مختصرة عن الأستاذ المفهرست والمعجمي "كوركيس عوّاد" الذي لم يبخل من وقته على بلده وأجياله بالمشورة الأدبية والمساعدة العلمية والعطاء الأدبي الثر، وحيثُ ذكر لي ولده "باسل" وهو صديقي منذ ما يزيد على الأثنين والأربعين عاماً ورفيق دراستي الجامعية وخدمتي العسكرية بعد تخرجنا، والمقيم حالياً في الولايات المتحدة الأمريكية "من أنّ والده الجليل كان يؤجل أو حتى يلغي بعض الإلتزامات العائلية له بمجرد إتصال أحد المعنيين بالشأن الأدبي أو أحد طلبة الدراسات العليا لطلب المساعدة منه في أمرٍ ما له علاقة بالعلم والأدب"!!!، هكذا كانوا الأوائل من عظماء العراق المعطاء دائماً إنشاء الله.
وقد ذكر الباحث "كريم إينا" في بحثه الموسوم "المفكر الموسوعي كوركيس عواد" الذي نشره على موقع "قناة عشتار الفضائية" في الثاني عشر من آب سنة 2015م ما يلي:
"ولد كوركيس عواد في مدينة الموصل، يوم 9 تشرين الأول سنة 1908 وتلقى مبادئ العلم في بعض مدارسها. – واصل الدراسة في دار المعلمين الإبتدائية بغداد، وتخرج فيها عام 1926.- عمل في التعليم عشر سنوات (1926 – 1936).- في عام 1936، عين أميناً لمكتبة المتحف العراقي، وكان فيها من الكتب حينذاك 804 مجلدات فلما أحال نفسهُ إلى التقاعد سنة 1963، كانت محتويات تلك المكتبة، قد بلغت نحواً من 60000 ألف مجلد.- في سنة 1950، إجتاز دورة مكتبية في جامعة شيكاغو. – في أواخر عهده بالوظيفة، أنشئت في بغداد "الكلية الجامعة" التي أصبحت بعد ذلك "الجامعة المستنصرية". فعهد إليه رئيسها يوم ذاك أن يتولى إدارة مكتبتها التي كانت خالية من أيّ كتاب، فبدأ عملهُ بالكتاب ذي الرقم (1). فلمّا إعتزل إدارتها بعد تسع سنوات، كانت محتوياتها قد جاوزت 90000 مجلد. – أحبّ المطالعة، وأقبل على البحث والتأليف منذُ مطلع شبابه، وصار من أصدقاء الكتاب المخلصين لهُ، وإجتمعت لديه بتوالي السنين مكتبة ثمينة حافلة بأمّهات المصادر والمراجع. – نشر عدداً من المباحث، ما بين كتاب ورسالة ومقالة ونبذة، يتعلق بالتاريخ واللغة والحضارة والبلدان والتراث العربي. – في سنة 1948، أنتخب عضواً مُراسلاً في المجمع العلمي العراقي. – في سنة 1980، أنتخب عضواً مؤازراً في مجمع اللغة العربية الأردني. – وهو إلى ذلك، عضو مؤازر في المجمع العلمي الهندي في نيودلهي. – متزوج ولهُ إبنان وإبنتان"(*).
ثمّ يضيف الباحث "كريم إينا" في مقدمة بحثه عارضاً رأيه في المفهرست والموسوعي أستاذنا الجليل "كوركيس عوّاد" قائلاً: "وكوركيس عواد المؤلف التاريخي المبدع هو مثال الإنسان للخلود . . يحول اللحظة العابرة التي قد تضيع الى لحظة حية من الإبداع الملموس . . انه أداة من أدوات التغلب على الموت". كذلك يصف كاتب البحث الموسوعي "كوركيس عوّاد" في خاتمة بحثه بصَّنْوُ "إبن النديم"، إنتهى الإقتباس من البحث المقدم بواسطة الباحث القدير "كريم إينا"، ومن يرغب من القارئات والقرّاء الأكارم في الإطلاع عليه كاملاً فسيجده على الرابط أدناه:
http://www.ishtartv.com/viewarticle,62677.html
ومن الضروري أن أوثق بشكلٍ دقيق اليوم الذي غادرتنا فيه روح مؤرخنا الجليل الى دار الخلود الأبدي لعلمي بعدم إدراجه في بعض المصادر حين تتحدث عن سيرة حياته، فلقد أسلم الروح لخالقها في يوم الأحد المصادف التاسع عشر من تموز عام 1992م، هذا ما أخبرتني به عائلته مشكورة، ومن الصُدف أن يأتي نشر هذه المقالة أو (النداء) بعد إسبوعين تقريباً من ذكرى مرور ربع قرن على رحليه.
ومن خلال متابعتي المستمرة لكل ما يُكتب عن الموسوعي النجيب "كوركيس عوّاد" ومعرفتي به عن قربٍ كوالدٍ لصديقي "باسل"، أستطيع نعته بـ "قديس الأدب والتراث العراقي"، لما كان يحمله من خصال وأدب جم وهدوء مفرط ومصالحة مع النفس ومع الآخرين وكياسة إنسانية راقية ونفس طيبة ومتواضعة وروح فيّاضة بالمحبة للجميع وإهتمام وشغف وإيثار قلّ نظيرهُ لبلده وتراثه وتاريخه ولأهل بلده دون تخصص أو تفرقة.
وكلمتي الأخيرة أقولها لأبناء النجف الأصلاء وأدبائها من أنّ التاريخ سيسجل لهم حتماً وللقائمين على منافذها وصروحها الأدبية هذه الوقفة الجليلة والمبادرة الكريمة فيما لو إستجاب لندائنا هذا فرسان الأدب والمعرفة فيها، فمن غير المعقول أن يُكرَّم جهابذتنا في مهاجرهم من قبل الغرباء كما كُرِّم المؤرخ "جورج البنّاء" ولا يُذكر لهم أي ذكر أو تخليد لأسمائهم من خلال عطاءاتهم في بلدهم العراق!!!.
تحية إكبار وإجلال لكل أدبائنا وأعلامنا الذي أعطوا دون مقابل وتركوا لنا نتاجاتهم التي تنتظر مَنْ يقيّمها ويضعها في موضعها الصحيح وينشر مخطوطاتهم في زمنٍ أصبح النشر فيه أسهل من شرب قدح الماء وبطرق مختلفة بتطورها التقني والشكلي الجمالي.
وتحية إكبار وإجلال أخرى لكل من ينفض غُبار الزمن والإهمال عن مدوّنة أو مخطوطة أو أي عمل أدبي لأي من أدباء العراق ليحافظ عليه بإخراجه من دهاليز الإهمال والنسيان ليرى النور على يديه.
إنتباهة:
(*) ورد في مدونة المؤرخ الجليل أ.د. ابراهيم العلاف في البحث المقدم من قبله مشكوراً والموسوم "كوركيس عواد بصمة واضحة في جدار الثقافة العراقية المعاصرة" والمنشور في يوم الخميس ،20 مايو، 2010 :
من أنّ الموسوعي كوركيس عواد قد "ولد في ناحية القوش بمحافظة نينوى سنة 1908".
لكنه وحسب معلوماتي من والدي الأديب الراحل "يقين إيليا الأسود"، والمؤرخ الراحل "جورج البناء" الذي كانت تربطه مع المعجمي الراحل "كوركيس عوّاد" علاقة صداقة طويلة وعميقة ومتينة منذ الصغر، وكذلك بالعودة الى عائلة الأستاذ "كوركيس عواد" بخصوص مكان ولادة والدهم الجليل، وإستناداً الى ما ورد على لسان المؤرخ القدير "بهنام سليم حبابة" بهذا الخصوص خلال لقاء مراسل موقع "عينكاوا دوت كوم" به الأستاذ "سامر الياس سعيد"، مع العودة أيضاً الى الموقع الألكتروني للـ "المجمع العلمي العراقي" الذي كان المفهرست القدير "كوركيس عواد" عضواً فيه، تأكد بما لا يقبل الجدل من أنّ الأستاذ "كوركيس عواد" كان قد ولد في الموصل/المركز وعلى الأرجح في منطقة الميدان ثم إنتقلت عائلته الى منطقة الساعة، أي أن أصول عائلته "أباً عن جد" من داخل مدينة الموصل/المركز، ولربما هنالك التباس قد حصل بسبب خدمة الأستاذ "كوركيس عواد" كمعلم في مدرسة "القوش" الإبتدائية لمدة أربع سنوات بعد إنتقاله اليها من مدرسة "بعشيقة"، وعليه وجب التنويه مع تقديرنا العالي للجهد التوثيقي العظيم الذي يتبناه مؤرخنا الكبير أ.د. ابراهيم العلاف.
1176 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع